العراق وولادة النخبة

العراق وولادة النخبة



– مأزق تشكيل الحكومة

ديمقراطيات وليدة
العراق.. درس تاريخي
عين على الديمقراطية

عاد نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن هذا الأسبوع إلى العراق, في زيارة جديدة, من أجل محادثات تشكيل الحكومة. فلا زال العراق يعيش أزمته السياسية التي تتمثل في عدم تشكيل حكومته, بعد مضي أكثر من خمسة أشهر على انتخاباته التي أجراها في مارس/آذار 2010.

كان من المفترض أن يحسم الفوز لمن حاز أغلبية الأصوات, ويتم المضي في العملية الديمقراطية في البلاد, ومحاولة إيقافها على أرجلها.. فلم يكن العراق ينتظر مشكلة تضاف إلى مشاكله.

أعلنت الانتخابات فوز "القائمة العراقية" بأكثر عدد من الأصوات, ونالت حق تشكيل الحكومة، لكن القوى الأخرى لم تسلم بذلك, وحاولت التمسك بأي وسيلة وطريقة تستطيع من خلالها منع ذلك.


مأزق تشكيل الحكومة
مأزق تشكيل الحكومة هنا هو أبلغ دلالات هشاشة العملية السياسية، فرئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي كان أكثر صراحة حين اعترف بعد توالي الضغوط عليه, بأنه لا يرى أن هناك مرشحا آخر أفضل منه للعراق, وأنه لن يستسلم للضغوط!

ويدّعي المالكي أيضا أنه إن تخلى عن الترشيح فإن الآخرين لن يستطيعوا الاستمرار في العملية السياسية.

هذه من أهم دروس الديمقراطية في العراق الجديد, وأعني بذلك التنكر الذي يمارسه المالكي للعملية السياسية هنا! أي شخص بالعالم تنتهي ولايته يستطيع أن يبرر لنفسه البقاء بما يريد من الحجج والأعذار, والآلية الديمقراطية لم توجد إلا للقضاء على مثل هذا السلوك! لكن يبدو أن ما يجعل المالكي يستميت في التمسك بمنصبه هو ما يشاهده من الدعم الإيراني له, وأيضا حصوله على الدعم الأميركي, كما تبين من الزيارة السابقة لجوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي ومجلس الأمن القومي الأميركي لبغداد.

"
الدعم الأميركي للمالكي رغم الرفض والتحفظ الوطني والإقليمي عليه, يبرهن على أن الولايات المتحدة تريد الاستمرار في عزل العراق عن محيطه العربي الواسع
"

والدعم الأميركي للمالكي رغم الرفض والتحفظ الوطني والإقليمي عليه, يبرهن على أن الولايات المتحدة تريد الاستمرار في عزل العراق عن محيطه العربي الواسع.

المالكي أحد أوجه الأزمة السياسية في العراق اليوم، ومرد هذه المشكلة يعود إلى الارتباك وإلى خوف الجميع من الجميع.

القوى السياسية في العراق اليوم بلا رصيد أو تاريخ سياسي يضمن لها أنها ستبقى فيما لو تم استبعادها.. أي إبعاد أو تقليل لدور إحدى هذه القوى, قد لا يعني فقط إبعادها لدورة مقبلة, بل يصل الأمر إلى إزالتها عن المشهد السياسي برمته.

هذا الخوف دفع القوى إلى ممارسة كل طريقة ممكنة كي لا تبتعد عن السلطة. شاهدنا تحالف الائتلافين دولة القانون والائتلاف الوطني, وما هي إلا فترة بسيطة حتى عاودت خلافاتهما البروز بشكل أكثر حدة, وتزعزع هذا التحالف الهش الذي لم يوجد لأجل حاجة سياسية مسؤولة, بل من أجل تمرير نوع من المصلحة الخاصة المتبادلة بين أهل التقسيم الطائفي وأصحاب نظرية المكوّن الأكبر.

