مأساة منظمة التحرير.. تناقض الفكر والمشروع

العنوان: مأساة منظمة التحرير.. تناقض الفكر والمشروع



مأساة المنظمة
تناقض الفكر والمشروع
ماذا بعد؟

حتى توقيع اتفاقية أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993 كان بالإمكان القول إن صيغة منظمة التحرير وصلت لحائط مسدود وإن مشروعها في العودة والتحرير قد باء بالفشل.

لكن تشخيص الفشل هذا, وبغض النظر عن الأسباب والظروف التي قادت إليه, لا يفسر كليا الحالة الفلسطينية الراهنة, ويعجز كثيرا عن تفسير الممارسات السياسية والأمنية الحالية للقيادة الفلسطينية.

فرضية الفشل هذه ليست فقط قاصرة عن تفسير الحالة الفلسطينية الراهنة, بل أيضا لا يمكن التأسيس عليها لبناء حالة وطنية جديدة بديلة وضرورية لما فشل.

تجاوز قصور فرضية الفشل واقتراح تفسير بديل يستوجب إعادة تركيب تاريخ منظمة التحرير السياسي بما يتوافق مع النتائج التي وصلت إليها هذه التجربة, لا النتائج التي كانت مرجوة منها في البداية.

وتجاوز فرضية الفشل واقتراح تفسير بديل يتطلب أيضا التحرر من قيود الخطاب السياسي الفلسطيني والخروج من فقاعة فكرة الدولة التي حكمت الفكر والممارسة السياسيتين للمنظمة. سأزعم بناء على الرواية التالية لتجربة المنظمة أن صيغة منظمة التحرير لم تفشل فقط, بل حملت بذور فشلها وهزيمتها في داخلها وفي بنيتها منذ البداية.

مأساة المنظمة

"
مأساة منظمة التحرير أن من يفكك خطاب قيادتها السياسية اليوم والصور المتضمنة في هذا الخطاب للعدو الذي اغتصب الأرض وقتل وشرد أهلها لا يجد فيه عدوا يجب قتاله بل شريكا يمكن العمل معه, وصديقا يمكن معاتبته
"

هذه الرؤية هي في صميم مأساة منظمة التحرير كحركة تحرر وطني, ونتيجة لتناقض طبيعة المشروع التحرري الذي قادته من جهة, والفكر السياسي الذي تبنته من جهة أخرى. الفكر السياسي الذي مثل أداة تشكيل وإعادة تشكيل المشروع الوطني الذي قادته المنظمة منذ نهاية الستينيات قاد ليس إلى فشل تجربة المنظمة فقط, بل لإعادة تشكيل مشروعها تدريجيا بما يتوافق مع مصلحة المشروع الصهيوني النقيض انتهاء إلى الشراكة معه من موقع الأجير.

مأساة منظمة التحرير أن من يفكك خطاب قيادتها السياسية اليوم والصور المتضمنة في هذا الخطاب للعدو الذي اغتصب الأرض وقتل وشرد أهلها لا يجد فيه عدوا يجب قتاله بل شريكا يمكن العمل معه, وصديقا يمكن معاتبته. مأساة منظمة التحرير أنها انتهت تماما إلى حماية مشروع والدفاع عنه هي أنشئت أساسا لمحاربته وتفكيكه.

النتيجة التي انتهت إليها تجربة منظمة التحرير هي النتيجة التي انتهت إليها العديد من التجارب الاستقلالية الفاشلة لبعض حركات التحرر في غير مكان من العالم. فهذه التجارب استبدلت من التحرر من الاستعمار التبعية له, أو استبدلت من بالاستعمار القديم الاستعمار الجديد, وبادلت بأحلام ما قبل التحرير كوابيس ما بعد الاستقلال.

الفرق في حالة المنظمة, والذي يزيد المأساة وتبعاتها, أن التجربة لم تصل حتى لحد إنجاز الاستقلال الفاشل, بل اخترعت بديلا له فكرة "السلطة تحت الاحتلال".

