حماية الكنائس واجب شرعي وعمل وطني

حماية الكنائس واجب شرعي وعمل وطني - أكرم كساب



وقعت أحداث كنيسة الإسكندرية على مصر وأهلها كالصاعقة، ونزلت بالمصريين جميعا مسلمين ونصارى حكومة وشعبا من حيث لم يحتسبوا، وما زالت أصابع الاتهام حتى الآن تصوب أكثر ما تصوب إلى "القاعدة"، وإن كان البعض يشير بأصابع الاتهام إلى دول أجنبية وأجهزة استخبارية ربما يعاونها بعض النصارى المأجورين ممن يطلق عليهم "أقباط المهجر" وممن لف لفهم وسلك طريقهم.

والحق الذي أدين الله به أن هذه الأصابع الخفيفة ليست بأصابع مصرية وإن ولدت على أرض مصر وشربت من نيلها، وليست بمسلمة وإن تزيت بزي المسلمين وتكلمت بلسانهم، فليسوا بمصريين ولا وطنيين، وليسوا بنصارى ولا مسلمين.

"
الأصابع الخفيفة ليست بأصابع مصرية وإن ولدت على أرض مصر وشربت من نيلها، وليست بمسلمة وإن تزيت بزي المسلمين وتكلمت بلسانهم، فليسوا بمصريين ولا وطنيين، وليسوا بنصارى ولا مسلمين

"

والقارئ لأحكام الإسلام يدرك جيدا أن هذه الأعمال الإجرامية تنافي روح التسامح التي جاء بها الإسلام، وتتناقض مع ما صرحت به آية الإسراء "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وقد أقر بهذا التسامح كتاب غير مسلمين منهم: ول ديورانت حيث يقول: لقد كان أهل الذمة -المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون- يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم. (قصة الحضارة/ ول ديورانت ج 13 ص 131).

وقريبا من هذا ما يذكره البطريرك أغنطيوس الرابع هزيم حيث يقول: لم يعان المسيحيون في بلاد الشام الكثير من تبدل الأوضاع في السنوات العشر التي عقبت الفتح. فلم يلجأ الفاتحون إلى الشدة ليفرضوا على المغلوبين معتقداتهم الإسلامية بل لبثت سوريا بلدًا مسيحيًّا فيها كنائس رائعة ذائعة الصيت على نحو كنيسة القيامة وكنيسة اللدّ والرّها، وحافظت على طابعها حتى نهاية الحقبة الأموية. وكان السواد الأعظم من سكان المدن مسيحيًّا.

وليس مستغربًا أن يشعر المسيحيون بالطمأنينة التي وُفِّرت لهم إلا في بعض الحالات، حيث تأثروا بأحداث محلية الطابع، ومن الوقائع التي تستحق الذكر بناء الخليفة معاوية كنيسة الرّها الكبرى على نفقته بعد أن دمرها الزلزال وإتاحته لابنه يزيد أن يختلط بالمسيحيين ويتردد على رهبانهم.

ويروي الأب لامنس، استنادًا إلى ابن قتيبة، قصة لا تخلو من الدلالة على علاقة معاوية بالمسيحيين. فعندما طعن في السن أصابه الأرق وكان يفيق كل ليلة على أجراس الكاتدرائية المجاورة لقصره فلم يشأ أن يسكتها بالشدة بل اعتمد الحيلة واكتفى بذلك رغم عدم نجاحه. ولم يعمل على تحويلها مسجدا ومثله فعل عبد الله بن مروان لاحقًا. (المسيحية عبر تاريخها في المشرق ص 482، 483 بتصرف).

وأما في مصر فقد أقر عدد من الأقباط بهذا التسامح، فهذا مكرم عبيد باشا يقول: نحن مسلمون وطنًا، ونصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا، واللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين. (صحيفة الوفد القاهرية عدد 21/ 1/1993م).

بل إن البابا شنودة نفسه قال كلامًا رائعًا جدًّا في هذا الأمر، إذ يقول عن حكم النصارى بالشريعة الإسلامية: إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أسعد حالا وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد. نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: "لهم ما لنا وعليهم وما علينا". إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مُفصلة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟ (الأهرام القاهرية عدد 6/3 / 1985م).

ومن أروع ما جاء به الإسلام حمايته لدور العبادة، حتى وإن كانت الدور غير المساجد، كالبيع والصلوات والكنائس، قال تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". (الحج: 39، 40).

"
شنودة:
مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مُفصلة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟
"

قال ابن القيم: قال الحسن: "يدفع عن مصليات أهل الذمة بالمؤمنين". وعلى هذا القول لا يحتاج إلى التقدير الذي قدره أصحاب القول الأول، وهذا ظاهر اللفظ، ولا إشكال فيه بوجه فإن الآية دلت على الواقع، لم تدل على كون الأمكنة غير المساجد محبوبة مرضيةَ له.

