مسؤولية واشنطن عن أزمة شبه الجزيرة الكورية

المسؤولية الأميركية عن أزمة شبه الجزيرة الكورية - الكاتب: بشير عبد الفتاح



تورط مزمن
المناورات العسكرية
حرب دعائية
عزلة وعقوبات
مراوغة أميركية

في رد منها على الاتهامات الأميركية بأن القصف المدفعي الكوري الشمالي الأخير لجزيرة يونبيونغ الحدودية الكورية الجنوبية يعتبر انتهاكا صارخا لاتفاق الهدنة الموقع عام 1953 والذي أنهى القتال بين الكوريتين، أصدرت كوريا الشمالية بيانا عسكريا جددت فيه تهديدها بالرد عسكريا على أي استفزاز جديد من جارتها الجنوبية.

غير أن الملفت في هذا البيان تحميله الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن التوتر في المنطقة وعن الأحداث الأخيرة التي دفعت بالوضع في شبه الجزيرة الكورية إلى حافة الانفجار.

واتهم البيان واشنطن أيضا بالإصرار على إبقاء فتيل التوتر مشتعلا بين الكوريتين من خلال إقدامها على إجراء مناورات عسكرية مشتركة جديدة مع الشطر الجنوبي ردا على ما جرى مؤخرا، بدلا من ضبط تصرفات سول وحملها على الإقلاع عن المغامرات العسكرية لا سيما تلك المتعلقة بانتهاك الحدود البحرية المتنازع عليها بين شطري كوريا في منطقة البحر الأصفر، والتي وصفها البيان الشمالي "بالحدود غير الشرعية"، إذ لم يتردد في إدانة الدور الأميركي الذي لا يغتفر في ترسيمها عقب الحرب الكورية التي دارت رحاها مطلع خمسينيات القرن الماضي.

ومن ثم اعتبر البيان تلك المنطقة نقطة تماس حساسة تحمل بين شاطئيها مخاطر متجددة للصدام بين الكوريتين.

"
هدنة 1953 لا تعدو أن تكون مجرد أساس لوقف إطلاق النار وليست معاهدة سلام مما يجعل الكوريتين في حالة حرب من الناحية الفعلية، لا سيما في أوقات تصاعد التوترات مع واشنطن أو سول أو كليهما معا
"

تورط مزمن
وفي سياق متصل، لا تجد كوريا الشمالية غضاضة في اعتبار هيمنة الولايات المتحدة على القرار الكوري الجنوبي سببا آخر للتوتر في شبه الجزيرة الكورية، فمن وجهة نظر الشمال تسيطر واشنطن على كوريا الجنوبية وقواتها المسلحة، فرغم أن شبه الجزيرة الكورية كانت مقسمة إلى معسكرين: أحدهما شمالي يخضع لسيطرة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، والآخر جنوبي تسيطر عليه الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة، ترى كوريا الشمالية أنها تحررت كلية وباتت مستقلة في سياساتها وقراراتها، وتعتبر أن الشطر الجنوبي لا يزال"دمية" في يد واشنطن.

والسبب في ذلك ليس انتشار قرابة ثلاثين ألف جندي أميركي على الجانب الجنوبي من الحدود المشتركة بين الكوريتين وتعهد واشنطن بحماية الشطر الجنوبي فحسب، ولكن لأن بيونغ يانغ لم تنس أن كوريا الجنوبية لم تكن طرفا مباشرا إبان توقيع الهدنة التي وضعت حدا للحرب الكورية عندما تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين جمهورية كوريا الشمالية والولايات المتحدة تحت لواء الأمم المتحدة يوم 27 يوليو/تموز 1953.

وربما كان ذلك من بين الأسباب التي دفعت بكوريا الشمالية للتهديد مرارا بالانسحاب من الهدنة، التي لا تعدو أن تكون مجرد أساس لوقف إطلاق النار وليست معاهدة سلام، مما يجعل الجارتين الشمالية والجنوبية في حالة حرب من الناحية الفعلية، لاسيما في أوقات تصاعد التوترات مع واشنطن أو سول أو كليهما معا.

ولقد نفذت بيونغ يانغ تهديداتها تلك بالفعل غير مرة، كان من أبرزها يوم 27 مايو/أيار 2009 ردا على مشاركة كوريا الجنوبية في المبادرة الأمنية الأميركية لمنع انتشار الأسلحة النووية.

