المونديال القطري.. البعد الآخر

المونديال القطري.. البعد الآخر - الكاتب: مهنا الحبيل



مقدمة لا بد منها
العبور من المضيق
الثورة الناعمة في قطر

كمثقف عربي أو كقلم إسلامي يرصد هزائم رئيسية حضارية وديمقراطية لحرية الإنسان العربي في الداخل وقوته في مواجهة خصم الخارج، ولديه طموح كبير في مضمار مشروع النهضة التقدمي للزحف العلمي والتقني والمحافظ على قيم الفضيلة، أجد مسؤولية كبيرة في تقييم الحدث الضخم في حراك العرب المعاصر منذ تشكل الدول القُطْرية الحديثة والذي تمثّل في نجاح قطر في اختطاف حق تنظيم مونديال 2022.

ولأننا نتمسك بالمسارات الرئيسية للمشروع التقدمي الإسلامي للوطن العربي، فنحن نضبط خطابنا التحليلي ونُجل المنبر الديني أن يندفع في حركة التهليل الجماهيري وبين الاحتفال الذي نُقدر فيه للقطريين حقهم لهذا التفوق، ولكن تبقى مركزية العقل الإسلامي تسعى لأن يتوازن الموقف بين الأمل لنجاح قطر في استثمار المناسبة في ميدان التقدم والرعاية والاستثمار الدقيق للتوعية بالفكر الإسلامي والحضاري والقضايا العربية، وبين الحرص على تقليص مساحات الاختراق الأخلاقي والثقافي التي تتصاحب مع هذه المناسبات، مع إدراكنا العميق بنسبية الأشياء في هذا الزمن المزدحم.

"
يجب أن نوازن بين الأمل لنجاح قطر في استثمار المناسبة في ميدان التقدم والرعاية والاستثمار الدقيق للتوعية بالفكر الإسلامي والحضاري والقضايا العربية، وبين الحرص على تقليص مساحات الاختراق الأخلاقي والثقافي التي تتصاحب مع هذه المناسبات
"

مقدمة لا بد منها
هذه المقدمة لا بد منها لتحديد موقفنا من الفوز القطري, لكننا في هذا المقال نتحدث عن البعد الآخر كقراءة سياسية مختلفة للنجاح، وهي حصيلة اختراق مسار تحدّ صعب خاضته الشخصية الرئيسية للدولة الحديثة في قطر وهي أميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أعطت مؤشراً مختلفاً ليس لمشيخات الخليج العربي فقط بل لكامل تجارب الأنظمة الرسمية العربية.

فقد بدا بريق عيني الأمير في قاعة زيورخ يتجاوز بمراحل قضية المونديال القطري إلى المونديال السياسي الذي خاضه حمد بن خليفة بصورة سجّلت انتزاعاً شاملاً للثورية الناعمة لهذه التجربة التي شهد لها الخصوم والمؤيدون والمتحفظون.

وسنعرض في البداية لحصيلة محددة من قراءات ويكيليكس تحمل دلالة مهمة لنا في هذا السياق، فقد قدمت الوثائق دليلاً عملياً على أن قطر -بين دول الخليج العربي في ذاكرة الأرشيف الإسرائيلي والمخابرات الأميركية- هي الأقّل مدحاً والأكثر نقداً على صعيد السياسات الخارجية وعلى صعيد مضمار "جمهورية الجزيرة" الإعلامي وتفاعلاتها في القضايا العربية.

وكذلك على صعيد العمل الخيري الذي أشارت الوثائق فيه إلى نجاح مؤسسة الشيخ عيد آل ثاني الخيرية في مواصلة الجهود الإنسانية التي لم تقدم تحريضات برقيات الدبلوماسية الأميركية أي دليل على علاقة المؤسسات الخيرية بالعمل العُنفي المزعوم, إنما أبانت أن الهدف كان محاصرة العمل الخيري الإغاثي الإسلامي كهدف مستقل لتعزيز السياسة الخارجية الأميركية وأشادت بتجاوب كل الدول الخليجية لهذا الحصار باستثناء قطر.

