المقاومة الثقافية والمدنية تقض مضاجع الصهاينة

العنوان: المقاومة الثقافية والمدنية تقض مضاجع الصهاينة



يكاد الصهاينة يجمعون على أن ذكرى قيام دولتهم هذه السنة هي الأسوأ على الإطلاق لتوالي الخيبات الإعلامية والسياسية التي منيت بها قيادة دولتهم في المحافل الدولية، خاصة إثر تقرير غولدستون وتداعيات الهجوم على أسطول الحرية.

ولم يخفف عنهم هذا الشعور بالسوء عدم استفادة العرب منه، ومرور ذكرى النكبة بدورها عند العرب كأسوأ ذكرى يحيونها نظرا لتواصل حالة التشرذم والانقسام في الصف العربي. ذلك أن الصهاينة رغم متابعتهم لتطورات الأمور عند أعدائهم العرب فإنهم يولون أهمية أكبر لتطور الموقف تجاههم في دول الغرب التي تعدّ الحامي الحقيقي للمشروع الصهيوني والمسؤول المباشر عن أمن إسرائيل ووجودها.

وفي تقييم الصهاينة شهد الموقف الغربي تحولا كبيرا ضد إسرائيل خلال هذه السنة وقبلها بقليل، وقد يتواصل إذا لم تقدر دوائر القرار في الدولة الصهيونية على محاصرة هذا التحول وتجميده أو إيقافه نهائيا.

ويتساءل المتابع: كيف يمكن لموقف لا يستفيد منه العدو المباشر (العرب) أن يشكل مصدر قلق بالغ بالنسبة للصهاينة؟ إن هذا التناقض الظاهر في محتوى ما ذكرنا ينجلي إذا عرفنا أن قلق الصهاينة ينبع مما يلاحظونه من تحول خطير داخل الحقل الثقافي الغربي تجاههم. ولأن الصهاينة يدركون قيمة "المقاومة" الثقافية بالنسبة لمستقبل دولة الكيان، فإنهم اعتبروا أن ذكرى قيام دولتهم هذه السنة هي الأسوأ باعتبار ما شهده هذا العام من بروز مواقف ثقافية تفضح الطبيعة العنصرية والاستعمارية البغيضة لدولة الكيان.

"
في تقييم الصهاينة شهد الموقف الغربي تحولا كبيرا ضد إسرائيل خلال هذه السنة وقبلها بقليل، وقد يتواصل إذا لم تقدر دوائر القرار في الدولة الصهيونية على محاصرة هذا التحول وتجميده أو إيقافه نهائيا
"

ونقصد بالمواقف الثقافية هنا ما استطاع أن يحققه عدد من المثقفين والكتاب في دول الغرب من خرق لمبدأ الحصانة الثقافية التي تتمتع بها إسرائيل هناك من خلال التباكي على المحرقة (الهولوكست) والتخويف بها، حتى صار محرما على كل مفكر أو مثقف يحترم نفسه أن يشكك في سياسات إسرائيل أو أن يندد بطبيعتها اللاإنسانية والعنصرية، وهو ما نجح الصهاينة في استثماره عقودا طويلة من الزمن.

ظهور كتاب ريجيس دوبري "إلى صديق إسرائيلي" أواسط مايو/أيار الماضي، أعاد سؤال "المكتسب الثقافي" إلى نقطة الصفر. ذلك أن الكتاب جاء ليصب الزيت على نار هذه الثورة الثقافية الهادئة التي يشهدها الغرب ضد ممارسات الكيان الصهيوني، وإن كانت لم ترتق إلى مطامح الشعب الفلسطيني وآمال الأمة العربية والإسلامية.

غير أن هذين العاملين (مطامح الشعب الفلسطيني وآمال الأمة) لا يعتبران محددين في فهم هذا التحول، بما أننا نتحدث عن نسق فكري وفضاء ثقافي مختلفين يتحركان وفقا لآليات خاصة، لكن ذلك لا يمنع من الجزم بأن ما يشهده هذا الفضاء يعتبر إنجازا عظيما مقارنة بالمكتسب التاريخي الصهيوني داخل هذا الحقل وما آل إليه الوضع في السنوات الأخيرة، وخاصة هذه السنة بعد حرب إسرائيل الإجرامية على قطاع غزة.