مأساة المنظمة أنها بخياراتها الفكرية والسياسية منذ البداية أسست لتجريم إستراتيجيتها في المقاومة، فانتهى بعض أطرافها إلى الاصطفاف في الموقع المضاد تماما لقضيتهم الوطنية سياسيا وثقافيا, فهيمنة خطاب الدولة (أو الدولتين) واستبداله لخطاب التحرير جعل من التسوية السياسية وسيلة وحيدة للعمل قادت أولا لتهميش المقاومة, التي كان من المفروض أن تكون الإستراتيجية الأصلية, ثم إلى تجريمها لاحقا.

فخطاب الدولة (أو الدولتين) يعبر عن طريقة تفكير في السياسة, وبالتالي يستتبع آلية في العمل والممارسة السياسية, فيما خطاب التحرير والعودة يعبر عن طريقة تفكير مختلفة, آلية عمل مختلفة, وممارسة سياسية مختلفة.

تناقض الفكر والمشروع
فرضية التناقض بين طبيعة الفكر السياسي وأهداف المشروع الوطني المقترحة هنا تفسر ليس فقط فشل الحالة الوطنية التي مثلتها المنظمة, بل حملها لبذور فشلها في داخلها وفي بنيتها منذ البداية.

فهي في صلب فشلها السياسي وتناقض خطابها (كيف يمكن الوصول لدولة في الضفة والقطاع عن طريق الاعتراف بإسرائيل وفي ذات الوقت الحديث عن الالتزام بحق العودة) وسبب خسارتها للفضاء الثقافي الذي شكل أساس قوتها الشعبية في البداية.

فرضية فشل الفكر السياسي أيضا لا تقرأ التجربة بإنكار ثورية وجدية المنظمة وقيادتها وتضحيات أعضائها الهائلة, بل ترى وتعتقد أنها شكلت فعلا حالة ثورية جدية, وهو ما يدعو إلى استخدام توصيف المأساة, وقراءة التجربة بعد رؤية نتائجها بأثر رجعي وبنظرة تراجيدية لم يكن ممكنا رؤيتها من البداية إلا في سياق رومانسي ثوري. ما يلي هو مجرد إضاءة سريعة على جوانب محدودة للتجربة وبعض تجليات فشل الفكر السياسي بما يسمح به المجال هنا.

"
الفكر السياسي الفلسطيني لم يسهم فقط في تعزيز القطرية (فلسطنة الصراع) على حساب موضوعية قومية وعروبة الصراع, بل شوه الاثنين, وبدل بناء تصور فعال لعلاقة الوطني بالقومي أنتج علاقة مشوهة
"

الفكر السياسي الفلسطيني لم يسهم فقط في تعزيز القطرية (فلسطنة الصراع) على حساب موضوعية قومية وعروبة الصراع, بل شوه الاثنين, وبدل بناء تصور فعال لعلاقة الوطني بالقومي أنتج علاقة مشوهة ساهمت في تبريرها وتعميمها قراءات مضطربة لهزيمة 1967 ورؤى مغلوطة لمعناها قادت فيما قادت إلى استدخال فكر سياسي قطري مشوه.

لا شك أن هناك ضرورة لإبراز الهوية الفلسطينية ومركزية دور الفلسطينيين في الصراع مع الكيان الصهيوني, لكن يبدو في حالتنا هذه أن ما هو فلسطيني صيغ نقيضا لما هو عربي واحتجاجا عليه بسبب القراءة المغلوطة لهزيمة 1967 (التي حملت العرب والعروبة, لا الأنظمة القطرية, المسؤولية) لا نقيض لما هو صهيوني ورفضا له كما تفترض ضرورة الصراع (يبدو اليوم أن تغيير اسم الميثاق القومي الفلسطيني إلى الميثاق الوطني في جلسة المجلس الوطني المنعقدة في القاهرة في العاشر من أغسطس/آب 1968 كان أكثر من رمزي وعبر عن بداية سيادة فكر سياسي جديد نرى نتائجه اليوم بوضوح).

هذه الصيغة القطرية المشوهة تتضمن فيما تتضمن نفيا للذات القومية في صراع طابعه الأساسي والتاريخي قومي تحرري. وهذه الصيغة أيضا تتضمن نفيا للذات القومية في أوج صراع وجودي حاد بين مشروع قومي عربي يتضمن بناء أمة ودولة لا يمكن أن يمر إلا عبر تحرير فلسطين وتفكيك المشروع الاستعماري الصهيوني النقيض الذي يشكل العائق الأساسي على هذا الطريق.

