تركيا وأكرادها.. جدل التصعيد والحل

تركيا وأكرادها.. جدل التصعيد والحل - الكاتب: خورشيد دلي


 
 
بعد فترة من الهدوء النسبي والحديث عن خريطة طريق لحل القضية الكردية في تركيا، عاد التصعيد ليكون سيد الموقف بين تركيا وأكرادها، إذ باتت أخبار المواجهات بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني تحتل واجهة وسائل الإعلام التركية، واللافت في التصعيد الجاري هو اللهجة الندية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين نفذوا سلسلة عمليات نوعية وصلت مختلف مناطق تركيا.
 
في المقابل ثمة جدل متفاقم في الساحة التركية بشأن خيارات التعامل مع التصعيد الكردي، بين من يؤيد إجراء إصلاحات سياسية حقيقية تلامس جوهر المشكلة الكردية وبين من يسعى إلى تعميق النهج الأمني وصولا إلى اجتياح شمال العراق لتدمير قواعد الكردستاني هناك وإقامة منطقة أمنية للقضاء على النفوذ العسكري للحزب.
 
في الأصل، ثمة قضية نتجت عن سياسة الإنكار والإقصاء التي دشنها مصطفى كمال أتاتورك مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923عندما بنى دعائم جمهوريته (العلمانية) على إقصاء الهوية الدينية (الإسلام) والتعدد القومي (الكردي) من البنية السياسية العامة للبلاد، وصنفهما في مرتبة العدو الداخلي.
 
وانطلاقا من هذا الواقع  كان الإقصاء مصير كل من حاول تغيير هذه السياسة، على الأقل هذا ما جرى مع عدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان. وفي الأصل أيضا أن حزب العمال الكردستاني الذي تأسس عام 1979 ولجأ إلى إشهار العنف عام 1984 كان بسبب هذا الواقع الذي يفتقر إلى إمكانية الحراك السياسي السلمي، فكانت المسيرة دماءً ودموعا وتدميرا لآلاف القرى ومقتل أكثر من أربعين ألف شخص، فضلا عن ميزانيات هائلة تجاوزت حسب التقارير التركية 500 مليار دولار، مع أن مثل هذا الرقم كان كافيا لإحداث نهضة حقيقية شاملة في مناطق جنوب شرق تركيا التي تتسم بالفقر وتشكل تربة حقيقية للعنف حيث الأغلبية الكردية.
 
لعل المتغير في هذه المعادلة هو وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عقب فوزه في انتخابات عام 2002 ومن ثم نجاحاته المتتالية وصولا إلى سيطرته على الرئاسات الثلاث (البرلمان –الحكومة –الجمهورية) حيث شكل هذا المتغير عاملا مهما في إعادة النظر في الأسس التي بنيت عليها الجمهورية التركية، وفي هذا الإطار جاءت خطوات أردوغان الانفتاحية تجاه الأكراد، فزار مرارا مدينة ديار بكر معقل أكراد تركيا ومن هناك قال: "إن القضية الكردية في تركيا هي قضية الديمقراطية، وهي قضيتي، وسأحلها بالطرق السلمية".
 

"
شهدت تركيا مسيرة انفتاح على أكرادها, كما طرح حزب العمال الكردستاني سلسلة من الهدنات, ولكن رغم كل هذا المناخ الإيجابي من الجانبين فإن مسار الأمور اتجه نحو التصعيد بدلا من الانفراج 
"

وحقيقة شهدت تركيا مسيرة انفتاح على أكرادها تمثلت في رفع نظام الطوارئ المعمول به في مناطق الأكراد والسماح بالبث والتعلم باللغة الكردية وغيرهما من الخطوات التي شكلت أرضية لخريطة الطريق الكردية التي طرحها أردوغان قبل نحو عامين باسم الانفتاح الكردي قبل أن يتراجع عن التسمية لصالح "الانفتاح الديمقراطي" ومن ثم التراجع نهائيا عنها عبر حصر القضية في مشكلة مواطنين من أصل كردي وما تبقى إرهاب.


في المقابل، فإن حزب العمال الكردستاني الذي رفع في البداية شعارات ثورية تدعو إلى إقامة دولة كردية موحدة في المنطقة تراجع عن هذا الشعار بعد اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان عام 1998 وانتهج صيغة مرنة تقوم على تحقيق الهوية الثقافية والسياسية للأكراد في إطار تركيا موحدة، وعلى هذا الأساس طرح سلسلة من الهدنات على أمل أن تعترف به الدولة التركية، وطرح أوجلان نفسه من معتقله في إيمرالي كداعية سلام، وعلى قاعدة هذا المناخ الإيجابي شهدت تركيا حراكا سياسيا تجسد كرديا في المشاركة في الحياة العامة، حيث برز تيار سياسي سلمي تمثل في حزب المجتمع الديمقراطي الذي شارك في الانتخابات خلال الأعوام الماضية قبل أن تلجأ المحكمة الدستورية إلى حله ومنع معظم قادته من العمل السياسي، ليؤسس من تبقى حزبًا جديدًا باسم حزب السلام والديمقراطية نجح في إيصال 36 نائبا إلى البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة.
 
