مثلث التوازن في الشرق الأوسط

مثلث التوازن في الشرق الأوسط / إبراهيم عجوة



الغرب وحامل التوازن الإقليمي في الحرب الباردة
دور إسرائيل المركزي في معادلة التنافس
أوباما وإعادة إنتاج التحالف التقليدي
جبر الضلع العربي المكسور ممكن أم مستحيل؟

التناقضات التي هي جزء من طبيعة الحياة، تتطور أحيانا لتتحول إلى مآزق، تستدعي عملية حلها السير على حافة ضيقة بين أزواج مرتبة من الهوات، فإما السقوط في أحد عناصر هذه الأزواج المرتبة وإما الخروج بحل ينتقل بحالة الصراع انتقالا نوعيا بالاستفادة من الجمع الكيفي بين الإيجابيات الكامنة في عنصري التناقض، العبقرية القيادية لأي طرف سياسي تكمن في قدرته على إدارة مأزق التناقض والتنوع وعدم السقوط من على حافة الهاوية.

الحقل الدبلوماسي الدولي، فيما يتعلق بالشرق الأوسط، ما زال يزدحم بمفردات التهديد والوعيد، ومفردات المجابهة والعقوبات، ومفردات الحروب الطائفية، ومفردات الصراع بأشكالها المختلفة.

إسرائيل تلوح بضرب إيران، وسوريا ولبنان وغزة، أميركا تفرض عقوبات جديدة على طهران وتلوح بتشديدها، إيران وإسرائيل تناوران بكامل طاقتهما العسكرية استعدادا لحرب محتلمة. سوريا وحزب الله يردون على التهديدات الإسرائيلية بتدمير لن تستطيع إسرائيل احتماله. العراق مثقل بمفردات الحرب الأهلية والاحتلال والمقاومة، اليمن يريدون له الاصطفاف على حواف الدولة الفاشلة، في حين صنف الصومال على أنه كذلك، السودان يقف على حواف التقسيم أو الحرب، تركيا تدفع دما مقدما ثمنا للدخول المرتجى على معادلة التوازن، وإسرائيل تصفع تركيا بكامل الكف، إيران تهدد بإزالة إسرائيل من الخريطة طالما بقيت عقبة في طريق مركزية دورها في معادلة التوازن المرتقبة في الشرق الأوسط، وفي حال الاعتداء عليها فإن الجميع دون استثناء سيكون تحت طائلة السقوط في الهاوية.

كل هذا المشهد المهدد بالسقوط في الهاوية، يبدو متسقا مع سعي المراكز الدولية الحثيث، وبتأثير واضح ووازن من الولايات المتحدة الأميركية، من أجل ترتيب المنطقة لتصل إلى حالة من الاستقرار على مقاساتها، أو ربما حالة من التوازن المؤقت والهش ريثما يتم تكييف المنطقة.

فهل سيؤدي هذا المشهد إلى سقوط أحد الأطراف في خيار الهاوية ما يؤدي بالضرورة إلى هز المشهد وتساقط الآخرين معه، أم أن هذا من طبيعة السير على حواف الهاوية قبل تسوية التناقض؟ وما الضرورات الموضوعية لعدم السقوط والسماح بمرحلة استقرار ممتدة نسبيا؟

الغرب وحامل التوازن الإقليمي في الحرب الباردة
طوال الحرب الباردة اعتمد الغرب "معادلة توازن قوة" في منطقة الشرق الأوسط مرتكزة على ضلعين رئيسيين هما إيران وتركيا، وشكل هو الضلع الثالث من خلال أداته الرئيسة المتمثلة في الكيان الصهيوني. وأصر هذا الغرب على إبقاء الضلع العربي المفترض الوجود والموضوعي مكسورا ومطوقا بمثلث القوة الرهيب ذاك.

"
طوال الحرب الباردة اعتمد الغرب "معادلة توازن قوة" في منطقة الشرق الأوسط مرتكزة على ضلعين رئيسيين هما إيران وتركيا، وشكّل هو الضلع الثالث من خلال أداته الرئيسة المتمثلة في الكيان الصهيوني
"

فإيران الشاهنشاهية قامت بدور حارس المصالح الغربية على امتداد دول الخليج، بينما قامت إسرائيل ومن خلال تحالفها مع الضلعين الآخرين والدعم الغربي بدور حارس التجزئة والتخلف والتبعية وحارس المصالح الغربية في منطقة الهلال الخصيب وشمال أفريقيا. أما تركيا الأتاتوركية الطورانية فقد قامت بدور رأس الحربة في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز في مواجهة الاتحاد السوفياتي ودور الداعم لضلعي القوة الآخرين في الشرق الأوسط.

