العامل الفلسطيني ورحلة الموت اليومية

العامل الفلسطيني ورحلة الموت اليومية



القوة العاملة الفلسطينية خارج وظائف السلطة
العمال: فئات مشتتة

سياسة إسرائيل الحالية ضد العمال
العامل الفلسطيني أسوأ واقعا من المشهد الروائي
الآثار النفسية والاجتماعية للعامل

عند الانتهاء من قراءة رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" يتبادر إلى الذهن بصورة عفوية أن الرواية قصة رمزية للواقع العربي عموما وللوضع الفلسطيني خصوصا في مرحلة من المراحل، رغم أن الرواية في النهاية نوع من الخيال لأدب واقعي مسرف في واقعيته رغم سوداوية الصورة والنتيجة التي تنتهي إليها.

ويتبادر إلى الذهن أيضا: هل يمكن أن يكون الحدث القائم على محاولة تهريب ثلاثة عمال فلسطينيين في صهريج، والتخلي عنهم وإلقاء جثثهم في الصحراء بعد سرقة ممتلكاتهم الشخصية، أمرا ممكن الحدوث رغم واقعيته وهل يحصل بالفعل في الواقع المعاش؟ أم أن غسان كنفاني كعادته يريد أن يرينا الصورة في أقبح حالاتها، ليحرك في أعماقنا حالة من الوعي لهذا الواقع المشوه. وربما يكون الواقع في بعض الحالات أكثر صدمة من الصور المتخيلة في الأدب والفن.


القوة العاملة الفلسطينية خارج وظائف السلطة

"
القسم الأعظم من القوة العاملة الفلسطينية ما زالت نهبا لواقع بشع وهم العاملون في المصالح الإسرائيلية بمختلف فروعها وتعاني التشتت والاستغلال والضياع وحتى ممارسة الاتجار بالبشر
"

منذ اللحظة التي أعلن فيها عن قيام السلطة الفلسطينية عام 1993 وهي تحاول لملمة الموضوع الفلسطيني بصورة عامة، ولأسباب عديدة فشلت في الوصول إلى الأهداف الجوهرية التي قامت من أجلها، ونتيجة لذلك انحسرت الأهداف في النهاية في محاولة بقاء السلطة من خلال إبقاء الهيكل العام لهذه السلطة الذي يتمظهر في جسم الوظائف العامة، وكان رؤساء وزراء السلطة يركزون في أحاديثهم على أولوية توفير المال من أجل الموظفين الذين كانت تنقطع رواتبهم لشهور عديدة، ويصل متوسط عدد هؤلاء زهاء 160 ألف موظف.

لا شك أن بقاء الحياة المستقرة نسبيا لهذه الشريحة من الشعب الفلسطيني أمر مهم، ولكنهم في النهاية لا يمثلون إلا نسبة قليلة من القوة العاملة الفلسطينية التي لا يلتفت أحد إليها أو يوليها الاهتمام الذي تستحقه، خاصة أن القسم الأعظم من هذه القوة العاملة ما زال نهبا لواقع بشع وهم العاملون في المصالح الإسرائيلية بمختلف فروعها وتعاني التشتت والاستغلال والضياع وحتى ممارسة الاتجار بالبشر، ولكن السياسة بعيوبها غطت على هذا الجانب أو دفعت به إلى الظل.


فئات مشتتة
يتميز العمال الفلسطينيون في واقعهم الحالي بأنهم قوة عاملة وجدت وتطورت تحت الاحتلال الإسرائيلي بصورة عامة، سواء تلك القوة التي تعمل داخل الخط الأخضر أم تلك التي تعمل في الورش والمصانع والمزارع الفلسطينية، ولذا فهي في النهاية خلاصة احتلال فرض عليها كل الشروط والظروف التي أدت بها إلى أن تتحول إلى حركة عمالية فردية وليست جماعية، بمعنى أن الاحتلال فرض عدم قيام أي نوع من أنواع المؤسسات التي ترعى هؤلاء العمال وتقوم بتنظيمهم، وتطالب بحقوقهم سواء في ممارسات ما قبل العمل أو أثناء العمل أو بعد انتهاء العمل.

وقد تركوا ضمن سياسة العمل الموسمي القائم على السماح والمنع حسب الموسم وحسب الشخص، ولذا لا يعرف العامل إن كان سيعمل غدا أم لا، وهل سيسمح له بالعمل أم سيمنع وهل سيأخذ أجوره أم لا؟ وهذه السياسة خلقت من العامل شخصية قلقة هشة، عرضة للاستغلال من مافيات منظمة في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.

لقد أدت سياسات الاحتلال فيما مضى خاصة في السبعينيات والثمانينيات إلى تشجيع الشباب الفلسطيني على ترك مدارسهم والالتحاق بالمصالح الإسرائيلية للعمل، وقد قدمت إغراءات مادية كبيرة أدت بالفعل إلى انسحاب عدد كبير من الشباب من مدارسهم وحتى من جامعاتهم للعمل في المصانع والمزارع وورش البناء داخل الخط الأخضر، وقد لمس العديد من الشباب هذا التغير في حياتهم، ما دفع بالآلاف للالتحاق بسوق العمل الذي اتضح أنه فخ كبير بعد انفجار الانتفاضة الأولى عام 1987.

