ماذا يريد أكراد العراق.. فدرالية أم كونفدرالية؟

ماذا يريد أكراد العراق.. فدرالية أم كونفدرالية؟ / فاضل الربيعي



يغني أكراد العراق أغنية "الفدرالية" بصوت عال. لا ضير في ذلك. الأغنية طويلة بعض الشيء لأنها مؤلفة من مقطعين يبدوان متشابهين ومتناقضين في آن واحد. حسنا، لكن المشكلة ليست هنا. المشكلة أن الأغنية قد تطول أكثر مما تحتمل أوضاع العراق ما دام هناك مقطع فدرالي طويل، وآخر "كونفدرالي" يعلم الله وحده متى ينتهي.

"
يكمن مأزق الخطاب السياسي الكردي في التصعيد الشعريّ المفعم بالحماسة والعواطف الرومانسية لمطلب الفدرالية, وفي الوقت ذاته يقوم بتصعيد مطالبات كونفدرالية لا أول لها ولا آخر
"

في الواقع لم يعد السؤال المطروح اليوم حول مطالب أكراد العراق متعلقا بتحديد وتعيين نوع وطبيعة المطالب المشروعة. لقد تحددّت هذه المطالب وتعينت بدقة منذ وقت طويل، حتى غدت أهدافا سياسية وثقافية كبرى، يتطلع الشعب الكردي إلى تحقيقها بكل الوسائل المتاحة، وبعضها مشروع ويستحق التأييد والتعاطف دون أدنى شك. بيد أن السؤال مع ذلك يظل قائما: وماذا يريد أكراد العراق أيضا؟ أي ماذا يريدون بعد ذلك؟ وهذا سؤال جوهري يتعلق بتحديد وحسم الخيارات التاريخية لا المطالب السياسية فحسب، مثلا: هل يريدون فدرالية كردستان المستقلة أم يسعون إلى ما يشبه "الكونفدرالية" والبقاء ضمن العراق الموحد؟

إن مأزق الخطاب السياسي الكردي يكمن هنا، فهو يقوم بتصعيد شعريّ مفعم بالحماسة والعواطف الرومانسية لمطلب الفدرالية الذي أصبح هدفا مقدسا لا يجوز بأي شكل من الأشكال المساس به، ويقوم في الآن ذاته بتصعيد مطالبات كونفدرالية لا أول لها ولا آخر، أساسها السعي للحصول على حصص كبيرة في المركز من بينها إبقاء منصب رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية ورئاسة أركان الجيش ووزارات سيادية أخرى حكرا على شخصيات كردية، أي تحقيق مكاسب، تمكنهم في وقت واحد من إدارة الإقليم الفدرالي والدولة المركزية معا. وهو ما يثير نوعا من الغموض والالتباس وحتى الشعور بالغبن وبأنهم يريدون البيضة والقشرة.

هذا التناقض في الخطاب السياسي الكردي يستحق نقاشا موضوعيا هادئا, إذ لا يمكن من الناحية الواقعية تشكيل الإقليم فدراليا وقيادته وتحويله إلى ما يشبه "دولة داخل الدولة"، وفي الوقت عينه الحصول على امتيازات ومكاسب في إدارة المركز. إن أزمة تشكيل "حكومة خامسة تحت الاحتلال"، في جوهرها ومن هذا المنظور، سوف تبدو أزمة تفاهم مع الأكراد بأكثر مما هي مشكلة تفاهم بين علاوي والمالكي.

كما أنها يمكن أن تتبدى في بعض أوجهها كمشكلة شخصية تتعلق بدور زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني، المريض جدا والضعيف سياسيا. وماذا نفعل بجلال، هل نرسله إلى السليمانية؟ الجميع يسأل مثل هذا السؤال وهو يفاوض على تقاسم المناصب، ذلك أن خروج منصب رئيس الجمهورية من بين يديه وعودته إلى مقره الأصلي في السليمانية قد يفجر تناقضات وخلافات دامية بشأن مسألة إدارة الإقليم بين الاتحاد الوطني الذي يقوده، وبين الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، بل قد يفجر صراعا مريرا داخل الاتحاد الوطني الكردستاني نفسه. وأكثر من ذلك، قد يتحول إلى "حرب أهلية صغيرة" داخل مدينة السليمانية بين حزب جلال وحركة التغيير التي يقودها منافسه وخصمه ومساعده القديم نوشروان مصطفى.