بهذا المعنى, ليست فلسطين بالجوهر قضية فلسطينية فقط, بل هي أساس فكرة العروبة المعاصرة ومركز المشروع التاريخي التحرري للعرب. إستراتيجية تحرير فلسطين لا تفترض, إذن, بناء وتعريف ما هو فلسطيني (أو قطري) فقط, بل بناء وتعريف ما هو عربي أيضا. درس التاريخ وعبرة التجربة تفيد, إذا, أن لا فلسطين بدون عروبة, ولا عروبة بدون فلسطين.

الصيغة المشوهة لما هو قطري أو وطني تماثل بمنطقها موضة "الوطن القطر أولا" المنتشرة هذه الأيام وسيلة لمحاولة بعض العرب وبعض الأنظمة تحرير أنفسهم ليس من مسؤولياتهم تجاه القضية القومية الأولى, بل, بالتالي وبالضرورة, تحريرهم أيضا من قضايا أوطانهم وأقطارهم التي يزعمون وضعها أولا.

بهذا المعنى يمكن لهذه القطرية السياسية المشوهة أن تصبح متوافقة مع المشروع الاستعماري الغربي لتجزئة المنطقة العربية, لا إنجازا وطنيا أو أساسا لمشروع تحرري, وتنتهي لعكس هدفها الأساسي.

هذا يفسر فيما يفسر سبب العداء المصطنع للفلسطينيين في الأقطار التي ترفع شعار "القطر أولا"، فهذه الصيغة أنتجت بالأساس نقيضا للفلسطيني ووسيلة للتحرر من قضيته, لا حفاظا على وطن يهدده الإسرائيلي ليل نهار.

هكذا أيضا يبدو بعض ما عد إنجازا يلوك به بعض المعلقين من طراز "الشخصية الفلسطينية المستقلة" و"القرار الفلسطيني المستقل" كنقيضين إستراتيجيين لما هو عربي مجرد واجهة لحجب فشل يصور بأنه انجاز, وكأن تحييد أكثر من 300 مليون عربي عن قضيتهم الأساسية يعد إنجازا يتوجب التصفيق له.

"
مأساة منظمة التحرير أن إستراتيجية الحل المرحلي في أوسلو وما تلاها, وعلى عكس ما أشاع أصحاب هذا الحل لتسويقه, أصبحت في الواقع حل إسرائيل المرحلي لتصفية القضية الفلسطينية
"

فكرة التناقض المتضمنة في الفكر والممارسة السياسيين بين ما هو فلسطيني (أو ما هو قطري) وما هو عربي هي فكرة زائفة بالأساس ومؤشر لفشل الفكر السياسي ولخلل في الإستراتيجية.

مأساة منظمة التحرير (ومأساة كل قطرية سياسية مشوهه في الوطن العربي) أيضا, أن القطرية السياسية تضعها اليوم في موقع من هو ضد التاريخ والسياسة والاقتصاد.

فالعالم والمنطقة, وبسبب التحولات السياسية والاقتصادية الراهنة التي تعيد رسم خريطة العالم والإقليم سياسيا واقتصاديا, يشهدان حالة نهضة قومية, إعادة انبعاث للمشاريع القومية, وإعادة اعتبار لمهام تاريخية مرتبطة بمرحلة القومية كالتحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

والفكر السياسي الفلسطيني باختراعه لفكرة الحل المرحلي المبنية على التسوية السياسية بديلا للمقاومة هو الذي حول أوسلو لمرحلة في تصفية القضية الوطنية الفلسطينية, لا مرحلة على طريق التحرير الشامل كما وعد الفلسطينيون.

وهو الذي حول المجلس الوطني الفلسطيني, بأثر رجعي, إلى شاهد زور على هذه المأساة بإقراره للحل المرحلي السياسي في دورته الثانية عشرة في يونيو/حزيران 1974.

مأساة منظمة التحرير أن إستراتيجية الحل المرحلي في أوسلو وما تلاها, وعلى عكس ما أشاع أصحاب هذا الحل لتسويقه, أصبحت في الواقع حل إسرائيل المرحلي لتصفية القضية الفلسطينية.