فكتاب دوبري نقطة في سلسلة مواقف ثقافية هامة بدأت برسالة المؤرخ اليهودي الأصل أندري نوشي إلى سفير إسرائيل في فرنسا والتي أكد فيها أنه "لم يعد من الممكن الصمت أمام سياسة الاغتيالات والتوسع الإمبريالي لإسرائيل".

وتبعتها عريضة المثقفين التي وقع عليها نحو ثلاثة آلاف من اليهود البارزين من المثقفين بينهم أساتذة جامعيون من أمثال برنارد هنري ليفي وألين فنكيلكراوت اللذين يعتبران من بين أشد المدافعين عن إسرائيل بين المثقفين الفرنسيين. ومن بين الموقعين أيضا دانييل كوهين بينديت، وهو زعيم الاحتجاجات الطلابية التي جرت في ستينيات القرن الماضي ويتمتع حاليا بعضوية البرلمان الأوروبي. ووصفت العريضة الاستيطان "بالخطأ الأخلاقي والسياسي".

وحتى ندرك معنى القلق الصهيوني إزاء هذا التحول في ساحة ثقافية عرفت بدفاعها المستميت عن إسرائيل، لابد من الوقوف عند غياب الدور العربي في هذا التحول أولا، فلم تكن هذه المواقف لمثقفي أوروبا عموما وفرنسا خصوصا نتيجة تحرك مواز نظمه المثقفون العرب لإقناعهم بالنظر إلى الأحداث نظرة موضوعية بعيدة عن التعصب الأعمى للكيان الصهيوني، وهذا الغياب الثقافي العربي عن الفعل قرأته إسرائيل ودوائر القرار فيها على أنه علامة على وجود "وعي مؤسس لدى مثقفي أوروبا ومفكريها" لن يزول بزوال "الهبّة الإعلامية" المعتادة التي خبرت إسرائيل التعامل معها بإلقاء تهمة معاداة السامية على من ينتقد سياستها.

وثانيا يجدر بنا الرجوع إلى التاريخ لفهم القلق الصهيوني من هذا "الانفلات الثقافي والفكري" الذي تشهده الساحة الثقافية الأوروبية عامة والفرنسية خاصة، ففرنسا مثلا تعتبر أكثر الدول الأوروبية التي يدافع مثقفوها عن إسرائيل، فمنذ حرب عام 1967 صدر في باريس يوم 28 مارس/آذار 1967 ما سمي ببيان المثقفين الفرنسيين الذي وقعه سارتر وسيمون دوبوفوار وأعلن فيه عدد من المثقفين تأييدا كاملا للدولة الصهيونية ودفاعهم المستميت عنها وانحيازهم إلى جانبها واستنكارهم لما وصفوه بتهديد سلامتها من الدول العربية.

"
حتى ندرك معنى القلق الصهيوني إزاء هذا التحول في ساحة ثقافية عرفت بدفاعها المستميت عن إسرائيل، لا بد من الوقوف عند غياب الدور العربي في هذا التحول أولا, وثانيا يجدر بنا الرجوع إلى التاريخ لفهم القلق الصهيوني من هذا الانفلات الثقافي والفكري الذي تشهده الساحة الثقافية الأوروبية عامة والفرنسية خاصة
"

ولم تفلح مواقف الفيلسوف روجيه غارودي عام 1996 ولا القس المعروف بالأبي بيار الذي سانده في الحفاظ على ذلك الخرق الذي سُجّل في دائرة المحرمات داخل فضاء السياسة والثقافة الفرنسيين وأضر بصورته، الأمر الذي اضطره إلى سحب أقواله.