لم يكن الضلع العربي حاضرا في هذه المعادلة، بل كان هدفا للتكسير الدائم، خاصة عندما حاولت مصر الناصرية أن تفرضه على المعادلة من خلال الصراع. فكان العدوان الثلاثي عام 1956، تلاه ضربة فك الوحدة السورية المصرية، ثم كانت هزيمة 1967.

بتحول مصر الناصرية إلى مصر الساداتية واغتيال نصر أكتوبر 1973، وتوظيفه في عملية استبدال الدور المصري من خلال التصالح مع إسرائيل، والدخول مع الغرب في مساومة على صناعة محور قوة ثلاثي من محتويات الضلع المكسور، تشكل من مصر والسعودية والإسلام السياسي السني ليأخذ دورا في معادلة الصراع مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وجنوب شرق آسيا والقوقاز إلى جانب تركيا وآخرين تحت شعار المواجهة مع الإلحاد، الذي استبقه السادات بإعلان نفسه رئيسا مؤمنا.

اختلف الوضع اليوم، فإيران لم تعد إيران الشاهنشاهية، وتركيا لم تعد تركيا الأتاتوركية. هناك عالم ما بعد الحرب الباردة وقبيل انتهائها. صحيح أن المصالح الجيوبوليتيكية والإستراتيجية للدول والأمم واحدة، ولكن مقارباتها مختلفة باختلاف النظام السياسي الحاكم ورؤيته لذاته كأمة ولدولتها ورسالتها.

لذلك فإن المحاولات الأميركية لإعادة إنتاج نفس مثلث القوة لم يعد ممكنا دون تقديم تنازلات من الطرف الأميركي مختلفة عن تلك المقدمة منه أثناء الحرب الباردة. فالقبضة الأميركية تتراخى أمام المنافسين الأصدقاء فكيف أمام من يصنفون من قبل أميركا بالأعداء، فلمن ستقدم أميركا التنازل، وما ملامحه؟

دور إسرائيل المركزي في معادلة التنافس
يمكن ملاحظة دور إسرائيل المركزي في معادلة التنافس على حافة الهاوية من خلال تقديرات الموقف التي تصدر عن أطراف مختلفة حول إمكانية اشتعال الحرب في المنطقة، كل الحروب المحتملة في المنطقة ستكون إسرائيل طرفا فاعلا وصانعا فيها، وسيكون الهدف هو إبقاء الضلع العربي خارج مثلث القوة وعدم السماح للضلعين الآخرين الإيراني والتركي بالدخول على المعادلة إلا من خلال البوابة الإسرائيلية والمساومة معها كما كانت عليه الحال في الحرب الباردة.

والجميع يتحدث الآن عن ثلاثة سيناريوهات للحرب، فإما حرب شاملة تخوضها إسرائيل مع أحد أطراف التحالف الثلاثي سوريا وإيران وحزب الله أو معهم مجتمعين، ما سيفتح الباب أمام إمكانية دخول أطراف أخرى على معادلة الحرب وبالتالي تحولها إلى حرب إقليمية شاملة. أو أن تلجأ إسرائيل إلى حرب محدودة من خلال ضربات نوعية تستهدف فيها منشآت نووية إيرانية، أو منشآت حيوية سورية، وهذا قد لا يبقي الحرب محدودة كما تريدها إسرائيل بل قد يفتحها على نفس السيناريو الأول.

أما السيناريو الثالث فهو بقاء التوازن الهش القائم الآن، وهذا مستبعد، كون الوقت لا يخدم بقاء هذا التوازن الهش، خاصة أن الجميع يحضر نفسه للاحتمال الأسوأ، أو أن هذا الانتظار في إحدى وظائفه انتظار مؤقت على أمل الوصول إلى حلول مرضية للجميع، وقابلة للاستمرار زمنا أطول نسبيا.

