ملاحظات سريعة حول وضع متسارع

ملاحظات سريعة حول وضع متسرع - طارق الكحلاوي



الوضع العام مع تطورات 17 يناير
آفاق الوضع السياسي

الوضع العام مع تطورات 17 يناير
1- اعتماد السلطة الحالية نظريا على الفصل 57 من الدستور في العملية الانتقالية يعني نظريا وباقتضاب ما يلي:
– أن رئيس الجمهورية المؤقت (المبزع) يجب أن يخلي مكانه في ظرف أدناه 45 يوما وأقصاه 60 يوما، وأن الانتخابات الوحيدة الممكنة في أفق 60 يوما هي الانتخابات الرئاسية.

– وفقا للفصل 66 من المجلة الانتخابية فإن شروط الترشح لموقع رئاسة الجمهورية تستوجب تزكية ما لا يقل عن 30 نائبا في مجلس النواب أو رؤساء المجالس البلدية، وهذا يعني أن الكتلة الوحيدة في مجلس النواب أو مجالس البلديات التي لديها 30 شخصا هي "التجمع الدستوري الديمقراطي". ولا يمكن لرئيس الجمهورية المؤقت أن ينقح الدستور حسب الفصل 66، لكن لا يبدو أن هناك مانعا في الأثناء أن يتم تنقيح المجلة الانتخابية، بما في ذلك تقليص شرط التزكية من 30 شخصا إلى الأدنى واحد فقط، أو حتى إلغاء هذا الشرط جملة وتفصيلا.

2- الاستتباعات السياسية لهذا الأساس القانوني الدستوري النظري للعملية الانتقالية تتمثل في الآتي: نظريا وليس واقعيا بالضرورة، الصراع السياسي الانتخابي الوحيد القادم هو حول موقع الرئاسة وليس الانتخابات التشريعية، بما يعني بشكل آلي ترسيخ النظام الرئاسي بمعزل عن هوية الرابح في الانتخابات.

"
ما يتم الآن يعكس في أحسن الأحوال اجتهادا وفي أسوئها توظيفا للدستور وليس تقيدا به, وهذا أمر طبيعي إزاء الطريقة التي انتهت بها السلطة والتي كانت تضافرا بين انتفاضة شعبية وتمرد غير معلن من قبل الجيش
"

من الناحية العددية والدستورية المحضة فإن "التجمع" يملك معظم الأوراق التي تجعله يقرر هوية المرشحين لموقع الرئاسة، إذ يستطيع حتى بعد أن يتم تنقيح المجلة الانتخابية وخفض عدد المزكين إلى واحد، مثلا أن يبتز أي طرف سياسي من غير الممثلين في مجلس النواب سواء المعترف بهم ("الحزب الديمقراطي التقدمي" أو "التكتل من أجل العمل والحريات") أو خاصة غير المعترف بهم من مختلف الحساسيات التي تسعى للحصول على تأشيرة للعمل السياسي لكي يزكي مرشحهم سواء كان حزبيا أو ائتلافيا.

3- هذا الأساس النظري لا يعني بالضرورة تقيد السلطة به، إذ سبق لها خلال الأيام القليلة الماضية خرقه في سياق تفاعلها مع التطورات السياسية، فقد قامت بخروقات أولية في الدستور وكان تراجعها (من الفصل 56 إلى 57) اعترافا بذلك. هذه الخروقات وهذا الغموض تواصلا حتى في تطبيق الفصل 57، إذ إن بن علي المخلوع لم يقدم استقالته ولم يتوفّ و لم يعجز تماما عن أداء مهامه، وبالتالي لا يمكن نظريا أن يتم تطبيق الفصل 57.

هذه الخروقات يبدو أنها ستتواصل إذ يبدو أن هناك رغبة -حسب بعض الأنباء- في اعتماد مرحلة انتقالية تصل إلى ستة أشهر، بما يعني عدم التقيد بنقطة الستين يوما كحد أقصى. كما أن الغنوشي في ندوته الصحفية لم يحدد صفة "الانتخابات الحرة" التي سيتم إجراؤها إن كانت رئاسية فقط أم تشريعية أيضا.

بمعنى آخر، ما يتم الآن يعكس في أحسن الأحوال "اجتهادا" وفي أسوئها "توظيفا" للدستور وليس تقيدا به، وهذا أمر طبيعي إزاء الطريقة التي انتهت بها السلطة والتي كانت تضافرا بين انتفاضة شعبية قدمت الشهداء وتمردا غير معلن من قبل الجيش عبر رفضه إطلاق النار على المتظاهرين ثم مساهمة قادته في الضغط على الطاغية الهارب للتخلي عن منصبه، ثم مواجهة فلول مليشياته فيما يشبه حرب المدن المحدودة.

وعليه فإنه لم يعد من الممكن أن يكون المرجع في هذه المرحلة الانتقالية هو الدستور الحالي، وذلك اقتداء بممارسات هذه السلطة نفسها، وإنما المرجع هو موازين القوى السياسية وصدقية أو سوء نوايا كل طرف.

