غزة.. استحقاقات لا تموت

غزة.. استحقاقات لا تموت / نواف الزرو



مجزرة الحرية تستحضر تقرير غولدستون
قرن من الجرائم في فلسطين
نحو طرد "إسرائيل" من الأمم المتحدة
المجرمون إلى محكمة الجنايات الدولية

هي جبهة حربية أخرى, تعتبرها المؤسسة الإسرائيلية بكل عناوينها -الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأكاديمية وغيرها- أخطر جبهة تفتح ضد "إسرائيل" بعد الجبهة العسكرية، بل إنها جبهة تشكل تحديا وخطرا إستراتيجياً على مستقبل تلك الدولة، هي جبهة "نزع الشرعية الأممية عن إسرائيل".

هناك قلق وهلع وهواجس وجودية أخذت تتفاقم وتتسيد الجدل السياسي الإسرائيلي في ظل هذا المناخ الدولي الأممي الناهض المناهض لـ"إسرائيل المجرمة" ولـ"إسرائيل العنصرية (دولة الأبرتهايد) في العالم"، هواجس أخذت تنعكس تباعا في أدبياتهم السياسية وسلوكياتهم على نحو متصل.

فالأساطيل وقوافل التضامن مع غزة باتت جبهة إعلامية أخلاقية قانونية تثير القلق والرعب لدى المؤسسة الصهيونية..!.

الإجماع السياسي الأمني الإسرائيلي اليوم منعقد على أن الفلسطينيين -ومعهم حلفاؤهم- في العالم نجحوا في فتح جبهة جديدة -وهي جبهة نزع الشرعية عن وجود إسرائيل- التي لم تعهدها "إسرائيل" على مدى عقود عمرها الماضية، ولم يكن واردا في حساباتهم أنها ستشكل تهديدا إستراتيجياً لمستقبل دولتهم، إلى جانب التهديدات الإستراتيجية الأخرى وهي كثيرة ومتشعبة.

مجزرة الحرية تستحضر تقرير غولدستون

"
جاءت مجزرة أسطول الحرية لتظهر "إسرائيل" على أنها: دولة الإرهاب والقرصنة والعنصرية والاغتيالات.. وأنها أخطر مافيا على وجه الكرة الأرضية، وأنها الدولة المارقة الخارجة على القوانين والمواثيق الأممية والإنسانية
"

لقد بدأت هذه الغيوم المناهضة لجرائم الحرب الإسرائيلية تتلبد وتتكثف وتتسع مساحاتها في أعقاب "محرقة غزة" و"تقرير غولدستون".. واليوم، وبعد أن نجحت الماكينة الإسرائيلية -الأميركية/الأوروبية المشتركة في محاصرة تداعيات التقرير على المستوى الأممي في مجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية، وبعد أن كادت "إسرائيل" تدفن التقرير ومعده، جاءت القرصنة/المجزرة/الجريمة الإسرائيلية ضد "أسطول الحرية" لتستحضر التقرير بمضمونه التجريمي لتلك الدولة، بل وبات الرأي العام العالمي يقف بقوة لم نعهدها وراء محاسبة "إسرائيل" ومحاكمة قادتها على الجرائم المقترفة المفتوحة.

فقد جاءت مجزرة الأسطول لتظهر "إسرائيل" على أنها: دولة الإرهاب والقرصنة والعنصرية والاغتيالات.. وأنها أخطر مافيا على وجه الكرة الأرضية، وأنها الدولة المارقة الخارجة على القوانين والمواثيق الأممية والإنسانية، وهذا ليس تهويلا أو ديماغوجية، وإنما هي حقائق باتت ساطعة مدعمة بالوثائق والشهادات.

لقد شكلت المجزرة نقطة تحول أممي على مستوى وعي الشعوب تجاه تلك الدولة المجرمة.. وعادت على مرتكبيها كيدا مرتدا على كل المستويات، الإنسانية والأخلاقية والقانونية والسياسية والدبلوماسية، لتخرج تلك الدولة خاسرة تماما من معركة لم تظهر فيها سوى بلطجة القوة والنزعة الدموية المؤدلجة.

