مصر.. الرئاسة المعلقة!

مصر.. الرئاسة المعلقة! - محمد القدوسي



رئيس الجمهورية هو السلطة التنفيذية، والجيش هو القوة الوحيدة القادرة على التغيير. هاتان الحقيقتان تمثلان أهم ركائز النظام المصري، بقدر ما تشكلان "عقدة" وجوهر الصراع الدائر على السلطة حاليا، بكل نواتجه وتجلياته.

أما مساعي توريث الرئاسة فتشبه حتى الآن محاولة إنضاج فطيرة من العجين المحشو باللحم النيئ: وهي معضلة خلاصتها أنك إما أن تكتفي بنضج العجين وتترك اللحم نيئا، وإما أن تصر على إنضاج اللحم، لكن العجين سيكون عندئذ قد احترق!

هذه المعضلة هي ما جعل الحزب الوطني "الحاكم" يؤجل مؤتمره العام إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية، آملا أن الانتخابات ستجعله أكثر قدرة على "إعلان" اسم مرشحه لرئاسة الجمهورية، وهو جمال مبارك حسب إرادة الجناح الذي أدار الانتخابات، وخرج منها بنصر كالطبل: عالي الصوت، وأجوف.

"
مساعي توريث الرئاسة في مصر تشبه محاولة إنضاج فطيرة من العجين المحشو باللحم النيئ, فإما أن تكتفي بنضج العجين وتترك اللحم نيئا، وإما أن تصر على إنضاج اللحم، لكن العجين سيكون عندئذ قد احترق!

"

فهو -بالأرقام- أغلبية كاسحة، وهو -بحكم القضاء- ثمرة عملية تزوير فاضحة تجعل الأغلبية معلقة على شعرة البطلان، التي يمكن أن يقطعها حكم قضائي واحد، صدر مثله من قبل، يقضي بأن البرلمان باطل، ليصبح كل ما بني على باطله باطلا أيضا.

اكتساح كالأصفر اللماع، لكنه ليس ذهبا. يصلح للزينة لكنه نقد زائف لا يشتري شيئا. ولهذا اضطر الجناح المكتسح إلى تأجيل قطف الثمرة، ووقف جمال مبارك في مؤتمر الحزب ليعلن بنفسه أن اسم مرشح الحزب للرئاسة لم يتحدد بعد، مشيرا إلى أن تسمية هذا المرشح ليست من مهام المؤتمر العام، ومؤكدا أن هناك مؤتمرا خاصا سيعقد لهذا الغرض، وهو كلام "صحيح" بمنطق اللائحة والنظام الداخلي للحزب، لكنه "غير دقيق" بمنطق الواقع الذي يؤكد أن ترشيح الرئيس حسني مبارك كان معلنا ومؤكدا في مؤتمر الحزب العام الذي سبق الانتخابات الرئاسية الماضية.

المسافة بين صحة كلام جمال مبارك وبين عدم دقته لا تعبر عن المسافة بين الأغلبية المعلنة والتزوير الحقيقي فحسب، بل تعبر قبل هذا عن التناقض المتمثل في كون جمال مبارك وريثا لحسني مبارك الإنسان، لكنه ليس وريثا لـ"شرعية القوات المسلحة" التي تحكم مصر، منذ ثورة يوليو/تموز 1952 وحتى اليوم.

تلك الشرعية التي أدعوكم للتأكد من هيمنتها عبر تذكر ما جرى للرئيس المصري الأول محمد نجيب بمجرد أنه طالب القوات المسلحة بالعودة إلى ثكناتها والتخلي عن مقاليد الحكم. ثم ما جرى للرئيس المصري الرابع صوفي أبو طالب، الذي لم يكن أكثر من رئيس بروتوكولي لمرحلة انتقالية قصيرة، حيث فرض عليه الدستور أن يتسمى بهذا المنصب بحكم كونه رئيسا لمجلس الشعب آنذاك.

ومع أنه كان نعم الرئيس البروتوكولي والانتقالي، فقد غادر المشهد السياسي إلى الأبد، لمجرد أنه جاء رئيسا من خارج شرعية القوات المسلحة، ولم يشفع له أنه لم يكن خارجا على هذه الشرعية، ولا أنه لم يتول المنصب باختياره.

منطقي إذًا أن يتلكأ الحزب الوطني وأن يتردد في إعلان جمال مبارك مرشحا للرئاسة، ومنطقي أيضا أن ترتفع مرة أخرى أسهم إعادة ترشيح الرئيس مبارك، وهو خيار تردد مؤخرا بكثرة تعبر عن جديته، لكنه تردد على لسان قيادات وسيطة مما يعني أنه ليس حاسما بعد، مع أنه الأرجح حتى الآن.