4- ما تبقى من رموز "التجمع" (من يوصف منها "بالنظيفة") أبدت رغبة في الهيمنة على السلطة بمعزل عن مدى واقعية ذلك في السياق السياسي الراهن.

أهم المؤشرات على ذلك أن الحد الأقصى للتنازلات التي قرروا تقديمها في إطار تشكيل ما يسمى "حكومة الوحدة الوطنية" أو "المؤقتة" هي منح ثلاث وزارات غير سيادية إلى الأحزاب الثلاثة المعترف بها والتي توصف "بالجدية"، وبضع وزارات أخرى لشخصيات توصف "بالمستقلة"، لكن بعضها تم إدراج اسمه في قوائم المناشدة للطاغية الهارب (مثلا مفيدة التلاتلي)، في حين تمت الهيمنة على الوزارات السيادية أحيانا من قبل ذات الأشخاص الذين كانوا في حكومة بن علي المخلوع (مرجان في الخارجية، قريرة في الدفاع، فريعة في الداخلية).

هذه المحدودية الكبيرة في درجة الانفتاح وخاصة المحافظة على الوزارات السيادية، تشير على الأرجح إلى أن هذه الحكومة هي التي كان يراد تشكيلها بعد خطاب الرئيس المخلوع يوم 13 يناير/كانون الثاني الجاري. ومما يؤشر على ذلك أيضا، أن هذه الحكومة لم تنفتح تحديدا على الأحزاب القانونية الموصوفة "بالجدية" فقط، وإنما انفتحت أيضا على الأحزاب التي لم تقم حتى ذلك الوقت بتبني موقف الشارع، أي خلع الطاغية.

"
حاليا حزب التجمع الدستوري حزب مهجور بما أن جل مقراته عبر البلاد إما تم حرقها أو إخلاؤها، وأن جل مناضليه اختفوا عن الساحة في سياق تصاعد الانتفاضة
"

5- فريعة لم يبرز في ندوته الصحفية الأولى كتكنوقراط، بل كوزير سياسي يمارس الدعاية ("للتجمع") والتضليل (الضغط على المتظاهرين والتبرير للقمع والقتل بأنها "تجاوزات تحصل في أي مكان" ووعد المليشيات الأمنية الإجرامية بالعفو عما سلف، دون إعطائنا أي تفاصيل حول ما حدث).

وبهذا المعنى فهو وزير غير "نظيف" من الناحية السياسية، بل يعكس رغبة في إعادة تسويق الحزب من زاوية إعطاء الدروس ومواصلة ذات الخطاب المتخشب الذي تم اعتماده خلال الانتفاضة، أي التركيز على "الخسائر المادية" وتهميش أرواح الناس.

فريعة حاضرنا بأنه يجب أن لا نقصي أحدا لننسى للحظة أنه كان ينتمي إلى سلطة كانت تمارس الإقصاء لعشرات السنين دون أن يعلن رفضه لذلك.. أريد أن أقول شيئا واحدا: الشعب التونسي نادى بالإقصاء.. كان الإقصاء مطلبه الأساسي.. إقصاء بن علي ونمط حكمه.. المشكلة هنا أن أعوان بن علي في حكومات سابقة لم يبقوا فقط وإنما سيطروا أيضا على الوزارات السيادية، أي أن الحكومة واقعيا وعقليا في أيديهم.

يضاف إلى ذلك تصريح الغنوشي و"توضيحه" اللاحق لقناة "فرانس 24" والذي يتحدث عن مكالمة جرت بينه وبين الطاغية الهارب. بمعزل عمن اتصل بالآخر ومبرر التحدث إلى الطاغية وتقديم عرض له عن الوضع، فإن الغنوشي دافع عن نفسه وتنصل من المسؤولية خلال وجوده في حكومات المخلوع بن علي بالادعاء بأنه كان مهتما بالاقتصاد فقط ولم يكن على علم بالإثراء الفاحش وغير القانوني (كأن ذلك ليس له علاقة بذاك)، مضيفا أن الكفاءات الوزارية هي التي حققت "المكاسب".. يجب أن نتوقع أن هذا هو خط الدفاع العام لأعوان بن علي من الوزراء في الأسابيع القادمة.

6-المفارقة الكبيرة مقابل هذا الاحتياطي القانوني الدستوري على مستوى الواقع السياسي، أن "التجمع" حاليا حزب مهجور تقريبا بما أن جل مقراته عبر البلاد إما تم حرقها أو إخلاؤها وأن جل "مناضليه" اختفوا عن الساحة في سياق تصاعد الانتفاضة.