وباستحضارها لتقرير غولدستون، تستحضر المجزرة حصرا ما اقترفته دولة الاحتلال من مجازر ومحارق في غزة كانت تستدعي المحاكمة العاجلة لجنرالات الاحتلال.

فما اقترفته الدولة الصهيونية في غزة ارتقى إلى مستوى زلزالي و"نكبوي" اهتزت له أرجاء العالم، فكافة مفردات المحرقة/الكارثة المجازرية مهما بلغت درجات ومقاييس وشدة وقعها لن يكون بمقدورها أن تعبر تعبيرا حقيقيا عما حدث، ولن يكون بمقدورها أن تختصر ما جرى بعبارات الألم والمأساة والوجع الكبير. فالمحرقة كانت تبث من هناك.. من كل مدينة وبلدة وقرية فلسطينية في القطاع بالبث الحي والمباشر..!.

ومشاهد وصور جثث الأطفال والنساء والشيوخ والشبان الفلسطينيين المحترقين بالفوسفور، وعملية تدمير المدارس والجامعات ومؤسسات الأونروا والجوامع والمباني العامة المدمرة تدميرا شاملا، دوت في أنحاء العالم…!.

هكذا كان ولا يزال المشهد في قطاع غزة، فجنرالات الاحتلال تجاوزوا في مجازرهم وجرائمهم حدود وسقوف تلك المجازر والجرائم، وأصبحوا يقترفون منها ما يمكن أن نطلق عليه "ما بعد الجريمة"، أو"المحرقة" المفتوحة، فكانوا يغطون المجزرة بمجزرة أوسع وأبشع، فبات الموت هناك فائضاً، بل إنهم باتوا لا يعرفون حدودا للمجزرة ولا يعرفون متى يتوقفون..!.

وفي أعقاب ذلك، وعلى نحو غير متوقع من جهتهم، يأتي "تقرير غولدستون" رئيس اللجنة الأممية ليتحدث عن جرائم حرب وجرائم إسرائيلية ضد الإنسانية…!، وليفتح ملفا بالفواتير والاستحقاقات التي يتوجب على تلك الدولة المجرمة أن تدفعها مركبة، وهي كثيرة ومتراكمة وعاجلة، ولا تموت بالتقادم…!.

قرن من الجرائم في فلسطين

"
ثمة سجل طويل من القرصنة الإسرائيلية الشاملة المفتوحة على الأرض والتاريخ والتراث، والتي تتطلب غولدستونات خاصة بها، وهناك مئات -إن لم يكن آلاف- "الغولدستونات" الممتدة على امتداد الجسم الفلسطيني..!
"

وفي غزة هاشم استخدمت دولة الاحتلال ما أطلق عليه لديهم "إستراتيجية الضاحية"، أي التدمير الشامل ومحو البنية التحتية وما فوق الأرض عن وجه الأرض، (على نمط ما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت في صيف/2006)، كما استخدم الاحتلال سياسة "الإبادة الجماعية" البشعة التي ارتقت إلى مستوى "ما بعد الجريمة".

فإذا كان تقرير غولدستون يعني ضمنا وجوهرا تجريم الدولة الصهيونية باقتراف جرائم الحرب المشار إليها بالعناوين أعلاه وأكثر، فإن هذا التقرير الأممي جاء متأخرا عمليا نحو اثنين وستين عاما من النكبة، ونحو أكثر من قرن من نشأة الحركة والتنظيمات الإرهابية الصهيونية ومن الجرائم الصهيونية، إذ اقترفت الحركة والتنظيمات الإرهابية الصهيونية قبل قيام "إسرائيل" المئات من جرائم الحرب التي تستحق كل منها "غولدستون" خاصا بها، كما اقترفت تلك الدولة بعد إقامتها المئات من الجرائم الأخرى التي تستحق كل منها أيضا "غولدستون" خاصا بها…!.

