المسؤولية في جريمة الإسكندرية

المسؤولية في جريمة الإسكندرية - الكاتب: نبيل شبيب



زيادة التطرّف رغم إدانته
مسؤولية الدولة
المسؤولية الفردية

جريمة التفجير الذي استهدف كنيسة القديسين في الإسكندرية أعمق مغزى وأخطر مفعولا من قابلية تمريرها مع الاكتفاء بالإدانات والمطالب التقليدية.

لا يعني ذلك إغفال وجود أحداث أخرى، تنطوي على أعداد أكبر من الضحايا، وأسلوب بشع من الإجرام، وتركيز متواصل على المسلمين، ولا إغفال شأن مواعيد حاسمة حلّت في طريق تصفية قضية فلسطين، ومسيرة تفتيت السودان، وما شابه ذلك مما يستدعي تصحيح السياسات المتبعة، ولكن لا يصح ذكر قضايا كبيرة ذريعة للتهوين من شأن جريمة الإسكندرية.

إذ تسلط الأضواء على أهمية ما يُصنع لمستقبل مصر في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة العربية والإسلامية، الحافل بألوان من "الفوضى الهدّامة"، فمصر مستهدفة استهدافا يشمل المسلمين والأقباط جميعا، ومن خلال ذلك المنطقة العربية والإسلامية التي تشغل مصر مع قضية فلسطين مكانة القلب والرئتين فيها.

زيادة التطرف رغم إدانته

"
سيان مَن هي الأداة التنفيذية لعملية التفجير الإرهابية التي جعلت من كنيسة القديسين في الإسكندرية هدفها المباشر، فإما أنها جهة متنكرة أصلا لعهد الله ورسوله تجاه النصارى، أو أنها أداة تنفيذية فحسب، في مخطط يستغل انحدار مستوى استيعاب الأديان السماوية
"

سيان مَن هي الأداة التنفيذية لعملية التفجير الإرهابية التي جعلت من كنيسة القديسين في الإسكندرية هدفها المباشر، فإما أنها جهة متنكرة أصلا لعهد الله ورسوله تجاه النصارى في بلاد المسلمين، كما ثبتها القرآن الكريم وثبتها العهد النبوي لنصارى نجران إلى يوم الدين، وتخدم بذلك أعداء العرب والمسلمين، أو أنها أداة تنفيذية فحسب، في مخطط يستغل انحدار مستوى استيعاب الأديان السماوية والعلاقة بينها، واستيعاب الواقع والمستقبل إلى درجة تمكّن الأعداء المتربصين بهذه الأمة –وبالأديان جميعا- من استخدام مثل تلك الأدوات لارتكاب الجرائم داخل الحدود.

وما الفائدة من الاكتفاء بتحميل المسؤولية لتنظيمات أو اتجاهات متطرفة و"إرهابية" وكذلك الاكتفاء بالمحاولات التقليدية لمواجهتها وفق ما شاع وصفه بالحل الأمني؟

ألا ينطوي نعتها بالتطرف وبالإرهاب على إدانتها من الأصل، سواء نفذت عمليات من هذا القبيل من تلقاء نفسها أو باستخدامها أداة لتحقيق أهداف أخطر وأبعد مدى؟

وهل تردع الإدانة تلك التنظيمات أو تصلحها أو تضع حدا لخطرها، ما دامت السياسات والممارسات الدولية والمحلية، الرسمية وحتى غير الرسمية، توجد الأجواء وتزرع البذور وترعى البيئة التي تجعل من التطرف ومختلف أشكال التعبير عنه، أمرا ممكنا أو نتيجة حتمية؟