وفي تقرير عنوانه "دليل المراقب للخلافة في مصر" يقول ناثان براون أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن: "من المستحيل التنبؤ بدقة بمن سيخلف مبارك، ولا بمتى ستتم الخلافة، لكن المرجح أن العملية ستتبع القواعد الرسمية". التقرير صدر في 17 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي بعد انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، عن معهد كارنيجي للسلام الدولي الذي أطلق في عام 2002 مشروع كارنيجي للشرق الأوسط، ليكون من أهم أدوات الإدارة الأميركية للتدخل في شؤون المنطقة.

وفي التقرير يشير ناثان براون إلى حقيقة أن رئيس الجمهورية يمثل السلطة الحقيقية في مصر، حيث يقول إن: "انتقال السلطة يمثل تحديا كبيرا، إذ يملك شخص واحد سلطات كثيرة على نحو يجعل من الصعب التخطيط لأي بدائل". وهو كلام يعني أيضا أن السلطة التي مكنت الرئيس من إقصاء منافسيه، لم تمكنه بسبب مصدرها من تأمين انتقالها لابنه على نحو آمن.

في الجملة فإن تقرير ناثان براون لم يضف جديدا، لا على صعيد المعلومات، ولا على صعيد الموقف الأميركي المعلن، لكنه قدم عرضا أكثر وضوحا وإحكاما. وعلى سبيل المثال فإن رأيه في دكتاتورية النظام المصري قريب مما تبنته صحيفة وول ستريت جورنال حيث قالت في عددها الصادر بتاريخ: الثلاثاء 27 يوليو/تموز الماضي: "مبارك يحكم بقوانين الطوارئ، وقد خنق حياة البلد السياسية وقلص المشهد السياسي، بحيث أصبح المشهد مقسمًا بين دولة استبدادية على جانب، والإخوان المسلمين على الجانب الآخر، وبينهما الفراغ، ولم تستطع أية حركة معارضة الظهور".

"
وول ستريت جورنال:
مبارك يحكم بقوانين الطوارئ، وقد خنق حياة البلد السياسية وقلص المشهد السياسي، بحيث أصبح المشهد مقسمًا بين دولة استبدادية على جانب، والإخوان المسلمين على الجانب الآخر، وبينهما الفراغ
"

وعلى ذكر الإخوان المسلمين، فإن ناثان براون يشير في تقريره إلى أن ترشح أحد أعضاء الجماعة للرئاسة، أو ترشح شخص كالدكتور محمد البرادعي لن يكون دستوريا. وهو كلام صحيح في حدود النص الدستوري المعمول به، وبرغم هذا فإننا لا نستطيع إغفال وجود نشاط واسع لسياسيين يستبعدهم النص، لكنهم على الأرض يتحركون باعتبارهم مرشحين محتملين، ومنافسين لا شك فيهم على منصب الرئاسة، مما يؤكد أنهم مؤمنون بوجود فرصة ما لهم في المشاركة، وبأن النص الذي تم تعديله من قبل يمكن تعديله، أو ربما تجاوزه بالكامل، لتستمر حالة "المنازلة".

وقد علمنا التاريخ أن المنازلات خاصة الكبرى تصل إلى ذروة المواجهة، مهما كانت نتيجتها محسومة. كما علمنا أن الصراعات لا تسير بالضبط وفق إرادة أحد أطرافها، مهما كانت درجة ميل ميزان القوى لصالحه. وفي هذا السياق فإن جمعيات ومراكز حقوق الإنسان لا تدور كلها بالضبط في الفلك الذي كان يراد لها ألا تتجاوزه، ولا تكتفي بأن تكون ديكورا على مسرح مؤسسات المجتمع المدني، حيث تبدو أحيانا أكثر ارتباطا بالغرب، خاصة في مواسم الحاجة للدعم المادي والمساندة السياسية. 

وأحيانا تبدو أكثر ارتباطا بدورها المعلن في مواجهة النظام، مع أنها هي نفسها التي سمح النظام بإنشائها أملا في أن تكون جناحا لشرعية بديلة، يتمثل جناحها الآخر في القوات شبه العسكرية حسب التسمية الأكثر شيوعا في العالم، كقوات الأمن المركزي وفرق مكافحة الإرهاب.

لكن كلا الجناحين حتى الآن مهيض، أو قل إن كلا الجناحين قادر على ممارسة الرفرفة لا التحليق، بمعنى أنهما قادران على خدمة النظام في إطار المعطيات الحالية، لكنهما ليسا قادرين على تكوين شرعية بديلة تكفل الانتقال الآمن للسلطة من الرئيس إلى الوريث.

حيث تشير برقيات ويكيليكس إلى أن السفيرة الأميركية في القاهرة مارغريت سكوبي استقبلت في سبتمبر/أيلول 2008 محللا سياسيا مصريا في مقر السفارة، قال لها: المؤسسة العسكرية، التي يجب ألا ننسى أنها مركز السلطة في مصر حيث إن كل رؤساء مصر جاؤوا من المؤسسة العسكرية منذ إطاحة الملكية، لا تحب جمال مبارك.