أوباما وإعادة إنتاج التحالف التقليدي

"
أميركا تراوح في إدارتها بين هاويتين: هاوية الموت على الرصيف وهاوية إعادة إنتاج دورها من خلال تسوية النزاعات سلميا ولعب دور الحمامة، أو إبادة الشعوب وإخضاع الدول بالقوة والقهر, فهل ستختار أميركا السقوط في الهوة الأولى أم الثانية؟
"

لم يتغير شيء في إستراتيجية المشروع الغربي عموما، والأميركي خصوصا، فالمشروع الأميركي العولمي ما زال قائما وما زالت أميركا عاجزة عن التخلي عن دور القائد للمنظومة الدولية بعد انتصارها في الحرب الباردة بل هي غير راغبة في ذلك. وهو أمر منطقي إذا ما حوكم بفوارق التفوق الاقتصادي والسياسي والعسكري الأميركي التي تحتم من وجهة النظر الأميركية سيادة مطلقة على العالم وقيادته وفق منظومة المصالح والرؤى الأميركية.

أميركا لم يعد أمامها خيار سوى فرض أجندتها أو التراجع أمام الحلفاء قبل الأعداء، ما قد يعني مقدمة التراجع إلى صفوف خلفية في مشهد القيادة الدولي. وما قد يعني أيضا في أحد تجلياته الاستعداد للموت على الرصيف. وهذا ما لا يقبله المنطق السوي لصراع القوى، لذلك فأميركا أحوج ما تكون اليوم لتوظيف قوتها من أجل استمرار الهيمنة وعدم السماح لنفسها بالموت على رصيف المشهد الجديد للقوى الدولية.

ومن هنا فإن أميركا تراوح في إدارتها بين هاويتين: هاوية الموت على الرصيف وهاوية إعادة إنتاج دورها من خلال تسوية النزاعات سلميا ولعب دور الحمامة، أو إبادة الشعوب وإخضاع الدول بالقوة والقهر ولعب دور الصقر في هذه الحالة، وعلى الجميع حينها أن يختار، فهل ستختار أميركا السقوط في الهوة الأولى أم الثانية؟

باعتقادنا أن الهوة الأولى لا يسقط فيها أي طرف مهما بلغ من الجنون أو السذاجة، أما الهوة الثانية فليس من السهل أن تستمر أميركا في السير باتجاهها وتحميل الكلفة على حساب الحلفاء والأعداء، ستجد أميركا نفسها شاءت أم أبت مضطرة لإبداع حل آخر من خلال الثبات على حافة الهاوية وصناعة حل إبداعي يرتكز على قوتها وينتقل بالوضع الشرق أوسطي والدولي خطوة للأمام وللأفضل.

أميركا ما زالت متمسكة بشريك إستراتيجي واحد ترى أن باستطاعتها الاعتماد عليه في الشرق الأوسط رغم الكثير من الحلفاء الإستراتيجيين والأتباع الذين تسميهم أصدقاء، هذا الشريك هو ما يسمى دولة إسرائيل التي تعتقد أميركا أن بإمكانها إخضاع الجميع لصالح مكونات التحالف الإستراتيجي معها.

لقد وجدت أميركا نفسها ملزمة ومن منطقها نفسه أن تسعى إلى التقليل من طموحات إسرائيل الإمبراطورية وتسعى إلى ترويضها حتى تستطيع إعادة ترتيب تحالفاتها وأوراقها الشرق أوسطية مع الحلفاء والأعداء، وتستطيع استكمال تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، وترتيب أعبائها عربيا. وريثما يتم التأكد من إعادة تشغيل الضلع العربي خارج معادلة الشرق الأوسط من خلال مفهوم "إزاحة العدو" أو استبداله، أو أن يقبل بالبقاء كشظايا مركبة وظيفية في ترويض بعض القوى الإقليمية غير القابلة للترويض. الحراك الأميركي والمواقف فيما يتعلق بالمنطقة يشي كله بهذا السيناريو.