هذا الارتباك والخوف المتفشي في العملية السياسية مرده إلى ظاهرة متأصلة في عالمنا العربي، وهي أن من لامس السلطة والحكم يصعب عليه التخلي عنهما.. مثال صريح على ذلك هو هذه النخبة التي حكمت العراق في سنواته الماضية, وحظيت بكامل الدعم الأميركي وغيره, ولا تريد الآن أن تتزحزح عن مكانها في السلطة رغم عدم فوزها, ورغم كثرة الأمور التي لم تنجح فيها في فترة حكمها السابقة.


ديمقراطيات وليدة
هناك نوع من فراغ تولده الحرية التي تأتي مترافقة مع الديمقراطية، والسلطة التي تأتي بعد عملية التحول الديمقراطي سلطة تنحو إلى ملء ومصادرة هذا الفراغ لنفسها.

لقد تعارفنا على أن الاحتفاظ بالقمة أمر أصعب من بلوغها، لكن في عالم السياسة العربية الوصول إلى السلطة هو الصعب, لكن الاحتفاظ بها يكون أسهل.

لماذا؟ لأن الفوز بالسلطة حتى لو عبر نظام انتخابي, لا يعني الفوز فقط بدورة انتخابية, بل يمثل أيضاً استفراداً بالسلطة! ومن يستفرد بها يؤسس لنسق ودرب جديد, ويكون قادراً على صنع دعايته والترويج له, فهو يمتلك كل الموارد التي تمكنه من فعل ذلك، وهو القابض على السلطة التي تمكنه من التغلغل في مفاصل البلد, وتملك سلطتها التنفيذية, وبناء شبكة علاقاته مع النخب والقوى المحلية الموجودة في البلد, وأيضاً تلك الخارجية.

وينجح هذا الأمر خصوصا في حالة التحول الديمقراطي, حين تنجح النخبة الجديدة في الاستفادة من الفراغ الذي يعقب هذا التحول وتجيره لصالحها.

"
هناك توجس من أن ينتج في العراق استفراد نخبوي بالسلطة يشبه ما حدث في ديمقراطية العراق السابقة
"

هذه ممارسات تنجح في تسمير الطبقة الحاكمة, وتثبيت مكانها في نظام انتخابي, حين يغيب الوعي عن ملاحقتها والتنبه لتصرفاتها.

يتحدث منظرو الديمقراطية عن حاجتها إلى الاحتضان والتقبل الثقافي من قبل الشارع, وأيضاً من موقع المسؤول لكي تبقى.

فصعوبة الديمقراطية ليست في التغيير الهيكلي أو إجراء الانتخابات, بل في تمتع القوى الموجودة بالنزاهة وروح المسؤولية والقبول بتبادلية الأدوار، فالديمقراطية إنما جاءت من أجل تشذيب علاقات القوة وإقامة التوازنات. وبسبب هذه الصعوبة, ذهبت كثير من الديمقراطيات الجديدة سريعاً, وكأنها لم تولد إلا لتموت.

في بداية القرن العشرين كان هناك بضع دول ذات نظام ديمقراطي، وبعد بضع سنوات من بداية هذا القرن عمّت العالم موجة جديدة من الديمقراطيات. بدأ ذلك مع ثورة ديمقراطية في روسيا عام 1905, ثم تبعتها الدولة العثمانية وإيران والصين والمكسيك والبرتغال.

تميزت كل واحدة من هذه الحركات الديمقراطية بأنها زلزلت الحكم الأوتوقراطي, حكم الفرد المطلق المتجذر في بلدانها بسرعة مباغتة، وقامت بإنشاء البرلمانات ودعت إلى الانتخابات وأطلقت حرية التجمع والصحافة.

هذه الدول نبتت فيها الديمقراطية فجأة, ولم يكن لديها مناخ مناسب يساعد في تثبيتها. فشلت هذه الديمقراطيات في البقاء بعد سنوات قليلة من قيامها، فكل واحدة منها قامت عليها ثورة مضادة أسقطتها بدعوى أنها فشلت في تحقيق الحقوق والحرية التي وعدت بها، ما عدا ديمقراطية البرتغال التي أفلحت في البقاء بعد الثورة عليها, ولكن تقوّض برلمانها في ما بعد (عام 1926).