ووصفت إحدى البرقيات جمال مبارك بأنه شخص لم يكمل خدمته العسكرية، ويهدد المصالح التي اكتسبتها المؤسسة العسكرية.

من هنا تأتي محاولة التوصل إلى صيغة توفيقية ذات واجهة مدنية وتأييد عسكري، وهي صيغة تدعم الديكتاتورية، وفي الوقت نفسه تحظى بمساندة واضحة من جانب الإدارة الأميركية، التي يأتي فك الارتباط بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية لصالحها، خاصة وهي تريد للجيش المصري أن يصبح جزءا من إستراتيجيتها العسكرية، وذلك طبقا لبرقية سربها موقع ويكيليكس، ونشرتها وكالة رويترز، يقول فيها مسؤولون دفاعيون أميركيون: "الجيش المصري متقادم وبحاجة إلى أن تتم إعادة تركيزه لمجابهة تهديدات متباينة مثل الإرهاب وتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة والقرصنة ودعم السياسة الأميركية تجاه إيران".

وجاء في برقية أخرى ترجع إلى 28 فبراير/شباط الماضي: "في حين أن العلاقات العسكرية الأميركية المصرية لا تزال قوية، يقاوم الجيش المصري جهودنا لتعديل تركيزه بما يعكس التهديدات الإقليمية والمرحلية الجديدة، لكن المسؤولين العسكريين المصريين قالوا إن التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة مختلفة عن تلك التي تواجه بلادهم".

وفي ظل أوضاع كهذه فإن الفصل بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، أو بين السلطة التنفيذية والقوة القادرة على التغيير، يعمل من دون شك لصالح أطماع واشنطن، غير الخافية في مصر وفي المنطقة، والتي يبدو أنها تريد الوصول إليها بوتيرة أسرع، خاصة بعد التقدم السهل والحيوي، الذي أحرزته السياسة الأميركية في السودان ومنابع النيل.

"
الفصل بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، أو بين السلطة التنفيذية والقوة القادرة على التغيير، يعمل من دون شك لصالح أطماع واشنطن، غير الخافية في مصر وفي المنطقة

"

أطماع تؤكدها برقية أخرى من برقيات ويكيليكس صادرة عن السفارة الأميركية في القاهرة، وحسب المنشور في مجلة نيوزويك فقد تضمنت البرقية أنه "على الرغم من خيبة الأمل الأميركية، فإن الولايات المتحدة تحتاج للتعاون مع الحكومة المصرية من أجل نشر قوتها في المنطقة، والحفاظ على وصولها لقناة السويس". وتضمنت البرقية أيضا أن: "الولايات المتحدة غير مستعدة لإضعاف إدارة مبارك إذا كان البديل هو نظام أقل ودية".

وهي عبارة ينبغي أن يقرأها النظام المصري بعين القلق لا بعين الطمأنينة، ذلك أنها تعني استعداد واشنطن لإضعاف إدارة مبارك إذا كان البديل نظاما أكثر ودية، فضلا عن أنها تصرح بقدرة واشنطن على إضعاف النظام المصري.

كذلك فإن ما يردده الإعلام الأميركي وربما المسؤولون أيضا من أن واشنطن لن تتدخل في اختيار رئيس مصر القادم هو إعلان حياد لا يكفي لطمأنة النظام المصري، ليس لأنه "مجرد كلام" فحسب، ولا لأن الإعلام الأميركي يعرب أيضا عن مواقف معاكسة، ويمتلئ هجوما على النظام المصري ومشروع التوريث، ولكن في المقام الأول لأن واشنطن اعتادت إعلان مواقف مشابهة، في الوقت الذي تكون متأهبة فيه للحركة في اتجاه آخر.

فهل ننسى طمأنة سفيرة الولايات المتحدة في العراق أبريل غلاسبي للرئيس العراقي الراحل صدام حسين في الاجتماع الشهير والأخير بينهما في بغداد، في 25 يوليو/تموز 1990، وهو الاجتماع الذي تسرب محضره ضمن وثائق ويكيليكس، وفيه قالت غلاسبي إن الإدارة الأميركية طلبت منها السعي لتعميق العلاقات مع العراق، وأشارت إلى أن الانتقادات التي توجهها الصحافة الأميركية للعراق لا تعكس موقف الإدارة.

كما ذكرت أن واشنطن تسأل عن نوايا العراق إزاء التوتر المتصاعد آنذاك بينه وبين الكويت "بروح الصداقة وليس المواجهة" مؤكدة أن أميركا "لم تتدخل في هذا الشأن العربي الخاص". وهو ما اعتبره صدام حسين إعلان حياد من جانب واشنطن، فهل يبتلع النظام المصري طعم "إعلان حياد" آخر؟ وهل تفلح واشنطن في استدراج "هبة النيل" بالطريقة نفسها التي استدرجت بها "بلاد الرافدين"؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.