السودان وطريقه الثالث

تصميم فني : العنوان : السودان وطريقه الثالث الكاتب: حمدي عبد الرحمن



حقيقة تقرير المصير
الاستقطاب والخيار الثالث
إلى أين يتجه السودان؟

يمر السودان بفترة حاسمة في تاريخه الحديث حيث يواجه اختبارا ًصعباً لم يشهد مثله من قبل. ففي غضون أشهر قلائل سوف يجرى استفتاء عام في الإقليم الجنوبي حول خياري الوحدة أو الانفصال وذلك طبقاً لمقررات اتفاق السلام الشامل الموقع عام 2005.

ويبدو، مع ذلك، وكأن المشهد السياسي العام في السودان غير ملائم لإجراء استفتاء حر ونزيه. فالترتيبات والإجراءات المشتركة المتفق عليها في نيفاشا لجعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين لم تتحقق. بل وأكثر من ذلك فإن ثمة حالة من الاستقطاب الشديد في لغة الحوار السياسي المتعلق بمستقبل السودان وذلك بين تياري الوحدة والانفصال.

لقد بات واضحاً أن انفصال الجنوب أصبح في حكم المولود الجديد الذي ينتظر شهادة ميلاد. فالحركة الشعبية تمارس الحكم منفردة منذ أكثر من خمسة أعوام، وهي تمتلك مؤسسات للحكم ورموزاً للدولة مثل العلم والبعثات الخارجية وحتى النشيد الوطني. غير أن أنصار الوحدة داخل السودان وخارجه ما فتئوا يتحدثون عن الهوية السودانية الموحدة وإن تعدت مكوناتها الثقافية والحضارية.

ويحاول هذا المقال البحث عن إمكانية الخروج من هذه الثنائية الجدلية: الوحدة مقابل الانفصال وذلك من خلال ما يمكن أن نسميه الطريق الثالث "الكونفدرالي" الذي يمكن أن يمثل الحد الأدنى لبقاء السودان موحداً.

حقيقة تقرير المصير
لقد كان قبول الشريكين: المؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب، لاتفاق سلام نيفاشا يعني في حقيقة أمره تخلي كل منهما عن مشروعه وخطابه الأيديولوجي الخاص بمستقبل الدولة والحكم في السودان.

فالمشروع الحضاري الذي تبناه الرئيس عمر البشير ورفاقه وكان يرمي إلى "أسلمة" المجتمع السوداني بأسره، بل وأن تقود الحركة الإسلامية السودانية عملية التجديد والإصلاح على الصعيد الأممي لم يعد ملزماً، وإن انحصرت دائرة تأثيره جغرافياً على الإقليم الشمالي.

"
كان قبول الشريكين: المؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب، لاتفاق سلام نيفاشا يعني في حقيقة أمره تخلي كل منهما عن مشروعه وخطابه الأيديولوجي الخاص بمستقبل الدولة والحكم في السودان
"

أما مشروع "السودان الجديد" الذي يقوم على سودان واحد علماني ديمقراطي وارتكز عليه خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ نشأتها عام 1983 فقد لفظ أنفاسه الأخيرة مع قبول مرجعيته الفكرية والحركية، المتمثلة في الراحل الدكتور جون قرنق، لمبادئ عملية سلام نيفاشا بين الشمال والجنوب.

وفي هذا السياق يمكن فهم مبدأ "حق تقرير المصير" الذي نص عليه اتفاق السلام الشامل على أنه محاولة للخروج بالسودان من حالة الدائرة المفرغة والنفق المظلم الناجمة عن التناقض الشديد بين هذين المشروعين السابقين: المشروع الحضاري الإسلامي ومشروع السودان الجديد العلماني. وطبقاً للسياسي الجنوبي المخضرم لام أكول فإن حق تقرير المصير للجنوبيين يعني في جوهره ومبناه أموراً ثلاثة هي:

أولاً: الخروج من الطريق المسدود الذي وصل إليه الجدل الخاص بفصل الدين عن الدولة أو بعبارة أخرى علاقة الدين بالدولة في الواقع السوداني. وهذا يعني أن حزب المؤتمر الوطني قبل بأن يكون نطاق تطبيق الشريعة ومشروعه الحضاري هو الإقليم الشمالي وأن يطبق الجنوب ما يتوافق عليه أبناؤه من قوانين تقوم على التقاليد والمواريث الحضارية بما فيها المعتقد الديني.