لقد حدثت خلال وبعد انتخابات مارس/آذار الماضي متغيّرات دراماتيكية في معقل جلال الطالباني، وذلك عندما تمكن نوشروان مصطفى من تحقيق وجود فاعل، سياسي وتنظيمي، في الأوساط الشبابية المدنية، بينما ظل ريف المدينة في قبضة حزب جلال، وهو أمر يمكن له أن يشكل مادة في صراع من نوع جديد: الريف التقليدي بولائه التاريخي للطالباني في مواجهة المدينة الحديثة ونخبها الشبابية المتطلعة إلى التغيير ورمزه الجديد.

ولذلك، يمكن التكهن بالمسار الذي تتجه إليه أزمة تشكيل الحكومة خلال المرحلة المقبلة، لا بوصفها أزمة تفاهم بين المالكي وعلاوي، وإنما بوصفها خلاصة ونتاج أزمة أخرى مع الأكراد، وهي مرشحة للتحول إلى أزمة مركبة بين الحزبين الكرديين وشركائهم في الأحزاب الحاكمة من جهة، وداخل الحزبين الرئيسيين في كردستان من جهة أخرى.

"
خسارة الطالباني لمنصب الرئاسة وعودته إلى السليمانية تعني تزايد احتمالات تفجر الأوضاع في كردستان بين الحزبين الرئيسيين بشأن إدارة الإقليم وتقاسم الثروات النفطية وعائدات الجمارك
"

وهذا ما يفسر لنا سرّ حماسة البارزاني وإصراره على بقاء منصب رئيس الجمهورية في يد الطالباني. إن هذا الإصرار لا يعبر عن غرام شخصي مفاجئ وقع فيه الخصمان القديمان، بمقدار ما يكشف عن مخاوف وهواجس حقيقية من تداعيات خسارة الأكراد لمنافع "الالتباس" و"الغموض" في خطابهم السياسي، ذلك أن خسارة هذا المنصب وعودة الطالباني إلى السليمانية تعني تزايد احتمالات تفجر الأوضاع في كردستان بين الحزبين الرئيسيين بشأن إدارة الإقليم وتقاسم الثروات النفطية وعائدات الجمارك، أي تزايد فرص وظروف تفجر حرب أهلية كردية تشارك فيها أطراف جديدة.

الطالباني من جانبه سوف يقاتل إلى النهاية بدعم من مسعود من أجل بقاء المنصب بين يديه، لتجنب هذا الاحتمال وتفادي مواجهة مبكرة مع منافسه نوشروان مصطفى حول مستقبل السليمانية. وبعض هذه المخاوف والهواجس يدور حول احتمال أن تنقسم "فدرالية" كردستان بفعل حرب داخلية محتملة إلى قسمين، تماما كما انقسمت الأغنية إلى مقطعين. دويلة "دهوك-أربيل" بزعامة مسعود البارزاني، و"دويلة السليمانية" بقيادة جلال الطالباني.

الملاحظات التالية يمكنها أن ترسم ملامح أزمة الخطاب الكردي:

أولا: كيف تؤدي المطالب الجغرافية إلى تناقض صارخ مع المطالب السياسية؟

إن الالتباس والتناقض في الخطاب السياسي الكردي، بين المطالب القومية (الجغرافية) بالتوسع الإداري للإقليم وضمّ كركوك والموصل وصولا إلى أطراف بغداد الشرقية، وبين المطالب السياسية بتثبيت حق إدارة المركز وحصره في يد الطالباني، ليس مجرد التباس أو تناقض عابر يمكن حله بتعديل أو تلطيف هذا الجانب من المطالب أو ذاك، بل هو تناقض مصمّم لحصد وجنيّ منافع كثيرة، منها تفادي تطورات مأسوية متوقعة في الإقليم قد تعصف بمستقبل الفدرالية الكردية كمشروع.