حيث واجه العمال الواقع القائم على عدم وجود فرص العمل كما اعتادوا، وفي الوقت نفسه لم يتطور سوق العمل الفلسطيني إلى ما يمكن أن يستوعب هذا العدد الكبير للظروف والسياسة التي أوجدتها وتبنتها إسرائيل في هذا الصدد، فوجد العامل نفسه ضحية للبطالة المفروضة ووجد ذاته محاصرا بين أسرة تطالبه بحاجاتها وسياسة تلف الحبل حول عنقه لتجره إلى ما تريد.

بقيت هذه السياسة في حالة مد وجزر حتى مجيء السلطة، ولم تتحسن الأوضاع أمام العامل، بل تراجعت إلى منحنيات أسوأ كثيرا مما كان عليه الوضع سابقا، فأصبحت هناك شروط وظروف جديدة لم يكن يعايشها من قبل، نتجت عن الصراع الجديد مع الشعب الفلسطيني بوجود السلطة.


سياسة إسرائيل الحالية ضد العمال

"
سمحت إسرائيل للعامل الفلسطيني بالعمل ولكن ضمن آليات شديدة السوء، منها: ضرورة الحصول على تصريح أمني بالعمل وهوية ممغنطة تتضمن المعلومات الكاملة عن العامل، وهذه وسيلة كبرى من وسائل الابتزاز، وفي الوقت نفسه وسيلة من وسائل السيطرة
"

أدت حالات الصدام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية إلى مزيد من التضييق على الشعب الفلسطيني، وكان أسوأ الأسلحة التي استعملتها إسرائيل بهذا الصدد الإغلاقات والحصار والتجويع والحواجز التي استمرت لسنوات ولفترات طويلة أثرت في بنية الشعب الفلسطيني، وخلقت واقعا جديدا لديه، أدى إلى اهتمام السلطة بمحاولة توفير المال لموظفيها من أجل بيان قدرتها على الاستمرار، التي هي في الأصل غير قادرة في ظل ظروف التضييق على ذلك، ما أدى إلى إهمال الطوائف الأخرى من الشعب الفلسطيني كان أبرزهم العمال الذين يعملون داخل الخط الأخضر، وتركوا يقارعون الاحتلال وظروفهم الشخصية بصورة فردية.

قامت إسرائيل في السنوات الماضية وكجزء من سياسة التضييق على الشعب الفلسطيني، خاصة العمال، بوضع عدد كبير من آليات التضييق والمنع والابتزاز، كان منها استقدام الأيدي العاملة من دول أخرى في محاولة لمنع العمال الفلسطينيين من العمل لديها، ما قد يؤدي إلى كسر شوكة الشعب الفلسطيني بصورة عامة، لأثر القوة العاملة في الاقتصاد الفلسطيني عامة والحياة اليومية خاصة.

ولكن القوة العاملة المستوردة خلقت العديد من السلبيات في الواقع الإسرائيلي أدى إلى السماح للعامل الفلسطيني بالعمل ولكن ضمن آليات شديدة السوء، منها: ضرورة الحصول على تصريح أمني بالعمل وهوية ممغنطة تتضمن المعلومات الكاملة عن العامل، وهذه وسيلة كبرى من وسائل الابتزاز، وفي الوقت نفسه وسيلة من وسائل السيطرة، فقد أدى ذلك إلى خلق سوق سوداء لاستغلال العامل الفلسطيني المحتاج لإعالة أسرته، وكذلك فإن الحصول على التصريح يتضمن دفع مبلغ شهري ضريبة يصل زهاء 500 دولار سواء توفر العمل أم لا.

ولعل أسوأ ما في وضع العامل الذي يعمل بصورة شرعية الحواجز اللاإنسانية المقامة على ما يسمى بالمعابر التي تضطر العامل رغم قانونية مسيرته إلى التبكير في القدوم إلى هذا المعبر قبل ساعات من موعد العمل ليتمكن من إيجاد وسيلة النقل للذهاب إلى مكان عمله، وهذه المعابر مجهزة وبصورة يومية للتفتيش الجسدي الشديد الذي يتمثل في خضوع العامل للتصوير الإشعاعي الكامل والتدقيق الأمني المليء بالذل والقهر والإهانات والتفتيش الشخصي الذي يصل حد خلع الملابس تماما.

ونتيجة لذلك ينتج تدافع لمئات العمال يوميا على المعبر، لأن الجنود في لحظة مزاجية قد يوقفون العمال ويقومون بمنعهم من الدخول دون ذكر الأسباب، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى امتناع صاحب العمل الإسرائيلي عن دفع مستحقات العامل لأنه تأخر عن إتمام العمل، وهكذا تستمر الدورة يومية وأسبوعية وشهرية.