وعليه فإن القول بعلمانية الدولة السودانية باعتبارها الخيار الوحيد لوحدة السودان هو قول مردود عليه لأن ذلك يعني إعادة التفاوض مرة أخرى بين الشريكين. إذ إن اتفاق السلام الشامل لم يرد فيه نص عن العلمانية أبداً.

ثانياً: إعطاء الحركة الشعبية الفرصة كاملة لتطبيق رؤيتها على أرض الواقع من خلال حكم الإقليم الجنوبي بشكل منفرد. إذ يصبح بإمكانها تهيئة المناخ إما لوحدة عادلة مع الشمال أو لطلاق بائن معه.

يقول جون قرنق: "لقد تمكنت أنا ورفاقي الذين قاتلوا معي في الأحراش لمدة تربو على العشرين عاماً أن نحضر لكم اتفاق السلام الشامل على طبق من ذهب. لقد أنجزنا المهمة وحان اليوم دوركم. إنها فرصتكم الذهبية لتحديد مصيركم عند التصويت في الاستفتاء. هل ترغبون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في بلدكم؟ إنه اختياركم المطلق".

ثالثاً: العمل المشترك بين الطرفين في الشمال والجنوب من أجل جعل الوحدة جاذبة لشعب الجنوب. وقد أقر اتفاق نيفاشا إجراءات محددة من أجل وضع الجنوبيين على طريق الوحدة والتصويت من أجلها.

وعليه فإن القول بأن حق تقرير المصير يعني بشكل أوتوماتيكي الوقود اللازم لقطار انفصال الجنوب يعد أمراً يجافي الحقيقة. ففي بروتوكول تقاسم السلطة -وهو جزء لا يتجزأ من اتفاق نيفاشا – تأكيد على ضرورة العمل الجدي من أجل المصالحة الوطنية ومعالجة آثار الحرب الأهلية.

كما أن المادة الثالثة من نفس البروتوكول تحتم على الشريكين أن يضمنا التزام الأفراد والمؤسسات التابعة لهما بنصوص اتفاق السلام الشامل والعمل الحثيث من أجل تطبيقها.

الاستقطاب والخيار الثالث
يمكن للمتابع المحايد والموضوعي للشأن السوداني أن يلاحظ بوضوح أن البيئة الراهنة غير مواتية لإجراء استفتاء حر ونزيه. بل إن مقدمات ذلك الاستفتاء وفقاً لنصوص نيفاشا  لم يتم إنجازها بعد. فبدلاً من أن يعمل الشريكان على أن تكون الوحدة جاذبة حدث العكس تماماً.

فالحركة الشعبية تبذل أقصى ما في وسعها لتعبئة الجنوبيين ضد حكومة المؤتمر الوطني في الشمال. بل إن لغة الخطاب السياسي للحركة صورت المؤتمر الوطني بأنه "العدو" الذي ينبغي التصدي له. وهذا ما يؤكد توجه النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة في الجنوب صوب شرق أفريقيا عوضاً عن التوجه شمالاً صوب الخرطوم.

"
لم يدخل شريكا الحكم في السودان طوال سنوات الفترة الانتقالية في أي عمل مشترك بهدف جعل الوحدة جاذبة, بل إن ما حدث هو العكس من ذلك تماماً: الشحناء والبغضاء وتعظيم الخاص على العام والنفعي على الوطني
"

وعليه فإن شريكي الحكم طوال سنوات الفترة الانتقالية لم يدخلا في أي عمل مشترك بهدف جعل الوحدة جاذبة. ما حدث هو العكس من ذلك تماماً: الشحناء والبغضاء التي تصل حد الابتزاز السياسي وتعظيم الخاص على العام والنفعي على الوطني في ميدان السياسة والحكم.

في ظل حالة الانسداد السياسي تلك الناجمة عن الاستقطاب الحاد بين جدلية الوحدة والانفصال تبدو ملامح طريق آخر قد يمثل خيارا ثالثاً للسودانيين يحقق لهم مزايا كل من الوحدة والانفصال ولكنه -وهذا هو الأهم- يحافظ لهم على هويتهم السودانية الجامعة. إنه خيار الكونفدرالية وهي ما يعني أن يتمتع جنوب السودان باستقلال أوسع نطاقاً من حالة الكيان الكردي في شمال العراق.

إن على السودانيين النظر في إمكانية تطبيق النظام الكونفدرالي إذ إن الكونفدرالية تعني في حقيقتها رابطة هشة بين دولتين (أو أكثر) يتمتعان بدرجة عالية من الاستقلال وتحتفظ كل منهما بسيادتها على إقليمها مع وجود سلطة كونفدرالية تتولى التنسيق في أمور مثل الدفاع والتجارة والسياسة الخارجية.

