أفريقيا في عالم دون مساعدات

أفريقيا في عالم دون مساعدات - الكاتب: حمدي عبد الرحمن



المساعدات الجيدة والمساعدات الضارة
أفريقيا والتحرر من المساعدات الخارجية
آفاق المستقبل

تخيلت بعد عودتي من إحدى العواصم الأفريقية أن الدول المانحة قررت فجأة قطع المعونات التنموية عن أفريقيا. ولا أدري لماذا جال بخاطري في نفس اللحظة أحد شخصيات رواية الأديب النيجيري الأشهر شينوا أتشيبي وهو يقول: إن الخيط الذي يجمع بين الشعوب الأفريقية قد تمزق إرباً إرباً، وهو ما جعل الأشياء تتهاوى. ولا يخفى أن الأوضاع في أفريقيا من أنغولا إلى السودان لا تزال تستمر في التداعي والانحدار، فما الذي تغير إذن في أفريقيا بعد نحو خمسين عاماً من التحرر من ربقة الاستعمار؟

لقد حصلت بلدانها خلال تلك الفترة من الدول الغنية على نحو أكثر من تريليون دولار كمساعدات تنموية، ورغم ذلك فإن معدلات الفقر في تصاعد، ومعدلات النمو في انخفاض مطّرد. وطبقاً لبعض التقديرات فإنه خلال الفترة بين عامي 1970 و1988 والتي تمثل ذروة تدفق المساعدات على أفريقيا، ارتفعت نسبة الفقر في أفريقيا من 11 إلى 66%، وهو ما يعني أن نحو 600 مليون أفريقي باتوا يرزحون تحت خط الفقر وفقاً للتصنيف الدولي.

ونحاول في هذا المقال أن نطرح تساؤلاً محورياً حول إمكانيات تحرر أفريقيا من النمط التقليدي المعتمد على المساعدات الغربية في إحداث نهضتها وتطورها، وهل ثمة بديل أفريقي معتمد على الذات؟ وهل يمكن للأفارقة العيش في عالم يخلو من المساعدات التنموية؟

المساعدات الجيدة والمساعدات الضارة
يمكن الحديث عن أنماط ثلاثة من المساعدات الخارجية هي: نمط المساعدات الإنسانية أو الغوث الطارئ الذي يقدم في أوقات الأزمات والكوارث الكبرى مثل الزلازل والفيضانات والحروب الأهلية، ونمط المساعدات الخيرية التي تقوم بها منظمات وجمعيات طوعية وخيرية. أما الثالث فهو نمط المساعدات المنظمة التي يقدمها المانحون الدوليون سواء على أساس ثنائي حيث تقدمها حكومة إلى حكومة أخرى، أو على أساس جماعي كتلك المساعدات التي تقدمها المنظمات والمؤسسات الدولية المانحة.

وإذا كانت هناك فوائد لا تنكر للغوث الإنساني الطارئ فإن ثمة انتقادات عديدة توجه لأعمال الإغاثة والمساعدات الخيرية كتلك المتعلقة بسوء الإدارة وارتفاع التكلفة ومحاولة تنفيذ أهداف معينة ولا سيما من قبل الدول التي تنتمي إليها تلك المنظمات الخيرية.

وتفصح تجارب منظمات المساعدات الدولية عن تبديد معظم أموال المساعدات قبل وصولها إلى مستحقيها. وتشير بعض التقديرات إلى أن كل 13 دولارا يتم جمعها في الخارج لا يصل منها سوى دولار واحد فقط إلى أفريقيا. ويرجع ذلك إلى عدة أمور منها ارتفاع رواتب ومزايا العاملين في صناعة المساعدات، حيث إنها تخلق فرص عمل مهمة في الدول الغربية، كما أن معدات وأدوات الإغاثة يتم شراؤها من الغرب.

"
تجارة المساعدات تؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء الغرب وإفقار أفريقيا, وهذا يعني أن المساعدات الخارجية أضحت جزءاً من الداء الأفريقي عوضاً عن أن تكون الدواء الشافي
"

وعليه فإن تجارة المساعدات تؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء الغرب وإفقار أفريقيا، بما يعني أن المساعدات الخارجية أضحت جزءاً من الداء الأفريقي عوضاً عن أن تكون الدواء الشافي.

وأذكر أنه خلال الفترة بين عامي 1970 و2002 اعتمدت دول أفريقية كثيرة مثل بوركينافاسو ورواندا والصومال ومالي وتشاد وموريتانيا وسيراليون في تغطية نحو 70% من إجمالي نفقاتها العامة على المساعدات الخارجية، وذلك طبقاً لمؤشرات أصدرها البنك الدولي.