وتبدأ الحكايات الغولدستونية في فلسطين منذ أن منح ذلك الوعد البلفوري المشؤوم للحركة الصهيونية دون حقٍ وطناً ودولة ومستقبلاً، فدشن في فلسطين العربية والمنطقة برمتها عصرا جديدا من الحروب والاعتداءات والانتهاكات، وجرائم الحرب المروعة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

وإن كنا في هذه الأيام في أجواء القرصنة البحرية الإسرائيلية، فإن هناك سجلا طويلا من القرصنة الإسرائيلية الشاملة المفتوحة على الأرض والتاريخ والتراث، والتي تتطلب غولدستونات خاصة بها، وهناك مئات -إن لم يكن آلاف- "الغولدستونات" الممتدة على امتداد الجسم الفلسطيني..!.

لتعيدنا هذه العناوين الكبيرة في المشهد الفلسطيني إلى بدهيات الصراع الأولى، وإلى الخلفيات والمضامين الحقيقية للقضية، في الوقت الذي تثير فيه جملة من الأسئلة والتساؤلات الجذرية على كل الأجندات حول اختراع وصناعة تلك الدولة الصهيونية، وحول الوطن والحقوق المغتصبة، وكذلك حول الدور الأممي في ذلك.

ففلسطين الجريحة المكلومة الأبية تدق في هذه الأيام -أيام الغولدستونات المفتوحة- بقوة كبيرة على جدران الصمت والعجز العربي والدولي الأممي..!.

نحو طرد "إسرائيل" من الأمم المتحدة
واستتباعا -فيما يتعلق بذلك الدور الأممي- فإن الأجدر والأولى بالدول العربية والإسلامية وبالمنظمة الأممية هو أن تطرح "شرعية تلك الدولة المجرمة" على الأجندة الأممية مجددا، إذ إن كافة الأعمال والممارسات والسلوكات التي تقترفها تلك الدولة تنتهك على نحو صارخ كافة القرارات والمواثيق الدولية والإنسانية، دون أن تتعرض لأي محاسبة أو محاكمة..!.

"
أردوغان:
إسرائيل دولة لم تلتزم بمئات من قرارات الأمم المتحدة في الماضي، وأريد أن أسأل الأمم المتحدة: كيف يمكن السماح لدولة تتجاهل باستمرار قرارات مجلس الأمن الدولي بالدخول من بوابات الأمم المتحدة؟
"

رئيس الوزراء التركي أردوغان كان أول من ارتقى في مواقفه السياسية والمبدئية إلى مستوى لم تقترب منه الجامعة والدول والسياسات العربية، ضد الانتهاكات الإسرائيلية للقرارات الدولية معلنا: "أن القرارات التي التزمت بها إسرائيل ولم تطبقها قد تجاوز عددها المائة قرار، وهذا من شأنه أن يولد مسارا آخر، وهو ضرورة القيام بالإصلاح في الأمم المتحدة"، وطالب أردوغان قبل ذلك بمحاكمة "إسرائيل" ومنعها من دخول بوابات الأمم المتحدة"، مؤكدا أنه: "ينبغي منع إسرائيل من دخول مقر الأمم المتحدة"، وموضحا: "إسرائيل لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة، وهذه عادة لإسرائيل، فإسرائيل دولة لم تلتزم بمئات من قرارات الأمم المتحدة في الماضي، وأريد أن أسأل الأمم المتحدة: كيف يمكن السماح لدولة تتجاهل باستمرار قرارات مجلس الأمن الدولي بالدخول من بوابات الأمم المتحدة؟".

وليس ذلك فحسب، بل إن رئيس الوزراء التركي يتيح لنا بتصريحاته فرصة فتح ملف العلاقات بين "إسرائيل" والأمم المتحدة، وعلى نحو أدق ملف السياسات الإسرائيلية الاحتقارية تجاه الأمم المتحدة وقراراتها في القضية الفلسطينية…!.

والاستخفاف الإسرائيلي بالأمم المتحدة وقراراتها ليس جديدا أو عابرا أو لمرة واحدة.. فهناك تراث من الاحتقار الإسرائيلي للأمم المتحدة، رغم أن كل قراراتها تجاه "إسرائيل" مع وقف التنفيذ.