ولا شك أن هذا الخيار قد يلبي معظم مطالب التيار الانفصالي في الحركة الشعبية حيث سيحافظ الجنوب على أبنيته السياسية والعسكرية بشكل مستقل. بيد أن ثمة تساؤلات صعبة ينبغي التفاوض بشأنها حول شكل الحكومة الكونفدرالية والسلطات الممنوحة لها، وكذلك موضوع النفط ومسألة تقاسمه بين الكيانين الشمالي والجنوبي.

و ثمة نماذج تاريخية عديدة للرابطة الكونفدرالية بين الدول مثل الولايات الأميركية خلال الفترة من (1781-1788) و اتحاد الدول الأفريقية بين مالي وغانا وغينيا (1961-1963) واتحاد سنجامبيا بين السنغال وغامبيا (1982-1989). ولعل بعض الباحثين يشيرون إلى نماذج معاصرة مثل سوسيرا وبلجيكا التي تطبق كل منهما بعض ملامح النموذج الكونفدرالي.

إلى أين يتجه السودان؟
أحسب أن جوهر مبدأ تقرير المصير في الجنوب الذي نص عليه اتفاق السلام الشامل يصعب تطبيقه في ظل الأوضاع والسياقات الراهنة في السودان.

فالحركة الشعبية التي تحكم الجنوب بقبضة حديدية لم تستطع أن تحقق التنمية المرجوة. وعوضاً عن ذلك عانت هياكلها الإدارية والمؤسسية من الفساد وسوء الإدارة. وعلى سبيل المثال فإن نصيب الجنوب من النفط والذي بلغ نحو عشرة مليارات دولار بالإضافة إلى المساعدات الخارجية قد أسيئ استخدامه وتوزيعه. إذ استأثرت جوبا وحدها بنحو (90%) من الميزانية الجنوبية في حين حصلت باقي الولايات العشر التي تشكل الإقليم الجنوبي على نحو (10%) فقط من الميزانية الخاصة بحكومة جنوب السودان.

ولا يزال جنوب السودان يعاني من تردي الأوضاع الأمنية حيث تحارب القبائل المتعددة بعضها البعض. وبعد الانتخابات الأخيرة في الجنوب تمرد بعض قادة الحركة الشعبية عليها وأصبحوا اليوم يحاربون حكومة الجنوب.

وعليه يصبح الخروج من هذا المأزق وحالة الاستقطاب تلك وتداعياتها الخطيرة على مستقبل السودان متمثلاً في البحث عن الطريق الكونفدرالي. وقد ناقش بعض المثقفين السودانيين من الجنوب والشمال على السواء هذا الخيار وإن كان على استحياء في كثير من الأحيان.

"
خيار الكونفدرالية يمثل مخرجاً مناسباً لأزمة السودان المعقدة والمتشعبة, وهذا الخيار سوف يجعل كلا من الجنوب والشمال في رابطة اقتصادية واحدة تتكامل وتتعاون مع جوارها العربي والأفريقي
"

إن أفريقيا ليست بحاجة إلى نموذج دولة فاشلة أخرى ولا أظن أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة وأوروبا، على الرغم من محاربتهم لتوجهات شمال السودان العقيدية والأيديولوجية, يرغب هو الآخر في أن يكون جنوب السودان "المستقل" أداة لعدم استقرار جواره الجغرافي الأفريقي.

ولا شك أن خيار الكونفدرالية الذي يحفظ لجنوب السودان جيشه وحكومته العلمانية وأبنيته المؤسسة بشكل مستقل يمثل مخرجاً مناسباً لأزمة السودان المعقدة والمتشعبة. وهذا الخيار سوف يجعل كلا من الجنوب والشمال في رابطة اقتصادية واحدة تتكامل وتتعاون مع جوارها العربي والأفريقي.

ما العمل؟ سؤال ينبغي الإجابة عليه حتى يمكن مواجهة هذا الخطر القادم المحدق بأبناء السودان شماله وجنوبه. فالرؤية الإستراتيجية لمرحلة ما بعد الاستفتاء تقتضي وضع خيارات الحركة تحسباً لأسوأ السيناريوهات؟ فهل يمثل النموذج الكونفدرالي خياراً أو طريقاً ثالثاً يمكن أن يسلكه السودانيون للمحافظة على أدنى مقومات وحدتهم وهويتهم الجامعة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.