لم ينقطع مسلسل عمليات التطرف و"الإرهاب"، ومن الوهم توقع ذلك عبر تكرار مطالبة من يرتكبها بأن يشعر بالمسؤولية، فهؤلاء يرون "مسؤوليتهم" في ارتكابها، أو بأن يثوب إلى رشده، فهم يرون "الرشد" في ارتكابها، أو بأن يعودوا إلى "التسامح الديني"، فهم لا يرون في "عالمهم وعصرهم" تسامحا، لا سيما من جانب من يطالبهم بالتسامح، أو من جانب من يتذكر سماحة الإسلام ويتذكر سماحة المسيحية في لحظة "الكارثة" الدموية، ولا يأبه بهما فيما عدا ذلك، وكأنه يريد أن يقنع المتطرفين بعدم الاستماع إلى دعوة التعقل، ما داموا لا يرون حولهم سوى مظالم متراكمة بعضها فوق بعض، وعدوان بعد عدوان دون موقف منصف، وتخاذل واستخذاء دائمين دون عذر مقنع، وضحايا بأرقام قياسية يتجاوز بعضها بعضا، عاما بعد عام، في بلد بعد بلد..!

لا يوجد من ذلك ما يمثل عذرا أو تسويغا أو اجتهادا لعمل إجرامي من قبيل ما تعرضت له كنيسة القديسين في الإسكندرية، أو ما يتعرض له مسيحيون وكنائس في العراق، أو أي مكان آخر، كما أنه لا يوجد شيء من ذلك يمكن القبول به من وراء أعمال إجرامية تعرضت وتتعرض لها مؤسسات إسلامية ومسلمون في كل مكان، فالقضية في سائر الأحوال هي قضية عنف إجرامي واعتداء على إنسانية الإنسان.

ولكن يستوجب هذا التأكيد تأكيد أمور أخرى عديدة في مواجهة موبقات التطرف و"الإرهاب"، ومن أهمها استيعاب أسباب ضعف جدوى ما صُنع ويصنع لهذه المواجهة حتى الآن.

فمهما طولب أصحاب العقول الراجحة، والأفكار المتوازنة، والمعتقدات السوية، والإحساس الحقيقي بالمسؤولية، والوعي البصير بواقع بلادنا وعالمنا وعصرنا وقضايانا المصيرية، أن يعملوا من أجل مكافحة التطرف فكرا وتربية وتوجيها، ومهما بذلوا من جهود –واجبة وضرورية ومشكورة.. ولا ينبغي أن تنقطع- لتحقيق هذا الهدف، فإننا نجد بين أيدينا ثغرات خطيرة وعقبات كبيرة، لا تدعم مهمتهم الجليلة، قدر ما تدعم تمكين التطرف من النماء والتوسع واستقطاب فئات صغيرة وكبيرة من أهل البلاد، الذين يعايشون بأنفسهم:

"
مهما طولب أصحاب العقول الراجحة، والأفكار المتوازنة، والمعتقدات السوية، فإننا نجد بين أيدينا ثغرات خطيرة وعقبات كبيرة، لا تدعم مهمتهم الجليلة، قدر ما تدعم تمكين التطرف من النماء والتوسع 
"

1- وجود "مسؤولين" لا يحاسَبون على ما يمارسونه هم من انتهاكٍ لحقوق المسيحيين، ولحقوق المسلمين، ولحقوق مختلف الفئات الشعبية، بمختلف الوسائل، غير المشروعة وإن أعطيت صفة "القانونية" أو صفة "الدينية" أو صفة ضرورية بمقاييس "حالات الطوارئ" المزمنة.. فكل انتهاكٍ للحقوق مهما تعددت التسميات والذرائع، هو المصنع الأول للاحتقان، وللتطرف، ولإيجاد البيئة التي ينضج فيها الاحتقان والتطرف حتى يصلا إلى مستوى الانفجار.

2- وجود فريق من المغالين الذين يصورون ما لا يمثل في الأصل انتهاكا لحقوق المسيحيين أو المسلمين أو مختلف فئات الشعب، كبيان الاختلاف في التصورات، أو إنشاء أماكن للعبادة، وحتى الاحتفال بالأعياد، كما لو أنه انتهاك لحقوق الغالبية أو حقوق الأقلية، على حسب انتماء أولئك "المغالين"، فيحرضون ضد "الآخر"، ويزيدون الاحتقان، وهم الذين يسقون بمواقفهم ومقولاتهم -لا سيما إن كانوا من أصحاب المكانة وموضع الثقة لدى أتباعهم- بذور التطرف والاحتقان، حتى تصل إلى مرحلة إعطاء ثمراتها الدموية.