وهنا نحتاج إلى وقفة تأمل دقيقة تعطي مؤشرا مهماً على حراك الصراع الإعلامي بين تحالف الدول العربية المناهض لمشروع الدوحة الجديد وبين قطر في قضية العلاقة مع تل أبيب أو مع الوجود العسكري الأميركي المنتشر أو المتواجد في العديد من الدول ومنها الدول الخليجية بما فيها قطر, إلاّ أنها انتهجت أسلوب التحريض الإعلامي الانتقائي لمحاصرة قطر ليس لأجل هذه العلائق التي تجاوزت دول أخرى قطر بمراحل في الاتصالات, لكن لما كشفت عنه الوثائق من أن قلق هذا التحالف المتصاعد هو في نجاح مشروع الدوحة الجديد في الإدارة المحلية والقاعدة الإعلامية التي تمثلها قناة الجزيرة وفي خرق التبعية المطلقة للسياسة الخارجية العربية المهيمن عليها في اتجاه واحد لا يناقش مطلقا الموقف الأميركي, في حين كشفت فلسفة الشيخ حمد مساحة مهمة تحركت فيها دولة صغيرة أعطت تأثيراً معنويا مهما ودقيقا لتغيير قواعد اللعبة, شكّلت قمة غزة قلباً مهماً لدلائله في الضمير الشعبي العربي وفي المساحات المعدومة داخل السجن العربي الكبير.

العبور من المضيق
أدارت قطر ملف الانشطار النووي السياسي في المنطقة بمنهجية مختلفة تلاقت مع وعي الرأي العام العربي لخطورة حركة التهييج العام التي سبق أن صُبّت على العراق لمصلحة المشروع الأميركي الإسرائيلي الذي أفادت منه إيران ليتحول إلى تصويب هذا التهييج لطهران إلى مبررات الحرب أو الضربة العسكرية المحدودة، بحكم أن واشنطن -كما صرح العديد من قياداتها وكذلك القيادات الإيرانية- ليس من مصلحتها ضرب الشريك الإيراني في العراق.

لكن المؤكد أن المنطقة كانت تُستدرج إلى حالة طواف أميركي جديدة تُكثّف هذه الدورة الإعلامية التصعيدية لأغراض إستراتيجية لتعميق العلاقات الإسرائيلية الخليجية وتحضير الرأي العام لها بحجة الضربة العسكرية وإن لم تجر, لكنّها تُستحلب لتكثيف التواجد المعنوي والسياسي فضلا عن احتمالات تطورات هذه الضربة التي لو جرت فهي تحمل بعدا تدميرياً لمستقبل الخليج وخرائطه.

"
أدارت قطر ملف الانشطار النووي السياسي في المنطقة بمنهجية مختلفة تلاقت مع وعي الرأي العام العربي لخطورة حركة التهييج العام التي سبق أن صُبّت على العراق لمصلحة المشروع الأميركي الإسرائيلي
"

فكان الموقف القطري مختلفا عن حملة الاندفاع غير الواعية أو المتورطة لتبرير النفوذ الإسرائيلي بدا فيه الموقف القطري متمسكاً برفض هذا الاستدعاء لخلفية العدوان على العراق, إلا أن الرأي العام في الخليج العربي الذي -في تقديري- وإن لم يؤيد غالبيته موقف الدوحة فهو يتفهم ذلك، خاصة مع ما أظهرته الأحداث من انهيار أي موقف خليجي مقابل للزحف الإيراني في العراق، فهذا التوازن مهم جدا, لكن الدوحة كانت تحتاج إلى تقدير الموقف الآخر الذي يُشكّل قلق الصعيد الشعبي في الخليج العربي وهو طموح إيران المكرر -كما في تصريح شريعت مداري مستشار مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي وقادة آخرين في الحرس الثوري تجاه تطلع طهران إلى ما أسماه استرداد البحرين ونقل نفوذها إلى إقليم الإحساء شرق السعودية الملاصق لقطر، وهو المشروع الذي لا تطرحه واشنطن وإنما هو حصيلة رصد التطور للفكر الثوري في إيران ومشروعه التنفيذي في العراق.

ولعل الدوحة أدركت خطورة الاستهانة بهذا القلق الشعبي في الخليج الذي يقرأ حجم تداول هذا المشروع للجغرافيا السياسية في الإستراتيجيات الأميركية كما الطموح الإيراني، وأظهرت قطر ذلك التقدير في توازنات أخرى، لكن الإعلام المحيط بطبيعته يبقى له صوت مُعبّر لتوجهات أخرى.

