الخيمة العراقية والانسحاب الأميركى

صالح السنوسي - عنوان المقال: الخيمة العراقية والانسحاب الأميركي



غادرت وحدات مقاتلة من الجيش الأميركي العراق سواء إلى بلادها أو حلت معززة مكرمة في بلدان عربية سبق أن انطلقت منها في بداية الغزو والاحتلال، بينما رابطت قوة تعدادها -حسب المعلومات الأميركية- خمسون ألف جندي في قواعد تسيطر على المفاصل الإستراتيجية لخريطة العراق العسكرية والاقتصادية في الوقت الذي يصعب فيه على المقاومة العراقية الاشتباك معها بشكل مؤثر وفعال.

والأهم هو هذا السؤال عن مصير العراق بعد انسحاب هذه القوات، ذلك السؤال الذي ما انفك يردده الكثيرون منذ أعلن الرئيس الأميركي أوباما عما أسماها خطته لسحب القوات الأميركية من العراق ولا يزال يتردد حتى بعد مغادرة هذه القوات.

وبقدر ما يبدو السؤال شاذا يبدو للبعض الآخر أنه لا يخلو من منطق قياسا على سياق الواقع الذي صنعه الغزو والاحتلال، فقد وضع الغزاة مخططهم موضع التنفيذ منذ الأيام الأولى للاحتلال، فأعلنوا عن تحرير طوائف مستضعفة من أخرى متغولة وأعراق مضطهدة من أخرى شوفينية متسلطة فأنشؤوا خطابات عراقية متناقضة ومصالح متعارضة و"فبركوا" مؤسسات حاضنة لهذا التفكك ومغذية له تحت ما أسموها الخيمة العراقية.

"
المشهد الجيوسياسي العراقي تم تصميم آلياته بكيفية لا تجعلها تعمل إلا في وجود مظلة أميركية سياسية كانت أم عسكرية
"

ولهذا فقد أضحى الوجود العسكري والسياسي الأميركي هو الضمانة الوحيدة لبقاء أعمدة هذه الخيمة قائمة فوق أشلاء العراق الممزق إلى طوائف وأعراق، بحيث إذا ما اختفى أو توارى هذا الوجود الأميركي، فإن أصغر قزم من اللاعبين الإقليميين يستطيع أن يلقي بعود ثقاب في هذه الخيمة فيخرج الدخان وألسنة اللهب من جنباتها.

فالمشهد الجيوسياسي العراقي تم تصميم آلياته بكيفية لا تجعلها تعمل إلا في وجود مظلة أميركية سياسية كانت أو عسكرية، غير أن المقاومة العراقية وروافدها العربية فاجأت المخططين الأميركيين مثلما فاجأت الكثيرين فزعزعت تفاصيل هذا المخطط الذي كان من المنتظر أن يتم تطبيقه في هدوء يسيطر عليه الخوف والرعب في ظل مخالب النسر الأميركي الذي أخذ يحلق في سماء الشرق الأوسط صبيحة الاحتلال.

لذلك اضطرت الولايات المتحدة إلى الدخول في صراع دام لم يكن يتوقعه العسكريون الأميركيون مع مقاومة شرسة وفعالة بدت طويلة النفس، متجددة ومتعددة الروافد.

لعل أحد أهم نتائج هذه المفاجأة التي أربكت تطبيق المخطط الأميركي في هدوء، هو أن حلفاء الولايات المتحدة من الأنظمة العربية التي قدمت يد العون والمشورة لتسهيل عمليات غزو واحتلال العراق، قد وجدوا في هذه المقاومة ورقة مساومة في مواجهة الدعوات الأميركية المفاجئة للديمقراطية التي تهدد أنظمتهم وسلالاتهم الحاكمة.

وأغمضوا أعينهم عن تدفق المقاتلين إلى العراق، فأدى ذلك إلى تفاهم ضمني بين الولايات المتحدة وهذه الأنظمة حول التعاون ضد المقاومة العراقية في مقابل تخلي الإدارة الأميركية عن دعواتها للديمقراطية وعدم تدخلها في الطريقة التي يدير بها هؤلاء شؤون الكائنات الحية في إقطاعياتهم التي يسمونها دولا.

"
إنقاذ المخطط الأميركي في العراق وبقاء آلياته الطائفية تعمل حتى الآن تحت ما سمي بالخيمة العراقية، يرجع فيه الفضل إلى اتفاق التعاون الفعال الذي أبرم بين الحكام العرب والولايات المتحدة ضد المقاومة
"

لا شك أن إنقاذ المخطط الأميركي في العراق وبقاء آلياته الطائفية تعمل حتى الآن تحت ما سمي بالخيمة العراقية، يرجع فيه الفضل إلى اتفاق التعاون الفعال الذي أبرم بين هؤلاء الحكام والولايات المتحدة، إذ أدى إلى شل فاعلية المقاومة العراقية وانحراف بعضها عن أهدافه، وذلك بسبب ما قامت به هذه الأنظمة من إجراءات ونشاطات تآمرية في صفوف المقاومة، ومن أهمها:

1- سد منافذ الروافد العربية للمقاومة العراقية وتجفيف منابعها داخل الأقطار العربية، حيث قامت مخابرات هذه الأنظمة نيابة عن الولايات المتحدة بشن حرب شرسة في أوساط الشباب في هذه البلدان واعتقال كل من ينم سلوكه عن الرغبة في التطوع للقتال ضد جيش الاحتلال في العراق وتقديمهم إلى محاكم عسكرية بتهم عقوبتها تتراوح بين السجن والإعدام.