وفي إيران والدولة العثمانية كان هناك رواج "للمشروطية", وهذه المفردة لا تعني بالضبط أهداف الديمقراطية, ولكنها تتشارك معها في بعض الأهداف, مثل تحجيم الحكم المطلق, والتأسيس لانتخابات تنافسية.

والنموذج العثماني مثال واضح على أن النخبة التي تحوز السلطة تفسد العملية الديمقراطية كلها. لقد فشلت الحركة الديمقراطية سريعا في الدولة العثمانية, بعدما أتت نتيجة إصلاح متأخر من السلطان عبد الحميد.

فجمعية الاتحاد والترقي التي حازت أغلبية نيابية بعد الثورة الإصلاحية عام 1908 لم يرق لها الأمر حين خافت من تقلص شعبيتها لاحقا, وقامت بثورة أخرى عام 1909 خلعت فيها السلطان عبد الحميد, وأصبحت لها سيطرة مطلقة على الدولة.

واليوم, هناك توجس من أن ينتج في العراق استفراد نخبوي بالسلطة يشبه ما حدث في ديمقراطية العراق السابقة.


"
عوارض كثيرة تقف ضد نبتة العراق الديمقراطية اليوم، ومن أهمها سيطرة نخبة وطبقة معينة على مفاصل الحياة السياسية العراقية
"

العراق.. درس تاريخي
قبل نحو قرن من الزمان, كان العراق واقعا تحت الاحتلال البريطاني كما هو اليوم تحت الاحتلال الأميركي، ثم تهيأت له مع بدايات تأسيسه كدولة ذات نظام ملكي دستوري, تجربة ديمقراطية لا تخلو من عبر.

يخبر المؤرخ مجيد خدوري في كتابه "العراق المستقل" أن التفاؤل كان يسود أجواء البدايات في العراق في تلك الفترة. فبحسب المعايير القائمة في ذلك الوقت, حاز العراق شكلاً حديثاً ومنظماً للدولة ولهيكل مؤسساتها, وشهد مشاركة شعبية واسعة بعد أن توافقت الكثير من القوى على الملك فيصل بن الحسين كقائد مناسب للعراق.

دلت الملامح على أن العراق الملكي (1921-1958) شهد تجربة ديمقراطية تمثلت في الحركة البرلمانية النشطة, ووجود الأحزاب المعارضة, إضافة إلى حرية الصحافة.. ولكن مع هذا, معنى الديمقراطية في العراق في العشرينيات, كان يختلف عنه في الثلاثينيات وعنه في الأربعينيات!

ففي العشرينيات كان العراق تحت الاحتلال البريطاني, وهذا ما ولّد توحيداً والتحاماً للقوى العراقية وجميع أطياف الشعب للتخلص من المحتل, وما دفع إلى إنجاح بعض مظاهر الديمقراطية تحت حكم فيصل.

وفي الثلاثينيات وبعد الحصول على الاستقلال, والموت المفاجئ لفيصل, برز على السطح صراع حاد بين جناحي النخبة الشريفية الحاكمة تغلبت فيه أخيراً نخبة نوري السعيد التي ساندتها بريطانيا, على النخبة الأخرى لياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني التي رفضت أي تدخل بريطاني.

وبدأت تبرز مظاهر استفراد هذه النخبة بالسلطة وتكسيرها لمجاديف الديمقراطية في العراق من خلال منع الأحزاب المعارضة, وحل مجلس النواب لعدة مرات, وإلغاء صحافة المعارضة.

وفي الأربعينيات, واصلت هذه النخبة استفرادها وسيطرتها على الساحة السياسية العراقية بشكل أعمق, خصوصاً بعد أن ساعدتها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية, وظلت كذلك حتى اقتلعتها ثورة العام 1958.

وللتدليل على حالة الاستفراد بالسلطة, يذكر نزار الحسو في كتابه "الصراع على السلطة في العراق الملكي.. 1984" أنه في خلال هذه العقود الأربعة مر على العراق الملكي 58 وزارة, و780 منصباً رسمياً في الحكومة, و166 شخصاً فقط هم من شغلوا هذه المناصب.