جبر الضلع العربي المكسور ممكن أم مستحيل؟
ما دامت المنطقة العربية تحديدا تعيش حالة التمزق الذي يملأ المشهد الراهن، وما دام مثلث القوة العربي المركزي المتمثل في مصر وسوريا والسعودية في حالة تفكك، وطالما أن مصر بنظامها السياسي الحالي غير قادرة على أخذ دورها العربي القيادي، فإنها بالضرورة ستكون عاجزة عن تشكيل الضلع الثالث لمركب القوة التركي الإيراني.

هذا التشكيل الذي يعد بحق الخيار الأمثل القادر على سد الطريق أمام كل أشكال العبث المحتمل من الأعداء والذي قد يكون مفتوحاً ومغريا ومغويا أيضا لتجريب الأصدقاء. وسنكون كعرب حينها عاجزين عن التفاهم مع تركيا وإيران وستستبدل مصر مبارك دور مصر السادات كما سبق واستبدل هو دور مصر عبد الناصر بعد حرب أكتوبر، وسيكون هذا الاستبدال شكلا من أشكال تصفية الذات وإضعافا لمراكز القوة الإقليمية الأخرى لصالح العدو الرئيسي.

لعل من الحكمة السياسية أن تتجه مصر لأخذ دور مركزي من خلال التفاهم السعودي المصري السوري، الذي سيأخذ مكانه في تفاهمات متوازنة مع إيران وتركيا بعيدا عن إرث الماضي. هذا التفاهم من شأنه أن يفرض على الطرفين التخلي عن الطموحات المفترضة التي تتخوف منها بعض الأطراف العربية إن وجدت مثل تلك الطموحات.

"
على العرب عدم التسليم بمنطق تغيير العدو والقبول بالتسوية المستحيلة مع الكيان الصهيوني بل العبور في التفاهمات الممكنة والضرورية مع الجيران الإيرانيين والأتراك حتى لا يجد الأخيرون أنفسهم أمام خيارات حافة الهاوية
"

كما أن على الإسلام السياسي السني أن يكف عن خوض الصراع من موقع الباحث عن دور إلى موقع الصانع للدور ومن موقع التمحور المؤدي للتشظي، إلى موقع الغراء المؤدي للوحدة الضرورية، وبشكل جوهري المشارك في إعادة إنتاج البعد القومي مرتكزا للبعد الديني لا أن يسعى لأخذ الدور على حساب البعد القومي فندفع الثمن مرتين، بخسارة تغييب هويتنا القومية ثم فشلنا الإسلامي كما حصل معنا في معركة أفغانستان ضد الإلحاد.

أميركا المرتبكة على حافة الهاوية تسعى لإدارة المأزق بالخداع، ومن خلال أوباما الخادع شكلا والملتبس مضمونا والذي ما زال عاجزا حتى على حمل برنامج هيئة الطوارئ العليا "بيكر هاملتون"، بل إنه عاجز عن تجاوز بقايا سقطات بوش والمحافظين الجدد ومراكز نفوذهم.

ففي الوقت الذي دعت فيه وثيقة بيكر هاملتون بما هي رؤية إستراتيجية عليا للجمهوريين والديمقراطيين إلى الاعتراف بالنظامين السوري والإيراني والاعتراف بمصالحهما الحيوية على قاعدة التفاوض، فإن أوباما يدعونا إلى "إزاحة العدو" أو استبداله، والتعامل مع إيران عدوا بدل إسرائيل، باعتبار أن هذا العدو ربما يكون التعامل معه أسهل نتيجة وجود أميركا إلى جانبنا بينما في حالة إسرائيل نحن نواجهها مع أميركا، وهذا ما لا طاقة لنا به.

على العرب عدم التسليم بمنطق تغيير العدو والقبول بالتسوية المستحيلة مع الكيان الصهيوني بل العبور في التفاهمات الممكنة والضرورية مع الجيران الإيرانيين والأتراك حتى لا يجد الأخيرون أنفسهم أمام خيارات حافة الهاوية ما يدفعهم لصفقة إعادة الإنتاج لمثلث القوة التقليدي على حساب المصالح العربية والمستقبل العربي.

فالوصول إلى هذه التفاهمات هو جوهر المصالح العربية الإستراتيجية وليس الوصول إلى تفاهمات مع كيان افتعل على حساب مصالحنا ووجد من أجل تأبيد استكانتنا وتبعيتنا وتمزقنا كشرط أساسي ووحيد لوجوده وبقائه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.