وأدى ذلك إلى ردات فعل عنيفة من قبل بعض فصائل هذه المقاومة داخل تلك الأقطار، فكان ذلك بداية مرحلة أخرى من الحرب التي شنتها مخابرات هذه الأنظمة جنبا إلى جنب مع المخابرات الأميركية والإسرائيلية ضد المقاومة داخل العراق تحت غطاء ما سمي بمحاربة الإرهاب والقضاء على القاعدة.

2- تطييف المقاومة، كانت دوافع ردة الفعل المقاوم ضد الاحتلال الأميركي سواء داخل العراق أو في الوطن العربي دوافع قومية أو دينية ولم تحفل بالمخطط الطائفي الأميركي الذي قامت عليه أعمدة ما سمي بالخيمة العراقية.

ولكن الأنظمة السياسية العربية التي تحالفت مع الولايات المتحدة ضد المقاومة العراقية قامت بنقل "فيروس" الطائفية المتبنى رسميا في المنطقة الخضراء إلى صفوف المقاومة ومعاقلها لتفجيرها مذهبيا.

وقد ساعدتها على ذلك العلاقات السابقة بين أجهزة مخابراتها وبعض فصائل المقاومة في الفترة التي أصاب فيها هذه الأنظمة الهلع والخوف من النوايا الأميركية، فاستطاعت اختراق صفوف المقاومة وتطييف بعض فصائلها مستغلة ظرفين كانا مواتيين لنشر الفتنة الطائفية بين صفوف المقاومين.

"
الخطاب والجدل الطائفي المحتدم داخل "الخيمة العراقية" بين القيادات المتحالفة مع الاحتلال شيعية كانت أم سنية نتجت عنه مأسسة الطائفية حسب المخطط الأميركي تحت إشراف بريمر
"

أولهما الخطاب والجدل الطائفي المحتدم داخل "الخيمة العراقية" بين القيادات المتحالفة مع الاحتلال شيعية كانت أم سنية، الذي نتجت عنه مأسسة الطائفية حسب المخطط الأميركي تحت إشراف بريمر، فكان ذلك مدخلا لهذه الأنظمة التي تدافع عن نفسها وليس عن بلدانها، لاستعداء بعض فصائل المقاومة ضد هذه الطائفة أو تلك بتهمة أنها جزء من مخطط الاحتلال الأميركي نظرا لوجود بعض القيادات والنخب الذين يتحدثون باسمها في مؤسسات المنطقة الخضراء الأميركية.

أما الظرف الثاني الذي استغلته هذه الأنظمة فهو الصدام السياسي والإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة، فلا شك أن الأفعال وردود الأفعال بين الطرفين تمتد على مساحة واسعة حسب إمكانيات كل منهما، فالولايات المتحدة تؤلب دول العالم ضد إيران وتستصدر العقوبات في المنظمات الدولية وتستعدي وتحرض وتخيف الأنظمة العربية منها، فينتج عن ذلك ردات فعل من إيران حسب إمكاناتها المتواضعة في كل مكان تستطيع أن تمس فيها دائرة المصالح الأميركية.

ومن البدهي أيضا حسب هذه الجدلية أن يكون الوجود العسكري والسياسي الأميركي غير الشرعي في العراق ضمن دائرة ردات فعل الإيراني الذي يبحث عن حلفاء وأصدقاء ومتعاطفين ليس في العراق وبين الشيعة فقط بل في كل مكان في المنطقة العربية شيعيا كان أم سنيا.

وهذه السياسة بقدر ما أزعجت الولايات المتحدة فتحت الباب أمام بعض الحكام العرب المذعورين ليتبنوا علنا خطابا طائفيا قادهم إلى الوقوف في الخندق الإسرائيلي ضد مقاومات عربية خارج العراق أيضا.

بل تعاونوا مع الاحتلال الأميركي في تكوين مليشيات بدعوى الدفاع عن عروبة العراق وكأنهم ليسوا هم الذين قدموا أراضيهم وأجواءهم ومشورتهم لتسهيل عمليات غزو العراق واحتلاله، فأخذت هذه المليشيات تقاتل المقاومة العراقية والعربية نيابة عن المارينز ففشلت فاعلية هذه المقاومة وأصابت عمودها الفقري.

وبهذا ترسخ المخطط الأميركي وأصبح بإمكان القوات الأميركية أن تنسحب ولا تهرب وأن تعيد انتشارها في قواعد محصنة داخل العراق، لتتدخل منها في حالة تهديد المصالح الأميركية في حقول النفط وأمن حكومة المنطقة الخضراء والخيمة التي تعصف بأوتادها زوابع الطائفية والعرقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.