روسيا والشرق الأوسط

العنوان: روسيا والشرق الأوسط



محفزات الحراك الروسي
سمات الإستراتيجية الروسية
روسيا ومحور الممانعين العرب.. حدود العلاقة

أثارت زيارة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف إلى سوريا وتركيا، والتصريحات التي أطلقها، وكذلك الحديث عن صفقات تسليح مع سوريا، أسئلة مهمة عن إمكانية عودة موسكو كلاعب أساسي في الشرق الأوسط بعد سنوات من الانسحاب الروسي من المنطقة، وتخبط صانع القرار في تحديد خياراته الإستراتيجية، في محاولة لإيجاد دور وسط التحديات الخطيرة التي واجهها الدور الروسي على الصعيد العالمي عموما.

محفزات الحراك الروسي
يمكن توصيف الحراك الروسي في الشرق الأوسط بأنه نتيجة مجموعة من الاعتبارات تشكل الإطار العام الذي يحكم سياسة روسيا الراهنة تجاه أزمات المنطقة، وتجاه توطيد علاقاتها مع الفاعلين المختلفين.

أول هذه الاعتبارات أن سياسة روسيا الخارجية عالميا وفي الشرق الأوسط أيضاً، أصبحت تنطلق من قاعدة خدمة أهداف الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني الداخلي لتعزيز مكانتها على الصعيد الدولي. وتندرج هنا عدة أمور تحظى بأولوية روسية قصوى هي مد العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية مع الشركاء القدامى والجدد فيما يطلق عليه "إستراتيجية البزنس متعدد الاتجاهات".

"
روسيا ومنطقة الشرق الأوسط أصبحتا في مجال جيوسياسي مشترك بعد تأسيس الدول المستقلة في وسط آسيا والقوقاز، مما أحدث قدرا كبيرا من التداخل الأمني والإستراتيجي بين المنطقتين
"

وثاني هذه الاعتبارات أن روسيا ومنطقة الشرق الأوسط أصبحتا في مجال جيوسياسي مشترك بعد تأسيس الدول المستقلة في وسط آسيا والقوقاز، مما أحدث قدرا كبيرا من التداخل الأمني والإستراتيجي بين المنطقتين، وبالتالي فإن محرك السياسة الروسية يقوم على الحيلولة دون تحدي روسيا في مناطق نفوذها الأولى، سواء من دول جارة كإيران وتركيا أو بعيدة كالولايات المتحدة.

أما ثالث هذه الاعتبارات فهو أن سياسة روسيا الخارجية -رغم تجنبها الصدام المباشر مع الأميركيين والأوروبيين الذين لم يفوا بوعودهم التجارية والاقتصادية مع موسكو- تكون غالبا بمثابة رد فعل على السياسات الغربية، وبالقدر الذي يضع حسابات روسيا محل اعتبار في السياسات العالمية، خاصة مع تعدّد الخلافات بين روسيا والغرب في العديد من القضايا الثنائية والدولية.

سمات الإستراتيجية الروسية
يمكن رصد أهم سمات الإستراتيجية الروسية عبر تحديد أهم معالم توجهات هذه الإستراتيجية والتي تتمثل في:

1- الواقعية، التي تبنى على البرغماتية من خلال الابتعاد عن الحجج الأيدولوجية، وإحلال مبررات أكثر وضوحا وتعبيرا عن تطلعات روسيا المستقبلية بدلا منها.

2- برغماتية القيادة، من خلال تقديم القيادة الروسية لطرح جديد وقطع علاقاتها بالماضي الشيوعي وركائز الحرب الباردة.

3- الديناميكية أو فاعلية الإستراتيجية الروسية، من خلال عدم العودة إلى الماضي الأيدولوجي، مع إصرار موسكو على وحدة التراب الروسي وإعطاء القوة العسكرية دورها الأساسي في حل النزاعات. 

4- حرية الحركة السياسية، إذ لم تجبر روسيا في ظل النظام العالمي الحالي على الحد من عناصر قوتها وحركتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

5- المرونة والاختلاف، من خلال المفاهيم المتعددة لمسألة الأمن العالمي بين الروس والأميركيين، إذ تؤيد روسيا الأمن الجماعي وإعطاء دور أكبر لمنظمة الأمم المتحدة في حل جميع الخلافات.