المناورات العسكرية
ورغم اعتبار بيونغ يانغ أي مناورات عسكرية أميركية مع الجنوب تهديدا مباشرا لأمنها وإعلان حرب صريحا عليها إلى الحد الذي حض وكالة "يونهاب" الكورية الجنوبية للأنباء على الإعلان أن الرئاسة في كوريا الجنوبية تشتبه في أن القصف الكوري الشمالي الأخير للجزيرة الجنوبية جاء ردا على تدريبات عسكرية أجرتها كوريا الجنوبية في منطقة الحدود البحرية المتنازع عليها مع كوريا الشمالية، فإن واشنطن تصر على مواصلة هذه المناورات بين الفينة والأخرى، معتبرة إياها دليل تقارب مع الجنوب ومؤشر دعم ومساندة له في مواجهة تهديدات الشمال.

وفي هذا السياق، جاء بيان القوات المسلحة الأميركية المتمركزة في كوريا الجنوبية صادما للشمال حينما أعلن في أعقاب تبادل القصف المدفعي بين الكوريتين قبل أيام أن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ستجريان تدريبات بحرية جديدة في منطقة البحر الأصفر بعيد أيام قلائل من الحادث.

وبينما اعتبر البيان أن إجراء المناورات -التي كان مقررا إجراؤها قبل التصعيد الأخير- يُظهر الالتزام الأميركي إزاء سول، رأت فيه بيونغ يانغ إشعالا من واشنطن لفتيل الأزمة وتفجيرا للوضع القلق أصلا في شبه الجزيرة الكورية.

ويبدو أن المناورات العسكرية المشتركة بين واشنطن وسول لا تستفز بيونغ يانغ وحدها فحسب، وإنما تثير استياء أطراف إقليمية أخرى مهمة ينتابها قلق من تطلعات واشنطن الإستراتيجية في القارة الآسيوية، كالصين التي تعد الحليف الأول لكوريا الشمالية.

فبينما هددت كوريا الشمالية بتكرار قصفها لأهداف كورية جنوبية إذا ما تكررت الاستفزازات من الشطر الجنوبي وحلفائه خصوصا من خلال إجراء المناورات العسكرية، عبرت الصين عن قلقها هي الأخرى من إجراء واشنطن مناورات عسكرية مشتركة مع سول في البحر الأصفر بعد المصادمات الأخيرة بين الكوريتين، الأمر الذي دفع واشنطن إلى طمأنة بكين وتلافي تحريك الخلافات الكامنة معها عبر التأكيد أن تلك المناورات ليست موجهة ضدها ولا تستهدفها بأي حال من الأحوال.

"
يبدو أن المناورات العسكرية المشتركة بين واشنطن وسول لا تستفز بيونغ يانغ وحدها فحسب، وإنما تثير استياء أطراف إقليمية أخرى مهمة -كالصين مثلا- ينتابها قلق من تطلعات واشنطن الإستراتيجية في القارة الآسيوية
"

حرب دعائية
ومن زاوية أخرى، لا تبدو كوريا الشمالية مستعدة لأن تغفر لواشنطن تماديها في حرب دعاية سياسية مناهضة لنظام بيونغ يانغ بالتعاون مع سول. فقد عمد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن إلى تصنيف كوريا الشمالية كدولة مارقة وضمن محور الشر واعتبارها مستهدفة من بلاده، وندد بنظامها وألمح إلى الإطاحة به وأوقف شحنات النفط التي كانت تحصل عليها كوريا الشمالية بموجب اتفاق عام 1994، مما دفع بالأخيرة إلى وقف تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن تفتيش برنامجها النووي وطرد مفتشيها والانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، بل والتسريع في إنتاج السلاح النووي بالفعل حتى تمكنت من إجراء تجربتها النووية الأولى عام 2006.

وفي سياق مواز، ظلت وسائل الإعلام الأميركية تعتبر التجارب الصاروخية والنووية التي دأبت كوريا الشمالية على إجرائها مجرد محاولات من نظام بيونغ يانغ للتغطية على تسلطه وإخفاقاته المتواصلة في توفير الاحتياجات الأساسية لشعبه، فضلا عن تهيئة الأجواء لتوريث السلطة، كما اعتبر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية مايك مولن أن القصف المدفعي الأخير من قبل كوريا الشمالية لجارتها الجنوبية مرتبط على الأرجح بخطط التوريث المعدة لكيم جونغ أون الابن الأصغر ذي الـ27 ربيعا للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل.

كما أشار رئيس وزراء كوريا الجنوبية كيم هوانغ سيك إلى مسألة التوريث في بيونغ يانغ، وقال أمام البرلمان يوم تبادل القصف المدفعي إنه استهدف تعزيز موقف نجل الزعيم الكوري الشمالي واللعب على نغمة التهديدات الخارجية، مؤكدا أن الشمال كان يحاول التلويح بالقوة العسكرية لدعم توريث السلطة في الداخل، وتعزيز الوحدة الداخلية وتوجيه السخط الداخلي نحو الخارج.