وتؤدي المساعدات في معظم الأحيان إلى تفشي الفساد في المجتمع الأفريقي، ولعل المثال الأبرز هنا يتمثل في حالة جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) وهي دولة غنية بثرواتها الطبيعية، إذ استطاع الرئيس الراحل موبوتو سرقة ما يعادل الديون الخارجية للدولة والبالغة نحو خمسة مليارات دولار. ولم يهتم موبوتو بالدخول في مفاوضات مع الدول المانحة لتخفيف حدة الديون عن كاهل مواطنيه، قدر اهتمامه بتأجير طائرة كونكورد لتقل ابنته إلى ساحل العاج حيث جرت مراسم زفافها هناك. وتبدو الأرقام مذهلة ويصعب تصديقها عن حقيقة الفساد في أفريقيا، إذ يتم تحويل ما يعادل عشرة مليارات دولار سنوياً إلى خارج القارة نتيجة معاملات فاسدة.

ونظراً لأن المساعدات الخارجية تحول بشكل مباشر إلى الحكومات الأفريقية، فقد أصبح الاستيلاء على السلطة في الواقع الأفريقي أمراً مربحاً ويستحق الصراع من أجل الوصول إليه. وعلى سبيل المثال حينما منح قائد التمرد في سيراليون منصب نائب رئيس الدولة في مفاوضات للسلام، لم يقبل به إلا بعدما أعطي ولاية الإشراف على قطاع تعدين الماس في البلاد.

ومن هنا فإن المساعدات الخارجية قد تكون أحد العوامل الرئيسية المفضية إلى عدم الاستقرار الاجتماعي وربما إلى الحرب الأهلية.

وفي كثير من الأحيان أسهمت تدفقات أموال المساعدات في إحداث ما يطلق عليه اسم "المرض الهولندي" الذي يعني أن تدفق رأس المال بكميات كبيرة يمكن أن يؤدي إلى تدمير قطاع الصادرات في الدولة، وهذا ما أحدثته بالضبط المساعدات في بعض الدول الأفريقية حيث ارتفعت أسعار المنتجات المحلية مما جعلها غير تنافسية في مجال التصدير.

أفريقيا والتحرر من المساعدات الخارجية
ليس هناك من أفق واضح على طريق النهضة والتقدم في أفريقيا إلا التحرر من ربقة المساعدات الخارجية، فالأفارقة ظلوا لعقود طويلة كصغار الطيور التي تقبع في أعشاشها فاتحة أفواهها لكل من يقترب منها ويلقي إليها بأي شيء، بيد أنه في نهاية المطاف تكبر هذه الصغار وتطير معتمدة على نفسها في الحصول على أقواتها. وعليه فقد آن الأوان للأفارقة أن يقفوا على أقدامهم ويعتمدوا على أنفسهم في الكفاح من أجل الحياة.

وتطرح دامبيسا مويو في كتابها المهم عن "المساعدات المميتة" أربعة مصادر بديلة للتمويل بالنسبة للاقتصادات الأفريقية، يمكن الاعتماد عليها حتى يمكن اتقاء الجوانب السلبية لسياسة المساعدات الخارجية.

ويتمثل البديل الأول في اتباع الحكومات الأفريقية نموذج القوى الآسيوية الصاعدة من خلال إصدار السندات. ومن المتعارف عليه اقتصادياً أن السند يعني وعدا من الحكومة بإعادة الدفع للمقرض بزيادة فائدة متفق عليها. وتهدف الحكومات عادة من وراء إصدار مثل تلك السندات للمستثمرين الأجانب إلى المساعدة في تمويل برامج التنمية بما في ذلك مشروعات البنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية. أضف إلى ذلك أن الأموال التي يتم الحصول عليها من تلك السندات يمكن استخدامها في تغطية النفقات اليومية الأساسية للحكومات الأفريقية.

"
ظل الأفارقة لعقود طويلة كصغار الطيور التي تقبع في أعشاشها فاتحة أفواهها لكل من يقترب منها ويلقي إليها بأي شيء, بيد أنه في نهاية المطاف تكبر هذه الصغار وتطير معتمدة على نفسها في الحصول على أقواتها
"

ويشير البديل الثاني إلى ضرورة تشجيع الصينيين على المزيد من الاستثمارات المباشرة في مجالات البنية الأساسية الأفريقية. وطبقاً للتقديرات فقد استثمرت الصين في أفريقيا نحو 900 مليون دولار عام 2004 مقابل 20 مليونا عام 1975، فبنت الطرق في إثيوبيا وأنابيب النفط في السودان وخطوط السكك الحديدية في نيجيريا ومحطات الكهرباء في غانا.. وتلك أمثلة محدودة على الوجود الصيني الكبير في أفريقيا.