لكنه أخبر أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعض لهدمت هذه الأمكنة التي كانت محبوبة له قبل الإِسلام، وأقر منها ما أقر بعده وإن كانت مسخوطة له، كما أقرّ أهل الذمة، وإن كان يبغضهم ويمقتهم، ويدفع عنهم بالمسلمين مع بغضه لهم، وهكذا يدفع عن مواضع متعبداتهم بالمسلمين، وإن كان يبغضها، وهو سبحانه يدفع عن متعبداتهم التي أُقِروا عليها شرعًا وقدرًا: فهو يحب الدفع عنها وإن كان يبغضها كما يحب الدفع عن أربابها وإن كان يبغضهم.

وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، وهو مذهب ابن عباس في الآية.

قال ابن أبي حاتم في تفسيره: عن ابن عباس رضي اللّه عنهما "لهدمت صوامعُ وبيع" قال: الصوامع التي يكون فيها الرهبان، والبيع مساجد اليهود والصلوات كنائس النصارى، والمساجد مساجد المسلمين.

قال ابن أبي حاتم: عن أبي العالية قال: "لَهُدّمَتْ صَوَامع" قال: صوامع وإن كان يشرك به! وفي لفظ: إن اللّه يحب أن يذكر ولو من كافر! (أحكام أهل الذمة ج 2 ص 667، 668).

وابن القيم في رأيه هذا لم يكن مبتدعا وإنما كان متبعا، فلقد جاءت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم". (البداية والنهاية ج 5 ص 66).

ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أكد في عهده لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران. (تاريخ الطبري: (3/165).

وهذا عمرو بن العاص يكتب لأهل مصر معاهدة فينص فيها على ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص…". (تاريخ الطبري ج 2 ص 513 ، 514).

وهذا خالد بن الوليد حين دخل دمشق كتب كتابا لأهلها جاء فيه: "أن قد أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم". (الأموال/ أبو عبيد القاسم بن سلام ص 295).

وعلى هذا فإن دور العبادة لغير المسلمين من كنائس وبيع وصلوات يجب على الدولة حمايتها، فإن عجزت الدولة كان على الأفراد أن يقوموا بهذا الدور، والمسلم في هذا العمل يقوم بواجب شرعي، وعمل وطني يتقرب به إلى الله تعالى، حتى وإن اعتقد بطلان ما يؤتى بداخل هذه الدور.

لكني أحب أن أشير هنا إلى ضرورة نزع فتيل الفتنة التي إن أصابت فلن تصيب المسلمين وحدهم، وإنما ستعصف بالمسلمين والنصارى، وإن أضرت فلن تضر مصر وحدها بل ستضر بالعالم العربي والإسلامي.

وأحسب أن هذا الفتيل يتمثل الآن في أمرين:

الأول: تشدد بعض الدعاة والعلماء في الأحكام، وفهمها دون وضعها في سياقها التاريخي ومعرفة ملابساتها. هذا من طرف المسلمين.

الثاني: وهو من طرف النصارى، ويتمثل في عدم مراعاة شعور الأكثرية المصرية، والتطاول على مقدساتهم، وأخص خصوصياتهم، وأشير هنا إشارات سريعة إلى نوعية من هذا التطاول.

1- الإساءات المتكررة من زكريا بطرس، دون المساس به من قبل الحكومة أو الكنيسة.

2- جرأة الرجل الثاني في الكنيسة المصرية الأنبا بيشويو الذي ادعى أن المسلمين ضيوف على مصر، وتشكيكه في نسبة القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم.

"
 يجب على الدولة حماية دور العبادة لغير المسلمين، فإن عجزت كان على الأفراد أن يقوموا بهذا الدور، والمسلم في هذا العمل يقوم بواجب شرعي، وعمل وطني يتقرب به إلى الله تعالى
"

3- كثرة الإشاعات التي وصلت إلى درجة اليقين عن وجود أسلحة في داخل الأديرة والكنائس، وعدم قبول الكنيسة تفتيش دور العبادة وملحقاتها، خصوصا بعد ما بثته وسائل الإعلام من ضبط سفينة أسلحة مهربة على رأسها ابن شخصية كنسية كبيرة.

4- عدم التجاوب مع الدولة كما هو الحال في حبس بعض المسلمات الجدد مثل: وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة.

5- كسر هيبة الدولة كما هي الحال في المبنى الإداري بالعمرانية الذي أراد أصحابه تحويله إلى كنيسة دون إجراءات رسمية قانونية، ثم تبع ذلك قطع الطريق العام والتطاول على أجهزة الدولة ممثلة في رجال الأمن، ومبنى المحافظة.

6- وقل مثل ذلك فيما حدث من التطاول على موكب كل من شيخ الأزهر ومفتي مصر وعدد من الوزراء عند قيامهم بواجب العزاء في قتلى انفجار الكنيسة.

إن هذه الأحداث وغيرها كثير كفيلة بأن تولد أفكارا متطرفة لدى بعض الشباب المتحمس من الفريقين مسلمين ونصارى، فيقدموا على عمل إجرامي أحق ما يوصف به أهله هو ما جاء في سورة الكهف: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف:103،104)، أو أن يستغل أعداء مصر هذا الجو العكر فيصطادوا من خلال ما يعصف بوحدة مصر وأمنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.