ونتيجة لذلك قد يقوم بعض العمال بالمبيت في مكان العمل في ظروف غير إنسانية وذات خطورة تحاشيا لهذه الإجراءات وتوقع المماطلة أو الحرمان من الأجور والمستحقات، فيتركون أسرهم دون رعاية لمدة قد تطول بين أسبوع وأشهر وهم على بعد ساعة منهم.


العامل الفلسطيني أسوأ واقعا من المشهد الروائي

"
العامل الفلسطيني  محاصر بحاجات أولاده، وليس له فرصة العمل في الاقتصاد الفلسطيني لذا فهو أسوأ حالا بكثير من الصورة التي تعبر عنها رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"
"

أما العامل الذي لا يحصل على تصريح للعمل لأسباب لا حصر لها وأبرزها الشرط الأمني وهو محاصر بحاجات أولاده وليس له فرصة العمل في الاقتصاد الفلسطيني فهو أسوأ حالا بكثير من الصورة التي تعبر عنها رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس".

ما يفعله هؤلاء العمال أنهم يقومون بالتسلل إلى أماكن عملهم عبر الجبال والأنفاق والوديان والأسلاك الشائكة، ويسيرون في بعض الأحيان ساعات طويلة في أحد الجبال وينتظرون في تلك الأماكن ساعات قد تزيد على عشر، في انتظار تحين غفلة من حرس الحدود الإسرائيليين وتوافقا مع موعد لأحد السائقين لتهريبهم إلى أماكن عملهم.

وقد أخبرني أحد العمال أنه يذهب إلى عمله ظهر يوم السبت حتى يتمكن من البدء بالعمل صباح الأحد، في رحلة قد تستغرق ثماني عشرة ساعة تتخللها مسيرة عشرات الكيلومترات والانتظار في البرد والتعرض للحشرات والحيوانات المفترسة، التي قامت إسرائيل بإطلاق العديد منها في مثل هذه الأماكن، والنتيجة قد لا يأتي السائق المتفق معه فيعلقون حتى مساء اليوم في قلة من الماء والطعام ويعودون إلى أسرهم متعبين مهزومين.

أما إذا جاء السائق، فإن جشعه قد يكون أسوأ من جشع سائق الصهريج عند غسان، فيقوم كما حدث مع أحد الشباب مؤخرا بتحميل أربعين شابا في سيارة حمولتها عشرة أشخاص، وماذا تكون النتيجة، يموت بعضهم من الاختناق، لأن السيارة مغلقة تماما خوفا من انكشاف أمرهم، أو يلقي بهم السائق في الشارع ويولي هاربا إذا ما رأى الجنود الإسرائيليين، ويقعون بين أيدي الجنود، فيتعرضون للضرب والسجن والغرامة، وهكذا تبقى الدائرة مغلقة عليهم.


الآثار النفسية والاجتماعية للعامل

"
من النتائج المباشرة التي بدأت تظهر نتيجة لواقع العمال الفلسطينيين كثرة حدوث الأمراض السرطانية بسبب تعرضهم اليومي لأجهزة الأشعة الخاصة بالتدقيق الأمني على المعابر
"

إن الحياة التي يعيشها العامل الفلسطيني بين الرجاء والأمل وبين الإجراءات التي يتعرض لها أو يضطر إليها بصورة يومية تنزع منه إنسانيته وتصادر سكونه النفسي، وتخلق منه إنسانا مضطربا حانقا غاضبا على كل شيء.

وفي النتيجة تخلق منه إنسانا معقدا ينعكس كل ذلك على أسرته وأبنائه في المقام الأول، لأنه متعب ومقهور، ومن وجه آخر لا يتمكن من متابعة أبنائه وتربيتهم، وتكون النتيجة العامة استمرار الوضع المضطرب والإنسان الفلسطيني الضحية لواقع لا إنساني، يحتاج إلى وقفة حقيقية لمعالجته قبل أن يستفحل، ونجد أن المجتمع الفلسطيني قد تشرذم وامتلأ بالسلبيات التي يصبح التعامل معها أسوأ من التعامل مع نتائج حرب معلنة.

ولعل من النتائج المباشرة التي بدأت تظهر نتيجة هذا الواقع كثرة حدوث الأمراض السرطانية بين أبناء الشعب الفلسطيني، فتعرض العمال اليومي لأجهزة الأشعة الخاصة بالتدقيق الأمني على المعابر هي وسائل قتل ناعمة تؤدي نتائجها على المدى الطويل؟

إن العامل الفلسطيني بحاجة إلى دعم واهتمام، ليتوقف نزيفه النفسي قبل أن يخرج عن السيطرة، ويفقد إنسانيته بسبب حصاره من لقمة عيش أبنائه وإجراءات تمعن في قتله كل لحظة، لتصل به إلى واقع لا يعود يعرف ذاته أو مجتمعه الذي يعيش فيه، إنه بحاجة إلى المساعدة من أجل أن يتحرر من لقمة عيش دونها فقدان إنسانيته أو حياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.