روسيا ومحور الممانعين العرب.. حدود العلاقة

الأولويات الروسية:
سياسة روسيا الشرق أوسطية أوضحها وزير الخارجية سيرغي لافروف لصحيفة "برافدا" الروسية بقوله: إن السياسة الروسية ليست موالية للعرب أو لإسرائيل، بل تهدف إلى ضمان المصالح الروسية القومية، والحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية ومع إسرائيل بذات القدر. وواضح أن هذا القول يعكس منطق المذهب البراغماتي لروسيا الجديدة وحساباتها الاقتصادية، وجوهر هذه الحسابات أن منطقة الشرق الأوسط ليست في أولوية الاهتمام رغم أنها تمثل موقعا إستراتيجيا للنفوذ الروسي.

وفي هذا السياق، يرى جزء مهم من النخبة الروسية أن الشرق الأوسط ليس ضمن أولويات الاتحاد الروسي، والسبب هو المشاكل الداخلية الكثيرة التي تحتاج إلى "حلول سريعة". ويعتقد هؤلاء أن "المهمة الرئيسية هي إقامة أو استعادة العلاقات بين روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق".

"
السياسة الروسية تعكس المذهب البرغماتي لروسيا الجديدة وحساباتها الاقتصادية، وجوهر هذه الحسابات أن منطقة الشرق الأوسط ليست ضمن أولوية الاهتمام رغم أنها تمثل موقعا إستراتيجيا للنفوذ الروسي
"

كما أن الأولوية برأيهم للعلاقات الروسية الأميركية ثم الأوروبية، إذ من المهم بالنسبة لموسكو إقامة علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع أميركا وأوروبا.

ويضيف هؤلاء أنه "لا سياسة روسية واضحة في المنطقة.. الكرملين لا يملك إستراتيجية أو أفكاراً جديدة، وموسكو فقدت نفوذها في المنطقة حتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، مما يعني أن استعادته ليست بالأمر السهل".

والأهم من كل ذلك أن "روسيا لا تملك القوة الكافية لتلبية توقعات الكثير من الناس في العالم العربي، والشيء الوحيد الذي يمكنها فعله هو أن تقول إن دورها لا يزال مهماً في الشرق الأوسط، حتى لا ينساها العرب".

الطموحات والإمكانيات الروسية في الشرق الأوسط:
تدفع التحركات الروسية الأخيرة في الشرق الأوسط إلى تساؤلات عديدة من قبيل: هل تتمكن روسيا مجدداً من اختراق منطقة الشرق الأوسط؟ وهل يمكنها أن تلعب دوراً مهماً وحاسماً في حل الأزمات التي تموج بها المنطقة, وأن تساهم بشكل جدي في عملية التسوية السياسية للصراع بين العرب وإسرائيل؟

وفي محاولة للإجابة عن هذا التساؤل تجدر الإشارة إلى ملاحظتين:
الأولى تتعلق بالحديث الذي يتواتر كثيراً عن "النظام الدولي الجديد" الذي يعتقد البعض أنه ولد في أعقاب التطورات التي لحقت بالاتحاد السوفياتي السابق. ويعتقد هؤلاء أن أهم سمات هذا النظام انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي، في حين ينكر البعض الآخر وجود "نظام دولي جديد"، ويرون أنه مجرد امتداد لنظام القطبية "الثنائية" بصورة أخرى.

ويعتقد هذا الفريق أن المرحلة الراهنة مرحلة انتقالية، وأن شكل العلاقات الدولية مستقبلاً لن يتحدد قبل فترة من الزمن.

والأمر الواضح بناء على ما يحدث -من جهة- داخل الحدود الجغرافية للاتحاد السوفياتي المنهار وبعد سنوات من انهياره، والمتمثل في المحاولات الروسية الدؤوبة للهيمنة على الجمهوريات "السوفياتية" المستقلة، وما يحدث -من جهة أخرى- خارج هذه الحدود، والمتمثل في المعادلات "المصلحية" التي تتحكم في الخطوط العامة للسياسة الروسية الخارجية.. الأمر الواضح بناء على هذا وذاك، هو وجوب التعامل مع محاولات عودة روسيا إلى الساحة الدولية على أنه أمر جدي وذو طابع إستراتيجي وليس تكتيكيا، لأي سبب من تلك الأسباب الظاهرية الخادعة التي يراهن عليها البعض هنا أو هناك.