فديفد بن غوريون أول رئيس للحكومة الإسرائيلية وصف الأمم المتحدة باحتقار في حرب عام 1948 قائلا: "أوم شموم" ("أوم" اختصار هيئة الأمم المتحدة بالعبرية، و"شموم" تعني: لا شيء)"، ويوثق أوري أفنيري اليساري الإسرائيلي المناهض للسياسات الإجرامية الإسرائيلية عن بن غوريون قائلا: "لقد خرق بن غوريون آنذاك دون تردد قرارات وقف إطلاق النار التي أصدرتها هيئة الأمم المتحدة عندما كان الأمر مريحا له، لقد خرق هو ومن خلفه -طيلة عشرات السنوات- معظم القرارات المتعلقة بنا، بادعاء أن هناك أغلبية مسيطرة للكتلة السوفياتية ودول العالم الثالث ضد إسرائيل".

المحلل الإسرائيلي المعروف ألوف بن يتحدث أيضا عن هذا التعاطي الاحتقاري الإسرائيلي مع الأمم المتحدة وقراراتها قائلا: "عندما اتخذ مجلس الأمن القرار رقم 1860، الذي دعا إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فمن الذي أعلن أنه لن يقبل به ومضى في القتال؟ إنها بالطبع إسرائيل"، ويشرح بن الخلفيات قائلا:" لم تقرر إسرائيل بعد ما إذا كانت ترغب في أن تصبح عضوا طبيعيا في المجتمع الدولي، وأن تدفع ثمن هذه "الطبيعية"، أو أن تظلّ وحيدة في الخارج، بدأت هذه الحيرة منذ قيام الدولة تقريبا واستمرت منذئذ، هنالك ميل طبيعي لدى السياسيين الإسرائيليين إلى أن يروا الأمم المتحدة ومؤسساتها على أنها صحراء".

وحسب أرشيف الأمم المتحدة فإن هناك اليوم نحو 845 قرارا دوليا صادرا عن الأمم المتحدة ومؤسساتها ولجانها المختلفة تتعلق بالحقوق الفلسطينية المشروعة.. غير أن كل هذه القرارات الملزمة منها وغير الملزمة أصبحت متراكمة مغبرة على رفوف المنظمة الدولية، بعد أن رفضتها الدولة العبرية وضربت بها عرض الحائط، أو بعد أن استخدمت الولايات المتحدة "فيتو" الظلم والعربدة والطغيان ضدها.

المجرمون إلى محكمة الجنايات الدولية

"
يجب أن تحتشد الطاقات والجهود العربية والإسلامية والأممية وراء دعوة أردوغان لمعاقبة "إسرائيل" على جرائمها واحتقارها للقرارات والمواثيق الدولية بطردها من المنظمة الدولية، وهذا أضعف الإيمان
"

ولذلك إذا جاز لنا أن نستخلص استخلاصا كبيرا رئيسا يستند إلى هذا التراث الإرهابي الإجرامي الصهيوني/الإسرائيلي الذي توجته تلك الدولة بالقرصنة الإجرامية على "أسطول الحرية"، فإنه يتعلق أصلا بشرعية وجود تلك الدولة، ونقول: فلتحتشد الطاقات والجهود العربية والإسلامية والأممية إذن وراء دعوة أردوغان لمعاقبة "إسرائيل" على جرائمها واحتقارها للقرارات والمواثيق الدولية بطردها من المنظمة الدولية، وهذا أضعف الإيمان بالنسبة لعربنا…؟!.

فالأمر ممكن ومساحته وأدواته العربية واسعة وكثيرة إذا ما جد الجد لدى أمتنا ودولنا وأنظمتنا.. والمسألة في نهاية الأمر مسألة إرادة عربية سياسية سيادية.. أليس كذلك؟!.

ولعل في مقدمة التحركات العاجلة الملحة فلسطينيا وعربيا أن تنقل ليس فقط قضايا جنرالات الحرب والإجرام الإسرائيليين إلى محكمة الجنايات الدولية، وإنما أن تنقل أيضا قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين -من بحرها إلى نهرها- برمتها إلى محكمة الجنايات الدولية، ثم إلى مؤسسات الأمم المتحدة ثانية للعمل على طرد "إسرائيل" من الأمم المتحدة، في خطة تمهيدية لمحاسبة وعقاب تلك الدولة، وكي تعود الحقوق المشروعة إلى أصحابها وشعبها وتاريخها..!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.