مسؤولية الدولة
صدر كثير من ردود الفعل السريعة –داخل مصر وليس في الغرب فقط- على تفجير كنيسة القديسين، وحمّلت أصوات عديدة الدولة المصرية ممثلة في حكومتها قسطا كبيرا من المسؤولية، وغالبُها تحت عنوان الاتهام بعدم التصرف لمواجهة بذور الفتنة بالشكل المناسب، والحيلولة دون أن يتحول الاحتقان إلى انفجار.

كلّ حكومة تحمل في نهاية المطاف المسؤولية السياسية عما يجري داخل الحدود، لا سيما إذا كانت –كما هو الحال في معظم بلادنا- تتصرف بأسلوب الحكم المطلق، دون مراقبة ولا محاسبة، ولكن ما هي نوعية المسؤولية التي تحملها الدولة المصرية فيما شاع وصفه بالاحتقان الطائفي، الذي تريد ردود الفعل تلك "حصر" جريمة كنيسة القديسين في نطاقه فقط؟

وَرَدَ على سبيل المثال دون الحصر القول إن الأقباط في مصر لا يحصلون على ما يستحقون من تمثيل في أجهزة صناعة القرار، أو إنهم يواجهون العقبات على طريق إقامة الكنائس، أو إنهم يتعرضون لاتهامات وافتراءات من شأنها أن تثير الفتنة الطائفية.

وفي كل قول من هذا القبيل شحنة تعزز المنطق الطائفي وتزيد الاحتقان الطائفي، فعدم التعبير عن إرادة النسبة العظمى من شعب مصر في أجهزة الحكم، لا تعود إلى أنهم مسلمون أو أقباط، بل نتيجة الاحتكار الحزبي للسلطة، وتهميش "المواطنين" وجماعاتهم ومساجدهم وكنائسهم، وأحزابهم ونقاباتهم، وقضاتهم وعامتهم.. وعندما يركز أي طرف على فئة دون أخرى، تحت عنوان ديني أو غير ديني، يلفت الأنظار عن قضية مشتركة بين الجميع ويثير الفتنة بين طائفتين، من منطلق ديني، أو منطلق آخر.

"
من أراد تحميل الحكومة المصرية المسؤولية الكبرى, لا بد أن ينتزع نفسه مسبقا من قوالب المنطق الطائفي، ليكتسب المصداقية أولا، وليؤثر على أرض الواقع ثانيا
"

ويسري شبيه ذلك على عقبات مزعومة أو حقيقية في بناء كنيسة أو مسجد، أو التهاون مع اتهامات وافتراءات، أو سوء التصرف مع مواطن الاحتكاك والصدام، أو غير ذلك مما يقال بمنطق فئوي تحت أي عنوان.

من أراد التركيز على القسط الكبير من مسؤولية الحكومة المصرية عن كل ما يجري داخل الحدود المصرية، شأنها في ذلك شأن أي حكومة أخرى، لا بد أن ينتزع نفسه مسبقا من قوالب المنطق الطائفي، وأساليب التعبير الطائفي، وأهداف المنظور الطائفي، ليكتسب المصداقية أولا، وليؤثر على أرض الواقع ثانيا، وليسهم في جمع أهل مصر على ما فيه مصلحة مصر العليا، ومن وراء ذلك مصلحة العرب والمسلمين.