إنه تناقض تمت هندسته بعناية، ووظيفته أن يصبح صمام أمان لمنع وقوع الأكراد ضحية صراع مرير ودام، وأن يكون مصدرا لإشاعة شعور عارم في الأوساط الشعبية بقدرة الحزبين على المناورة واغتنام الفرصة الذهبية وانتزاع أكثر ما يمكن من المكاسب والامتيازات من قبضة بغداد المتراخية.

ولذلك، لم يقدم الحزبان الكرديان (الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني) حتى اللحظة أي مقاربة سياسية وفكرية (وقانونية) للفصل بين مطلب الفدرالية، أي قيام الإقليم الكردي كدولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، وبين مطالب الكونفدرالية التي تتمثل في الحصول على مكاسب في الحكومة المركزية. أي هل يريدون فدرالية من العراق الممزق أم كونفدرالية معه؟ ويبدو أن هذا الفصل بات مستحيلا مع تعقد مشكلة قيام فدرالية كردستان نفسها التي باتت تصطدم بمشكلات داخلية وإقليمية، قد تجعل من تحقيقها الآن أو في المستقبل المنظور أمرا مستحيلا.

ثانيا: الهروب إلى الأمام كحل مثالي لتجنب مواجهة الواقع؟

"
الحزبان الكرديان يمارسان سياسة خداع وتضليل للشعب الكردي بأسره، وهما لا يكاشفانه بالحقيقة والقول له وبوضوح إن مشكلة قيام كردستان فدرالية وموحدة ليست ولم تكن مشكلة العراق المركزي
"

إن الفشل في تقديم معالجة سياسية وفكرية وحتى قانونية لهذا التناقض في المطالب، هو تجسيد لسياسة الهروب إلى أمام، بمواصلة الترويج لشعارات غير قابلة للتحقق، بل وتجسيد لفشل الحزبين الكرديين في تنفيذ وعد الفدرالية نفسه. وبالفعل، فما الذي يمنع الحزبان من إعلان الفدرالية الكردية رسميا؟ العراق المركزي؟ إنه أضعف من أن يقاوم أي محاولة للإعلان رسميا عن قيام كردستان الفدرالية. المالكي لا يملك جيش صدام القوي ولا آلة دولته التي كان بإمكانها باستمرار منع ووقف تطور من هذا النوع. ما يمنع الأكراد، حقيقة، عوامل وظروف وقوى إقليمية ودولية وداخلية ليس من بينها حالة العراق الراهنة، وهي ظروف وأوضاع لا تسمح بقيام "فدرالية كردستان الموحدة"، ولكنها يمكن أن تسمح في وقت ما بفدراليتين كرديتين ضعيفتين، إحداهما في أربيل ودهوك تحت المظلة التركية، وأخرى في السليمانية تحت المظلة الإيرانية.

إن الحزبين الكرديين يمارسان سياسة خداع وتضليل للشعب الكردي بأسره، وهما لا يكاشفانه بالحقيقة والقول له وبوضوح إن مشكلة قيام كردستان فدرالية وموحدة ليست ولم تكن مشكلة العراق المركزي. لهذا السبب يحافظ الخطاب السياسي الكردي بقوة على جوهر التناقض ويقوم بتطويره دون توقف.