ولكن رغم كل هذا المناخ الإيجابي من الجانبين فإن مسار الأمور اتجه نحو التصعيد بدلا من الانفراج، والسؤال هو: لماذا؟ 
   
ثمة أسباب كثيرة يرى المتابعون أنها تقف وراء التصعيد، لعل أهمها:                                                                      1- تعثر خطة الطريق التي طرحها أردوغان واختفاؤها من المشهد التركي لصالح إصلاحات سياسية مررها حزب العدالة عبر الاستفتاء الذي جرى في سبتمبر/أيلول العام الماضي، وجد الأكراد أنها تهدف إلى تعزيز سيطرة حزب العدالة على مؤسسات البلاد دون أن تلمس مشكلتهم.
 
2- رفض السلطات التركية التعامل مع خريطة الطريق التي طرحها أوجلان، وهي خريطة تمحورت على الاعتراف بالقومية الكردية دستوريا وإقامة حكم محلي للأكراد.
 
 3-حظر حزب المجتمع الديمقراطي الكردي وشن حملة اعتقالات واسعة في  صفوف الناشطين الأكراد بما في ذلك رؤساء البلديات المنتخبين.
 
4- فشل المحادثات السرية التي أجرتها أجهزة الاستخبارات التركية  مع أوجلان في السجن في التوصل إلى صيغة للحل.
 
5- الرفض التركي القاطع لأي شكل من أشكال الحوار أو الاعتراف بحزب العمال الكردستاني في الوقت الذي يسأل الحزب إذا كانت تركيا جادة في الحل السلمي فلماذا لا تحاوره، وهو في أدبياته يستشهد بما جرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
             
هذه الأسباب، كانت كافية من وجهة نظر حزب العمال الكردستاني لاستئناف دورة العنف، فيما يرى الجانب التركي أن تصعيد الكردستاني له علاقة بالدعم الإسرائيلي، وفي الآونة الأخيرة بمحاولة إعادة النظام السوري لاستخدامه ورقة لاستنزاف تركيا بسبب مواقفها من الانتفاضة السورية.
 

"
ربما فجرت ثورات الربيع العربي الحلم الكردي من جديد (إقامة دولة)، ففي كردستان العراق ثمة حركة احتجاجية تبحث عن الحرية والتعددية، وفي سوريا يبحث الأكراد عن اعتراف دستوري بهويتهم، وفي إيران وتركيا يتطلعون إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي
"

ثمة حلم قديم جديد يراود الأكراد في إقامة دولة قومية لهم، وفي لحظات كثيرة يحسّ الكردي بأن هذا الحلم ليس ببعيد، ولكن على أرض الواقع سرعان ما يكتشف أن هذا الحلم مرتبط بشبكة المصالح والعلاقات الدولية وموازين القوى وليست العواطف والتطلعات فقط.

 
ربما فجرت ثورات الربيع العربي الحلم الكردي من جديد، ففي كردستان العراق ثمة حركة احتجاجية تبحث عن الحرية والتعددية بعيدا عن هيمنة الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، وفي سوريا يبحث الأكراد عن اعتراف دستوري بهويتهم، وفي إيران وتركيا يتطلعون إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي.
 
وجميعها تطلعات فرضتها خرائط التقسيم (سايكس بيكو) وما نتج عنها من حدود للدول وظروف سياسية. في المقابل ثمة إجماع للدول المذكورة على أن القضية الكردية تشكل قنبلة مؤقتة قابلة للانفجار في هذه اللحظة أو تلك، وعليه تتعاون فيما بينها للحد من الطموح الكردي القومي لأن تحقيقه يعني رسم خريطة جديدة للمنطقة. 

 
بالنسبة لتركيا تبدو المسألة أخطر مقارنة بالدول الأخرى، نظرا للجغرافية الهائلة التي يشغلها أكراد تركيا (قرابة 225 ألف كلم2 وأكثر من 15 مليون نسمة) وكذلك لطبيعة البرنامج القومي لحزب العمال الكردستاني الذي يتواصل مع أكراد الخارج، ولعل هذا ما يزيد المخاوف التركية من أن تؤدي ثورات الربيع إلى تفجر الربيع الكردي في تركيا دمًا غزيرًا في ظل القدرات العسكرية للحزب الكردستاني، حيث يرى البعض أن هذا هو السبب الحقيقي لتراجع بوصلة السياسة بين أنقرة وديار بكر وتحولها إلى هجوم على معاقل الكردستاني في جبال قنديل في استباق لما قد يحدث.
     