هذا طبعا متزامن مع غضب يتصاعد بشكل يومي ومرشح للتفاقم والوصول حتى المطالبة بحله بعد سنوات من تحول هذا الحزب إلى هيكل مفرغ من أي روح سياسية ومجرد أداة دعاية وحشد تخضع وتخدم بشكل مطلق لإرادة الطاغية الهارب، بما يفسر طبيعة ردة الفعل عليه والتي لا تتصرف معه كحزب عادي بل كأحد متعلقات الرئيس المخلوع التي تركها ونسي إخطارها بالوضع الجديد.

يجب أن أسجل أن القناة الرسمية عرضت في نشرة أخبار الثامنة تقريرا عن المسيرات في العاصمة ضد "التجمع" واستجوبت متظاهرين وصورت الشعارات. توجه هذه القناة يبدو مضطربا بين الماضي ووضع مغاير أكثر شفافية.

7- من المثير للانتباه أن التناقص الكبير للإرهاب الذي ساد في الأيام الماضية من قبل الفلول الإجرامية "تصادف" مع إعلان الحكومة. إلى الآن يبدو مجمل الموضوع غامضا، خاصة بعد تجاهل فريعة تقديم أي تفاصيل حوله، رغم أن وكالة الأنباء الرسمية تعرضت لبعض التفاصيل قبل ذلك بيوم متهمة رأسا السرياطي بتدبير الأمر. والمواجهة مع "الأمن الرئاسي" في قصر قرطاج وفي ثكنتهم يبدو أنها زادت في تركيز الأنظار وحصر الموضوع في هذا الجهاز دون الأجهزة الأخرى. سنرى إلى أي حد هناك تهويل وتضليل في هذا الملف الخطير الذي تم خلاله قتل عدد من المواطنين في سياق دفاعهم عن أحيائهم.

"
القوى التي وجدت نفسها مهمشة في حكومة الغنوشي ستقوم برد فعل سياسي وليس احتجاجيا فحسب, لكن ليس من الواضح كيف سيكون شكل رد الفعل هذا، أو ما إذا ستكون متناسقة بين مختلف القوى
"

آفاق الوضع السياسي
1- الوضع السياسي العام يتجه في اتجاهين متقاطعين: الأول تراخ نسبي لرغبة الناس في الاحتجاج مقارنة بنقطة الذروة أي 14 يناير/كانون الثاني الجاري، ويأتي ذلك في سياق رغبة تبدو عامة في ضمان الاستقرار الأمني والاقتصادي بعد محاولة الإرهاب التي قامت بها فلول العصابة الإجرامية التي اخترقت مؤسسات الدولة الأمنية.

من جهة أخرى هناك اتجاه متصاعد متوقع خاصة بعد إعلان حكومة الغنوشي (المهيمن عليها من قبل "التجمع") والندوة الصحفية لفريعة (المستفزة) لرفض شعبي متزايد لمشاركة "التجمع" على الأقل بهذه الصفة إن لم يكون موجها ضد مشاركته أصلا في أي حكومة حتى لو كانت "مؤقتة".

2- مختلف الحساسيات والقوى التي وجدت نفسها مهمشة من حكومة الغنوشي ستقوم برد فعل سياسي وليس احتجاجيا فحسب. لكن ليس من الواضح كيف سيكون شكل رد الفعل هذا، أو ما إذا ستكون متناسقة بين مختلف القوى.

من غير الواضح بالنسبة لتحرك القوى التقليدية (المصنفة عموما أيدولوجيا أو على "شخصيات وطنية") التي ستبحث عن تأشيرة سياسية طالما انتظرتها إذا ما سيكون حراكها معزولا أم متناسقا مع تحركات أي قوى جديدة يمكن أن تنشأ في السياق الراهن.

ثم هل سنرى قوى جديدة تماما شكلا ومضمونا في هذا السياق.. هنا يأتي مقترح حركة 14 يناير/كانون الثاني أو تحالف مواطني يعكس روح 14 يناير/كانون الثاني بما يمكن من إنشاء هيكل سياسي يعكس الوضع الجديد ويتجاوز الخريطة السياسية القديمة.

هناك قطاعات واسعة من الشباب -خاصة العاطل عن العمل- الذي ساهم بشكل كبير في الانتفاضة، والحقوقيين من المحامين، والأطباء، والنقابيين سواء المستقلين أو المنتمين لأطراف، ترى نفسها على الهامش وربما في نفور مع القوى الموجودة وتسعى إلى إطار جديد يعكس لحظة الذروة التي رأيناها يوم 14 يناير/كانون الثاني.

هذا الإطار يمكن لو تشكل أن يمثل أكبر قوة سياسية في البلاد ودون أن يكون في قطيعة مع التنظيمات التقليدية. وهذه الأخيرة ستكون في موقع أفضل في تقديري لو كانت في سياق هذا التحالف الواسع وليس بعيدا عنه، خاصة إذا كانت المرحلة السياسية القادمة في أي انتخابات ومن أي نوع هي إنهاء سلطة التجمع كطريق ضروري نحو ترسيخ حياة ديمقراطية سليمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.