أما الملاحظة الثانية فتتعلق "بقاعدة المصلحة" التي يمكن أن تدخل روسيا على أساسها إلى منطقة "الشرق الأوسط" بمفهوم جديد ومغاير لذلك الذي كان سائداً أيام الحقبة السوفياتية، وهو ما يمكن أن يوفر لها العديد من الامتيازات.

فمن جهة، تعتبر منطقة "الشرق الأوسط" بالمفهوم التقليدي ووفق اصطلاح "الفناء الخلفي"، من المناطق التي لا يمكن الاعتراف فيها بشرعية مصالح قوة دولية واحدة، وبالتالي فهي منطقة مفتوحة على مصراعيها للتنافس بين جميع القوى على قدم المساواة.

ومن جهة أخرى، فإن روسيا -خلافاً للاتحاد السوفياتي السابق- يمكنها أن تقايض نفوذها (الدولي) -في حالة تنميته- بالمال وليس بالأيدولوجيات، إذ إن من المعروف أن العديد من الخبراء الروس يراهنون على تعطش سوق منطقة الشرق الأوسط للسلاح، وإمكانية روسيا للدخول في هذا المضمار بشروط تفضيلية واضحة -من حيث الثمن المادي والسياسي- على غيرها من الدول الغربية المصدرة للسلاح، وهو ما -يمكن أن- يوفر للخزينة الروسية دخلاً كبيراً من "العملات" يمكن أن يغنيها عن المفاوضات المعلنة مع الهيئات التمويلية الدولية على شاكلة صندوق النقد والبنك الدوليين.

"
تعتبر منطقة الشرق الأوسط بالمفهوم التقليدي ووفق اصطلاح الفناء الخلفي، من المناطق التي لا يمكن الاعتراف فيها بشرعية مصالح قوة دولية واحدة، وبالتالي فهي منطقة مفتوحة على مصراعيها للتنافس بين جميع القوى على قدم المساواة
"

ولعل أهمية هذه الجهة تتبدى بوضوح إذا لاحظنا رؤية الإدارة الروسية الحالية التي تتمحور حول هدف محدد هو "إعادة مكانة الدولة إلى ما كانت عليه ولو بالقوة، وأن تقود الدولة الاقتصاد وتنظم السوق، وليس العكس".

ومن جهة ثالثة، فإن روسيا -في ما يبدو- يمكنها اللعب على وتر "المخاوف" الإسرائيلية التي تتمحور حول إمكانية استغلال روسيا لورقة المهاجرين اليهود مجدداً، وأن تمنع هذه الهجرة لقاء حصولها على حصة من المشتريات العربية للسلاح، أو أن تساوم "الغرب" وإسرائيل للإفراج عنها في مقابل المساعدات المالية الضخمة، أو على الأقل أن تستخدم النفوذ اليهودي في الدول الغربية لصالح منح الروس بعض التسهيلات الاقتصادية، أو لدفع ثمن مباشر لهجرة اليهود إلى إسرائيل.

وهكذا، فإن هاتين الملاحظتين تقدمان الحد الأدنى من ملامح إمكانية العودة الروسية إلى المسرح الدولي بصفة عامة، وإلى منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

وإذا كان من الصحيح أن "العلاقات الاقتصادية" هي -راهناً- جواز المرور الروسي إلى المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وإذا كان من الصحيح أيضاً أن خط الاتصال "الروسي السوري" -الظاهر حيناً و"المختفي" في أحايين كثيرة- يأتي ضمن أهم خطوط الاتصال التي يمكن أن تعتمد عليها العودة الروسية إلى المنطقة، فإن ذلك -إضافة إلى ما يحققه في المنظور السوري من تخفيف للضغوط الأميركية في ما يخص عوائد "الخروج" السوري من لبنان، ناهيك عن ملفات التسوية مع إسرائيل- يحقق في المنظور الروسي الوقوف على خط التماس مع مستقبل المفاوضات بين "العرب وإسرائيل"، بما يعنيه ذلك من إمكانية المشاركة في مستقبل واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم (لنا أن نلاحظ هنا مبادرة الرئيس الروسي بخصوص "المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط" الذي وافقت عليه مصر والفلسطينيون وتحفظت عليه إسرائيل).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.