عملية عسكرية وعين على الحل
من الواضح، أنه لا ثقة بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني، فالحكومة ترى في الحزب تنظيما إرهابيا يهدف إلى تقسيم تركيا وإقامة دولة كردية في المنطقة. في المقابل يرى الحزب أن سياسة أردوغان الكردية لا تهدف إلى إيجاد حل سياسي للقضية الكردية بل تصفيته تنظيميا وعسكريا.
 
وأمام انعدام الثقة وغياب آليات الحل السلمي يقفز الحل العسكري إلى سدة المشهد حيث أعلنت تركيا مرارا عن نيتها القيام بعملية عسكرية ضد معاقل الكردستاني في شمال العراق.

دون شك، كي تكون هذه العملية ناجحة فإنها تبدو بحاجة إلى تعاون العديد من الأطراف المعنية، فماذا عن مواقفها؟
1- أكراد العراق: القيادة الكردية العراقية التي لها علاقات جيدة بتركيا أعلنت مرارا رفضها لمثل هذا الخيار، وهي بدلا من ذلك تطالب تركيا باعتماد الحل السياسي لحل مشكلتها الكردية وفي الوقت نفسه تطالب حزب العمال الكردستاني بترك السلاح والانخراط في الحل السياسي، وهي في العمق تخشى من تداعيات كارثية على أمن إقليم كردستان.
 
2- إيران: على الرغم من التعاون الأمني مع تركيا لمكافحة التنظيمات المصنفة إرهابية من قبل البلدين، والحرب التي تشنها طهران على الفرع الإيراني من حزب العمال الكردستاني (بيجاك) فإن إيران لا تبدو مشجعة لعملية عسكرية تركية في شمال العراق لأسباب تتعلق بسياستها العراقية والتنافس الإقليمي على المنطقة.
 
3- الولايات المتحدة: ثمة تعاون استخباري وثيق بين أنقرة وواشنطن ضد الحزب الكردستاني ولاسيما في مجال المعلومات والصور التي تقدمها طائرات الاستطلاع الأميركية للجانب التركي خلال غاراته على مواقع الحزب، ويبدو أن هذا التعاون بات أمام مرحلة جديدة بعد موافقة واشنطن على بيع أنقرة طائرات من دون طيار إثر تجميد تركيا لصفقات الأسلحة مع إسرائيل.
 

"
مشكلة الحل السلمي تتخلص في قضية جوهرية هي غياب رؤية واضحة وإرادة حقيقة للحل، فتركيا تتحدث عن انفتاح دون أن تقترب من حقيقة المشكلة، أو أن تحدد من ستحاور
"

مع التأكيد على أهمية هذه العملية تركيًّا بغض النظر عن مواقف الأطراف المذكورة، فإن ثمة اقتناعًا دفينًا مفاده أنها لن تؤدي إلى حل للمشكلة ولا إلى القضاء على الحزب المذكور بسبب طبيعة المنطقة الجبلية وقدرة عناصر الكردستاني على الاختباء والانتشار. والمشكلة في الأساس كما أشار أردوغان نفسه مرارا هي في الداخل التركي وليست متوقفة على المقاتلين الموجودين في المعاقل الجبلية.

 
في الواقع، يمكن القول إن مشكلة الحل السلمي تتخلص في قضية جوهرية هي غياب رؤية واضحة وإرادة حقيقة للحل، فتركيا تتحدث عن انفتاح دون أن تقترب من حقيقة المشكلة، أو أن تحدد من ستحاور، وهي تدرك في العمق أن لا محاور فعليا بين أكراد تركيا سوى حزب العمال.
 
في المقابل فإن الأخير لا يطرح مطالب محددة وواضحة، بل يمزج بين مطالب الاعتراف بالهوية الكردية وحق تقرير المصير، وهو مزج مقصود يثير الكثير من الحساسية التركية.
 
تخبرنا التجربة التاريخية أنه لا شيء يدفع بالكردي إلى النزول من الجبل وترك السلاح دون سبب، معادلة ربما تبحث عن جرأة غير مسبوقة من زعيم تركي قوي بحجم أردوغان في اتخاذ قرار تاريخي بحل سلمي لهذه المشكلة، حل يحقق الهوية للأكراد والاستقرار لتركيا. لقد اكتوى الأتراك والأكراد بنار العنف الدموي خلال العقود الماضية وبات لسان حال الجميع يقول: أما حان الوقت لوضع حد لهذا الفصل الدموي من تاريخ البلاد؟ إنه التحدي القادم في وجه تركيا أردوغان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.