ثالثا: هل الرئيس الكردي رئيس لكل العراقيين أم "لبعض" الأكراد؟

إن مطالب الأكراد بمكاسب "جغرافية"، مثلا ضمّ كركوك والموصل وخانقين وديالى وصولا إلى بدرة وجصّان وتخوم بغداد الشرقية، وهي مطالب يقودها رئيس الجمهورية جلال الطالباني بنفسه وبدعم مباشر من حليفه ومنافسه مسعود البارزاني، تؤدي في كل لحظة إلى نشوء تناقض صارخ آخر، فرئيس الدولة المركزية يقود حرب "استقلال" غير معلنة ومن داخل الدولة المركزية لصالح إقليمه. وهذا وضع شاذ وغريب، إذ كيف يمكن لرئيس الجمهورية الكردي الموافقة دستوريا على توسع الإقليم الفدرالي من دون أن يتخلى عن دوره كزعيم للعراق وبحيث يبلغ إقليمه تخوم بغداد أي العاصمة التي يقود منها البلاد؟ وهل بتصرفه على هذا النحو يكون قد جسّد شخصية الزعيم الوطني العراقي أم شخصية الزعيم الكردي؟ وهل سيظل -في هذه الحالة- زعيما لكل العراقيين أم زعيما لكل الأكراد؟ وكيف سيتصرف في حال إقرار "الفدرالية الكردية" رسميا؟ هل سيقدم نفسه للعراقيين بوصفه ممثل الإقليم الذي يشغل منصب رئيس جمهورية، أم الزعيم الكونفدرالي الذي يحكم المركز منفردا ويحكم الإقليم بالشراكة مع مسعود؟ وهل يمكن له أن يجمع بين الشخصيتين الدستوريتين المتناقضتين، شخصية الرئيس الفدرالي والرئيس الكونفدرالي؟

إن مطالبة رئيس الجمهورية جلال الطالباني بتطبيق المادة 140 من الدستور الدائم، وهي مادة مؤقتة لا سابق لها في كل دساتير العالم مررها نوح فيلدمان بدهاء، تعني من بين ما تعنيه أن رئيس الجمهورية المكلف دستوريا بتسمية رئيس الوزراء في الدولة المركزية يفاوض هذه الحكومة سلفا على منحه حق فصل جزء من الدولة وضمّه إلى إقليمه، أي ضمّه إلى دولته الأخرى التي يريد لها أن تترعرع في حضن الدولة المركزية. ولكن، كيف يمكن دستوريا لرئيس الجمهورية أن يقود مفاوضات تشكيل الحكومة وهو لا يتصرف كرئيس للعراقيين، بل كزعيم كردي يخوض حرب استقلال جديدة؟

"
كيف يمكن دستوريا لرئيس الجمهورية أن يقود مفاوضات تشكيل الحكومة وهو لا يتصرف كرئيس للعراقيين، بل كزعيم كردي يخوض حرب استقلال جديدة؟
"

يروي لي الشيخ جوهر الهركي(الأمين العام لحزب الحرية والعدالة الكردستاني ونجل رئيس العشائر الهركية في شمال العراق الشيخ الراحل محيي الدين) الطرفة التالية: كان هناك كرديان طيّبان يصعدان الجبل، فقال أحدهما متسائلا: لماذا نصعد سوية، هذا سيكون متعبا لنا؟ فقال الآخر: وماذا نفعل؟ قال: دعني أحملك على ظهري وأصعد بك الجبل وأنت تغني أغنية، وحين تنتهي الأغنية يأتي دوري لأصعد. وهكذا بدأ الصديقان الطيّبان رحلتهما. بعد قليل وأثناء صعود الجبل غنّى الأول أغنيته، وما أن انتهى منها حتى طلب النزول ليصعد الثاني. لكن هذا، وبعد مسافة طويلة ظل يغني أغنية من مقطع واحد ممل: "دليلي، دليلي، دليلي، دليلي". فسأله صديقه: ألم تنته الأغنية بعد؟ فرّد هذا قائلا: كلا، هناك مقطع آخر "دليلو، دليلو، دليلو، دليلو".

أغنية الفدرالية التي يغنيها أكراد العراق اليوم تبدو طويلة وبلا نهاية. ويتضح من مؤشرات ومعطيات كثيرة أننا لم نسمع بعد إلا المقطع الأول: دليلي، دليلي، دليلي. وعلينا أن ننتظر سماع المقطع الطويل الآخر والممّل: دليلو، دليلو، دليلو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.