وقد سارع اللوبي الصهيوني إلى محاولة إعادة تجربة غارودي ضد ريجيس دوبري فقلل أنصار هذا اللوبي المتنفذ من أهمية ما نشره، وكانت التهمة المألوفة "العداء للسامية" سباقة. واعتبر كلود لينزمان -أحد أكثر الإعلاميين تأييدا لإسرائيل- أن دوبري لا يفهم شيئا مما يحصل هناك في إسرائيل، بينما قال جون كريستوف روفان الكاتب والطبيب الفرنسي إن دوبري يستولد أعداء ليضع نفسه في وضع الضحية التي تحوله إلى بطل.

والملاحظ أن الحملة التي ثارت ضد دوبري قادها أكاديميون ومثقفون، وهو ما يبرز حقيقة القلق الصهيوني إزاء هذا "الاختراق الثقافي" في ساحة كانت تعد فضاء خاصا بهم، رغم المحاولات العربية لكسر هذا "التملك الصهيوني للمثقفين الفرنسيين".

ولا بد هنا من التوقف عند هذه المحاولات التي تتسم بندرتها منذ اندلاع الصراع العربي الصهيوني، فموقف جون بول سارتر والمثقفين معه لم تقابله آنذاك سوى رسالة يتيمة من الدكتور سهيل إدريس نشرتها الصحف اللبنانية الصادرة بالعربية والفرنسية وبعض المجلات المصرية جاء فيها:

"نستنكر بيان بعض المثقفين الفرنسيين الذي وقعتموه مع سيمون دوبوفوار بتأييد إسرائيل. ويؤسفنا نحن المثقفين العرب أن تكونوا في موقف العجز عن التوحيد بين الإمبريالية الأميركية التي تدينونها وإسرائيل وليدة هذه الإمبريالية. موقفكم الحالي في تأييد دولة اغتصبت أرضا وشردت شعباً يخون مواقفكم السابقة في تأييد نضال شعوب الجزائر وكوبا وأفريقيا وسواها لاسترداد حريتها والدفاع عن حقوقها. المثقفون العرب -وفيهم أصدقاء كثيرون لكم- آسفون لسقوطكم أنتم أيضا ضحية التضليل الصهيوني. أعاني ندما عميقا لترجمة كثير من كتبك وتقديمها للقارئ العربي. فقدان المثقفين العرب ثقتهم بكم لن يزيدهم إلا إيمانا برسالتهم في الدفاع عن الحق العربي في فلسطين".

لكن يبدو أن "ندم" الدكتور إدريس صار عقدة لدى المثقفين العرب أعاقتهم عن الفعل تجاه هذه الساحة التي كانت تزخر بمثقفين شكلوا في تلك الفترة مثلا عليا للمثقفين العرب ولمناضلي الحركات السياسية والطلابية في مجتمعاتنا، فلم نشهد محاولة تفكيكية لفهم سرّ النجاح الصهيوني في الحيلولة دون أن ينظر مثقفون تقدميون ويساريون إلى الحقائق كما هي في موضوعيتها.

لم تكن هناك محاولات جادة وعلمية بعيدة عن الأيدولوجيا لفهم واقع ثقافي مختلف عنا سبقنا الصهاينة إليه بعقود من الزمن، ولم يكن هناك من مبرر لهذا الغياب العربي لأن الفترة التي تزامنت مع النكبة وتلتها كانت من أكثر الفترات التاريخية ازدهارا لحركة الثقافة العربية مقابل التردي السياسي. لكن يبدو أن توجه أصحاب هذه الإبداعات نحو تفكيك البنى الداخلية لمجتمعاتهم التقليدية أو ما صوره البعض بأنه معركة التحرير الداخلي، هي التي ألهتهم عن هذا الفعل الذي كان يمكن -إن تم- أن يغير المعادلة بصفة كلية.

يذكر سهيل إدريس أن الشاعر محمود درويش عاتبه في موقفه من سارتر إثر عدوان 5 يونيو/حزيران 1967 واعتبره موقفا انفعاليا جدا، وقال له "أن يكون سارتر قد أيد إسرائيل فهذا شأنه، وما كان ينبغي لك أن تترك عقدة الذنب تستولي عليك" (مجلة الآداب/العدد المزدوج 4/5-1980).