وقد شهدت السنوات الخمس الماضية هجوماً صينيا منظماً على القارة الأفريقية كما لو كانت الصين تخطط لأن تكون القوة الأجنبية الوحيدة المهيمنة فيها خلال القرن الحالي.

كما يطرح البديل الثالث إمكانية إنعاش البديل الزراعي في أفريقيا ولا سيما المحاصيل النقدية من خلال ضغط الحكومات الأفريقية لتحقيق هدف تحرير التجارة العالمية. عندئذ يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان أن ترفع الدعم الممنوح لمزارعيها، وهو ما يمكّن الدول الأفريقية من زيادة صادراتها الزراعية.

أما البديل الرابع فيقتفي أثر تجربة "بنك غرامين" التي ابتدعها عالم الاقتصاد البنغالي محمد يونس والتي حاز بمقتضاها على جائزة نوبل. ويتمثل إبداع محمد يونس في تمكنه من إقراض الفقراء الذين لا يمتلكون أي ضمانات، لكنهم يمتلكون الثقة والاعتماد المتبادل. وقد لاقت تجربة هذا البنك نجاحاً واسعاً خارج نطاق بنغلاديش، حيث طبقتها بشكل أو بآخر أكثر من أربعين دولة حول العالم.

آفاق المستقبل
لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن في الجدل الأفريقي حول التنمية المستدامة هو: ما الذي نجحت فيه الصين بأفريقيا وفشل فيه الغرب؟ لقد جاءت المساعدات الغربية إلى أفريقيا دون النظر إلى ما تخلفه من نتائج وآثار.

نجم عن ذلك إثراء النخب الأفريقية واستبعاد العامة والفقراء من عوائد هذه المساعدات، وربما يفسر ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلدان الأفريقية على مدى العقود الماضية. أما الصين فتنظر إلى الأمور بمنظور المصلحة والمنفعة المادية، ولذلك فهي ترسل الأموال إلى أفريقيا وتنتظر المقابل.

وعليه تصبح المعادلة كالتالي: يحصل الأفارقة على الوظائف والطعام والطرق وتتحسن طرائق معيشتهم، وفي مقابل ذلك تحصل الصين على النفط والمواد الخام والمكانة والنفوذ الاقتصادي. وقد دفع ذلك البعض إلى القول بأن التحسن الاقتصادي الذي ينعكس على حياة المواطن العادي يعد أكثر أهمية من مجرد إجراء انتخابات دورية ووجود تعددية حزبية.

"
يتوقف المضي قدماً على طريق المستقبل الأفريقي على التخلي عن نمط التنمية المعتمد على المساعدات الخارجية، وإعادة التفكير الجدي في البدائل الأفريقية لتمويل مشروعات التنمية المستدامة
"

ويتوقف المضي قدماً في طريق المستقبل الأفريقي على أمرين: أولهما التخلي عن نمط التنمية المعتمد على المساعدات الخارجية، وإعادة التفكير الجدي في البدائل الأفريقية لتمويل مشروعات التنمية المستدامة. إن أفريقيا بحاجة ماسة اليوم إلى تفعيل شعار "حلول أفريقية لمشكلات أفريقية". ولا شك أن ذلك يتطلب درجة عالية من الوعي وحالة من الإبداع حول ما يصلح وما لا يصلح للتنمية في أفريقيا.

أما الأمر الثاني فهو أقرب إلى مقولة "المستبد العادل"، فأفريقيا بحاجة إلى نمط من الحكومات القوية التي تستطيع دفع عجلة النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي أكثر من حاجتها إلى مجرد انتخابات شكلية وأحزاب "ورقية" قد لا تغير شيئاً من طبيعة المعادلة السياسية القائمة.

علينا أن نتذكر أنه قبل ثلاثين عاماً كانت معدلات النمو الاقتصادي في بعض الدول الأفريقية مثل ملاوي وبوروندي وبوركينافاسو تفوق تلك التي حققتها الصين آنذاك.

وليس بخافٍ أن هذه المعجزة الصينية لا تعزى إلى المساعدات الخارجية وإنما إلى سياسات الاستثمار الأجنبي المباشر ونمو قطاع الصادرات. وأحسب أن على أفريقيا التعلم من الخبرة الآسيوية وتدع عنها وزر نمط التنمية الغربية المفروض من الخارج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.