في كل الأحوال فإن التحالف المعادي لقطر إضافة إلى المحور الإيراني كان يراهن بصورة كبيرة على تطوير الصراع بين الرياض والدوحة لنقطة تفجير نهائي، واستطاع الشيخ حمد بمبادرة جدة والعلاقة الشخصية بينه وبين العاهل السعودي وجسور الثقة معه ومع نجله الأمير متعب، تحقيق نقلة نوعية في هذه العلاقات التاريخية الحساسة.

هذه الجسور كفلت لمشروع الدوحة الجديد الخروج من عنق الزجاجة الصعب وتجاوز مرحلة التوتر السعودي القطري، مع بقاء فضاء المشروع الجديد فاعلاً ومستقلاً، وإن تغيرت بعض موازين اللعبة كطبيعة التغيير الدبلوماسي وتأثيراته في البرنامج العام.

في كُل الأحوال، فقد أحبطت هذه الانتقالة مساعي جادة ومحمومة من أطراف عربية موالية بشدة لواشنطن وأطراف إيرانية كانت تدفع باتجاه القطيعة والحرب السياسية، وهو نجاح منهجي مهم لتطلعات الشيخ حمد في مستقبل قطر الجديد.

الثورة الناعمة في قطر
استفاق العالم بعدها على حركة تنمية ضخمة وجسور ثقافية وسياسية متعددة تتواصل وتحترم ولا تطارد أو تعتقل، أنشأتها الثورة الناعمة في قطر، وأدرك الناس فعلياً أن مستوى رفاهية الإنسان القطري تتصدر مع عواصم الرفاهية التاريخية, ودخلت الدوحة دورة جديدة في هذا المضمار من خلال خلو سجونها تقريبا من السجناء السياسيين، وأنهت ملف معتلقي محاولة الانقلاب الذين ينتمون لقبيلة المرة المهمة وذات المكانة في الديمغرافية القطرية والخليجية بخاتمة سعيدة حققت الإفراج عنهم وتعزيز العلاقة مع الجسر السعودي الحيوي المتمثل في الأمير متعب بن عبد الله, لتكون رسالة الدوحة بالغة الأهمية والتأثير وكسب الضمير الخليجي والعربي وتعزيز التوازن بين أقطار الخليج العربي.

"
مع التحفظ الذي يظهره تيار القيم الأخلاقية في قطر على ضريبة التقدم العلمي الهائل فإن مشروع الدوحة الجديد فسح مجالا كبيرا للدعوات الدينية وخاصة الحركة السلفية، في مزاوجة عجيبة للمشروع الجديد وقدرته على تنظيم الخلاف
"

ومع ذلك التفوق حمل الرد العملي لقطر الإعلان عن مشروع البرنامج السياسي الجديد، هذا المشروع تعثّر برلمانياً كما هو حال الدول الخليجية، لكن حجم الثقافة النوعية للحراك الوطني القطري بدأ يتطور خاصة من خلال الصوت الإعلامي للرؤى النقدية للصحافة الإلكترونية القطرية وفريقها الوطني الذي بدأ يستوعب مشروع الطموح ويسعى لتحقيقه دستوريا من خلال الرأي والتحفيز التقدمي, في أتون حراك علمي ضخم تصدر المشهد التعليمي في المنطقة.

ومع التحفظ الذي يظهره تيار القيم الأخلاقية في قطر على ضريبة التقدم العلمي الهائل فإن مشروع الدوحة الجديد فسح مجالا كبيرا للدعوات الدينية وخاصة الحركة السلفية، في مزاوجة عجيبة للمشروع الجديد وقدرته على تنظيم الخلاف وفسح المجال أمام الأطياف المختلفة في هذه الدولة الصغيرة التي باتت تحتضن وفوداً لا تنقطع من الزائرين والعاملين.

وتبقى هناك رؤى واختلافات تقديرية لتقييم مشروع الدوحة الجديد، لكن ما لا يختلف عليه مراقب أن شخصية هذا المشروع قبل أن تنتزع المونديال الرياضي انتزعت المونديال السياسي وبكفاح صعب ودقيق.. كل ما نرجوه هو أن يكون النجاح قبل وعند مطلع يونيو/حزيران 2022 نوعيا لقطر وللعرب، وقد سجل التاريخ البشري للمشرق أن النصر الكبير هو في فوز الإنسان فكراً وعقلاً لتكون الصناعة والتفوق والعلم خدمة للروح.. ذلك هو كأس النصر الأكبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.