وهذا يدل على التكرار والتداول الحصري للمناصب داخل هذه النخبة، فرئيس وزراء مثل نوري السعيد شغل خلال هذه الفترة 47 منصباً حكومياً, بينما توفيق السويدي شغل 19 منصبا.

في هذا المثال التاريخي يتبين لنا أن ما أمات ديمقراطية العراق السابقة لم يكن القوة الأجنبية, ولا القبائل أو الجيش, ولا طبقات الأعيان أو التجار, ولا جموع الجماهير المنتظرة.. ما أماتها هو استفراد النخبة الحاكمة بالسلطة, وإفسادها للديمقراطية التي أتت معها.

يوضح عبد الوهاب رشيد في كتابه "التحول الديمقراطي في العراق.. 2006" أن النظام العراقي في تلك الفترة جسّد الحكم في بضعة أشخاص كانوا مدعومين بالعائلات والقبائل القوية ولم يكونوا يتورعون عن استخدام القبائل أو الجيش لفرض سلطتهم.


"
النخبة السابقة أفسدت ديمقراطية العراق عبر إضعافها للحياة النيابية وكتمها للحريات، وهذه هي علة الديمقراطية المتربصة بعراق اليوم, والتي تحتاج إلى جهد مستديم من التنبه والرقابة
"

عين على الديمقراطية
عوارض كثيرة تقف ضد نبتة العراق الديمقراطية اليوم، ومن أهمها سيطرة نخبة وطبقة معينة على مفاصل الحياة السياسية في العراق.

مؤخرا انشغل المشهد السياسي في العراق بأنباء تظهر وتختفي بأن دولة القانون وحزب الدعوة وافقا أخيراً على تبديل المالكي كمرشح لهما لرئاسة الوزراء, بعد أن شاهدا كثرة الممانعة ضده!! وهذا التصرف بحد ذاته يعكس كيف أنهما يتصرفان وكأنهما فازا بالأغلبية, ويوضح أنهما يشكلان نخبة لا تزال ترى أنها هي من يدير العراق, وأنها احتكرت هذا المنصب سلفا.

الكثير ينتظر تشكيل الحكومة لتنتهي المشكلة, لكن الحقيقة أن المشكلة قد تبدأ بعد تشكل الحكومة, إذا استفردت بالسلطة طبقة معينة مدعومة!

من المهم أن لا تُفصَّل الديمقراطية ونظامها على نخبة واحدة.. هذا ما فعلته بريطانيا في السابق, حين فصّلت الديمقراطية على مقاس النخبة الشريفية, فقد رأت -حسب ما جاء في تقاريرها- أن تدعم قوة واحدة تدير لها البلد, وتكفيها عناء التعامل مع القوى المختلفة فيه.

وهذا ما يحدث اليوم حين تمارس الولايات المتحدة الضغط من أجل اختيار المالكي ودعم حزبه لسنوات أخرى مماثلة, فتتم الاستفادة بذلك من عامل الزمن, ويتم ترسيم نخبة معينة وخط محدد لإدارة البلد.

ولم يحدث أن القوى الخارجية استطاعت استغلال بلد يكون الرأي فيه بيد الشعب, لذا تعمل القوى الخارجية دوما على خلق نخبة مهيمنة تتواطأ معها.

صحيح أن حكومة العراق تحوي تنوعاً بداخلها اليوم, لكن هذا التنوع مشابه لتنوع الحكومة في بدايات الديمقراطية السابقة, والذي سريعاً ما تستحوذ عليه نخبة مدعومة.

النخبة السابقة أفسدت ديمقراطية العراق عبر إضعافها للحياة النيابية, وكتمها للحريات, وتجويز التداخل بين السلطات, وتقليلها لدور المحاسبة والمراقبة, وعدم تحريمها للعنف والاحتكار السياسي, إضافة إلى جعل نفسها ذاتاً محورية للبلد.. وهذه هي علة الديمقراطية المتربصة بعراق اليوم, والتي تحتاج إلى جهد مستديم من التنبه والرقابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.