مأساة الحل المرحلي التسووي أنها جعلت من إمكانية استمرار المنظمة في المشروع التحرري معاندة غير ممكنة لفكرها السياسي وأخضعتها, بالتالي, لقوى الواقع الجديد الذي أنتجته سياستها المرحلية وفكرها السياسي. بهذا المعنى, الخيار المرحلي التسووي البديل لفكرة إقامة السلطة الوطنية على أرض محررة, لا محتلة, حول المنظمة من حامل لمشروع تحرري إلى أداة لتدميره, وأكثر, حول المنظمة باختراعها لفكرة "السلطة تحت الاحتلال" إلى أداة تدمير ذاتي.

والفكر السياسي الفلسطيني وخيارات المنظمة السياسية هما المسؤولان عن خسارة المنظمة للفضاء الثقافي الذي أسس لشعبيتها باستبدالهما ثقافة, تاريخ, وتراث, بثقافة مضادة, تاريخ مزور, وتراث مصطنع.

فالفكر السياسي الفلسطيني القطري والتسووي هو في أساس وخلفية إنتاج وتسويق ثقافة ومفردات الهزيمة والاستسلام وتشويه الثقافة والرموز الوطنية وإعادة كتابة تاريخ الصراع بما يتوافق مع مشروع التسوية والشراكة مع العدو.

فاعتراف منظمة التحرير بعدوها ووجوده (أو حقه في الوجود) استتبع بالضرورة انقلابها على الثقافة الوطنية وتسويقها لثقافة جديدة تتفق مع المشروع المضاد لمشروعها الأصلي, وتبني التسوية استتبع بالضرورة الانقلاب على المقاومة فكرا وممارسة لدرجة تبني خطاب الإرهاب الإسرائيلي.

ماذا بعد؟
كل تجربة وكل حالة وصيغة وطنية تحمل دوما بذور ما بعدها فيها. فشل المنظمة في استدامة هيمنتها على الفضاء الثقافي وفشلها في تعميم رؤيتها المشوهه للصراع والتاريخ وفلسطين والعروبة من جهة, وخسارتها للتمثيل السياسي من جهة أخرى (كما دلت على ذلك الانتخابات التشريعية في 2006 وأشكال الحراك الفلسطيني في غير مكان من العالم) كلها تعكس حيوية الشعب الفلسطيني وصعوبة, إن لم يكن استحالة, إمكانية تزوير الوعي العربي للفلسطينيين.

"
تشكل الحالة الوطنية البديلة أكثر من مجرد فكرة, وأبعد من أن تكون إحدى تبعات نتائج تجربة المنظمة فقط, بل هي أيضا ضرورة تفترضها الخريطة السياسية العالمية والإقليمية
"

فشل المنظمة, برغم مأساويته, يشكل المقدمة الأساسية لتشكل حالة وطنية جديدة وبديلة تتبنى إستراتيجية تحررية جديدة تتضمن إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني في العودة والتحرير سياسيا (فكرا وممارسة بما يضمن التحرر الكلي من خطاب الدولة المبني على أساس التسوية والاعتراف بالمشروع الصهيوني الاستعماري ويعيد الاعتبار لمركزية البعد القومي), ثقافيا (البناء أساسا على الإمكانية الثورية الهائلة للثقافة العربية والتاريخ العربي لتثوير الواقع الفلسطيني والعربي في مواجهة المشروع الصهيوني), اجتماعيا (إعادة الاعتبار للعلاقة الجدلية بين التحرر الاجتماعي والوطني) وممارسة (عبر إعادة الاعتبار لدور العمل المؤسساتي الديمقراطي بديلا للتفرد والشخصنة والمحاصصة).

تشكل هذه الحالة الوطنية البديلة أكثر من مجرد فكرة, وأبعد من أن تكون إحدى تبعات نتائج تجربة المنظمة فقط, بل هي أيضا ضرورة تفترضها الخريطة السياسية العالمية والإقليمية الجديدة التي تؤسس لإعادة الاعتبار لمركزية البعد القومي للصراع وبدء تفكك نظام الهيمنة الغربي على العالم والمنطقة.

رغم كل الفشل, تبقى حيوية الشعوب والمجتمعات من حقائق التاريخ التي لا جدال فيها. وما يسود المجتمعات الفلسطينية من أشكال الحراك المختلفة ربما يبشر بأن الحالة الوطنية الجديدة قادمة لا محالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.