وموقف درويش يحتمل في نظرنا تأويلين: إما أن الشاعر الفلسطيني كان واعيا بأن عقدة الذنب لن تفيد في العلاقة مع هؤلاء المثقفين وبالتالي وجب تجاوزها إلى الفعل المباشر معهم، وهو تأويل ضعيف لأن درويش لم ينجز ما يمكن أن يبرهن على هذا الوعي ولم يسجل له التاريخ سوى فتح علاقات مع بعض المثقفين الصهاينة، وهو الموقف الذي يأخذه عليه الكثير ممن لا يؤمنون بالتطبيع الثقافي مهما كانت مبررات الدعوة إليه.

والتأويل الثاني أن درويش كان من دعاة الفصل بين الموقف السياسي والموقف الفكري، وهو التأويل الأرجح إذ دلت عليه مواقف الشاعر الراحل وبرزت آثاره لدى المثقفين المتأثرين بخط درويش في هذا المجال بالإضافة إلى مواقف غيره من دعاة الفصل، مع التنبيه هنا إلى أننا لا نعتبر درويش الرمز الأول لهذا التيار بل واحدا من رموزه.

"
وجد العرب أنفسهم في زمن العولمة دون أن يعدوا لها وظلوا حبيسي مقولاتهم القديمة إلا قليلا، وهو ما أفقد الساحة الثقافية والفكرية نصيبا لا بأس به من المناعة ضد التطبيع، تجلى ذلك في غياب مصطلحات العدو الصهيوني والمقاومة وفلسطين التاريخية ورفض الصلح والتفاوض
"

وتثير دعوة الفصل هذه جدلا كبيرا في الساحة العربية المعاصرة، خاصة مع هذا الصنف من الأكاديميين والأدباء والمثقفين الذين يلجؤون إلى الاحتماء بالندوات العلمية الدولية للتطبيع مع الصهاينة، أو الذين يبررون التطبيع تحت مقولات مختلفة كالاطلاع على ثقافة الآخر والتسامح.. وغيرها من الدوافع التي يرى عدد هام من المتابعين للشأن الثقافي العربي أن الدافع المنفعي المادي يأتي على رأسها نظرا لنجاح دول الاستقلال العربية في "الإيقاع" بالمثقفين عموما في دائرة مفرغة من اللهث وراء "الهم اليومي" المعيق للإبداع.

إن ثقافة الفصل أنتجت طبقة مثقفة لا يستهان بها من دعاة التطبيع، غير أن الحركة السياسية والاجتماعية والفكرية ما قبل العولمة غطت عليها ومنعتها من نشر مقولاتها، حتى تسارعت الأحداث ووجد العرب أنفسهم في زمن العولمة دون أن يعدوا لها، وظلوا حبيسي مقولاتهم القديمة إلا قليلا وهو ما أفقد الساحة الثقافية والفكرية نصيبا لا بأس به من المناعة ضد التطبيع، تجلى ذلك في غياب مصطلحات العدو الصهيوني والمقاومة وفلسطين التاريخية ورفض الصلح والتفاوض، والأغاني الملتزمة التي تحث على المقاومة والإنتاجات الأدبية والفكرية التي تمجد المناضلين والشهداء، لتترك المجال لمقولات التسامح وحوار الأديان والحضارات، وهي مقولات حق أريد بها باطل.

لا يمكن لمثل هذا الجيل أن يطرح على نفسه "اختراق" الفضاءات التي تحتكرها الصهيونية، لكن الأمل معقود بنواصي المثقفين الذين ما زالوا يجاهدون من أجل مقاومة التطبيع، شريطة أن تنفتح رؤاهم على مثل هذه المستجدات التي مثلها ريجيس دوبري وغيره من مثقفي أوروبا الأحرار الذين لا يتحرجون من طرح المواضيع المزعجة لمجتمعاتهم على حد تعبير دوبري نفسه في كتابه "الأنوار التي تعمي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.