المسؤولية الفردية
يلفت الأنظار في تعليقات النسبة العظمى من العامة، بأسماء صريحة وأسماء رمزية، حيثما انفسح المجال للتعبير عن الرأي الفردي من خلال الفضائيات والمواقع الشبكية، أنه لا يكاد يوجد من لا يستنكر الاعتداء الآثم، ويعبر عن خوفه على مصر كلها وجميع سكانها، ويطالب بعدم الانزلاق وراء ما يمثل مؤامرة خطيرة مقصودة أو عملية دموية رعناء.

كأننا بعد عقد دموي صنعته "مسلسلات الإرهاب والإرهاب المضاد" في بلاد العرب والمسلمين أمام درجة من الوعي الشعبي تجاوزت بمراحل المسؤولين السياسيين وفئات تعتبر نفسها شعبية وجماهيرية، سواء المشاركة في التطرف دون رؤية واعية لما يوصل إليه، أو المشاركة في الإدانة دون طرح الحلول والبدائل.

الوعي الشعبي في تلك التعليقات –ولا تتوافر إمكانات قياسه بمعايير منهجية علمية- يركز إجمالا على الخطر الخارجي، وأنه المصدر لما سواه.

وفي ذلك ما يعبر عن المخاوف الكبيرة على مصر ومستقبلها، فهي صادرة عن استيعاب دروس تاريخية معاصرة، أبرزها للعيان وأقربها جغرافيا من مصر ما سبق أن بدأ في السودان المجاور على شكل ترسيخ النظرة الطائفية بين شمال وجنوب، وعرب وأفارقة، ومسلمين وغير مسلمين، ثم أوصل –من تلك البداية "الصغيرة- عبر التصعيد المتواصل إلى مستوى "التفتيت" الذي لم يكن يتصور أحد حدوثه يوم استقلال السودان قبل أكثر من نصف قرن.. مثلما يُستبعد اليوم تصوره عن مصر، استصغارا لشأن تصرفات ومواقف شاذة أو صدامات تقع بين الفينة والفينة أو حتى جريمة صارخة من مستوى تفجير كنيسة القديسين. وليس السودان حالة نادرة بين ما نعايشه من إندونيسيا إلى الشمال الأفريقي.

هذا ما يرصده الوعي الشعبي المتنامي فيرى من خلاله خطر التفتيت على مستوى الأقطار والشعوب بعد التجزئة السياسية على مستوى أعلام ودول، للدخول بها جميعا، وبمختلف الفئات السكانية فيها، في أتون مزيد من الصراعات وبالتالي المزيد من الانهيار والعجز.

"
يرصد الوعي الشعبي المتنامي الأحداث فيرى من خلالها خطر التفتيت على مستوى الأقطار والشعوب بعد التجزئة السياسية على مستوى أعلام ودول، للدخول بها جميعا، في أتون مزيد من الصراعات
"

هنا يكمن محور المسؤولية الكبرى عن كل جريمة فرعية وقضية محورية، وتثبيت أنها مسؤولية الساسة المسؤولين أولا، من خلال تصرّفات تدعم التفتيت والتجزئة والعجز، أو من خلال قصور عن التحرّك المضاد.. إلا في حالة واحدة تزيد الهوة بين الحكومات والشعوب: حالة تعرض السلطة للضياع من قبضة المتشبثين بها!

إنّها مسؤولية منطق "فرق تسد" مع المخاطرة بترسيخ ألغام طائفية وفئوية داخلية، إن تفجّرت تصيب البلاد وأهلها، وحتى حكوماتها أيضا.

وهنا يكمن جوهر مسؤولية المفكرين والإعلاميين والناشطين الحقوقيين وسواهم من ذوي التأثير، عن التفاعل مع أحداث من قبيل الاعتداء على كنيسة أو مسجد، أو الاعتداء على الإنسان، أي إنسان، انطلاقا من الارتفاع المسبق فوق اعتبارات "التعددية" بمواقف منصفة وجهود مشتركة، فذاك شرط ضمان ما يدعون إليه باسم التعددية أساسا لتعايش قويم ومستقبل كريم، لا يفجره عنف غير مشروع سيان هل كان من صناعة محلية أو بتدبير عدواني خارجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.