ورغم أن الكوريتين توصلتا عام 2004 إلى اتفاق يقضي بوقف الحملات الإعلامية الحكومية المضادة عبر الحدود، لم تتورع سول عن معاودة إطلاقها بعد حادثة إغراق غواصة كورية شمالية لسفينة حربية كورية جنوبية في مارس/آذار الماضي، إذ لا يتوقف ناشطون كوريون جنوبيون مدعومون من حكومة سول وواشنطن عن شن حملات دعائية مناهضة لنظام بيونغ يانغ تتهمه بالتسلط والقمع والسعي لتوريث السلطة لنجله الأصغر قهرا، ويتبعون في هذا المضمار أساليب متنوعة كإطلاق بالونات في الهواء تحمل عبارات الإدانة للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل عبر حدود المنطقة العازلة شديدة التسليح بين البلدين، أو تثبيت عدد من مكبرات الصوت هناك لاستخدامها في الحرب الدعائية إلى جانب المحطات الإذاعية الموجهة.

هذه التصرفات أثارت استياء كوريا الشمالية التي هددت بقصف المواقع التي تطلق منها تلك الحملات الدعائية التي تبث شعارات تحريضية من جانب واشنطن وسول ضد النظام الشيوعي بغرض استنفار مواطني الشطر الشمالي للإطاحة به.

"
لا تكف الإدارة الأميركية عن ممارسة مزيد من الضغط على الصين وكوريا الجنوبية لحملهما على تقليص تعاونهما الاقتصادي مع كوريا الشمالية، على اعتبار أن مفتاح العزلة الحقيقية على كوريا الشمالية في يد الصين
"

عزلة وعقوبات
وبرأسها أطلت الاستفزازات الأميركية لكوريا الشمالية على الصعيد الاقتصادي كأحد أبرز عوامل الجفاء بين واشنطن وبيونغ يانغ، مثل التوتر في شبه الجزيرة الكورية.

فرغم فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات دولية ما برحت تثقل كاهل كوريا الشمالية أهمها القرار رقم 1718 لعام 2006 ردا على إجراء كوريا الشمالية أول تجربة نووية، وينص على حظر تصدير السلاح وعقوبات مالية بالإضافة إلى تصدير مواد الكماليات وسلع الرفاهية، ورغم وجود اتفاق دولي وقع عام 1996 يضبط نقل البضائع ثنائية الاستخدام مدنيا وعسكريا إلى كوريا الشمالية، وعلاوة على فرض بعض الدول عقوبات أحادية على الدولة الشيوعية على خلفية برنامجها النووي وسجلها في حقوق الإنسان، تأبى واشنطن إلا أن تقود الجهود والتحركات الدولية الرامية إلى تغليظ العقوبات وإحكام العزلة على بيونغ يانغ، كما تسعى بدأب لتقويض قدرتها على الاستفادة من النظام المالي الدولي.

فمن جانبها، أقرت وزارة الخزانة الأميركية عددا من العقوبات التي تحظر تعامل الشركات الأميركية مع بعض الجهات والهيئات الكورية الشمالية مثل العمليات المالية مع سفن الشحن الكورية الشمالية، واشترطت ضرورة الحصول على إذن مسبق من الجهات الأميركية المعنية قبل استيراد أي مادة مصنوعة في كوريا الشمالية.

ولا تكف الإدارة الأميركية عن ممارسة مزيد من الضغط على الصين وكوريا الجنوبية لحملهما على تقليص تعاونهما الاقتصادي مع كوريا الشمالية، على اعتبار أن مفتاح العزلة الحقيقية عليها في يد الصين التي لم تبد استعدادها للقيام بالدور المنوط بها في هذا الخصوص على النحو المطلوب، حيث ينتابها شعور بأن المخاوف من زعزعة الاستقرار على حدودها مع شبه الجزيرة الكورية يفوق القلق حيال انتشار الأسلحة النووية في المنطقة.

كذلك، جمدت إدارة بوش اتفاق عام 1994 مع بيونغ يانغ والذي يضمن للأخيرة الحصول على شحنات من النفط لمواجهة أزمة الطاقة نظير تجميد أنشطتها النووية، وهو ما دفع بالأخيرة لمعاودة تلك الأنشطة وإنتاج أسلحة نووية.

مراوغة أميركية
ولعل بيونغ يانغ تستند في تحديها لتلك الجهود والمساعي الأميركية إلى قناعة مفادها أن واشنطن ليست بصدد العمل بجدية لتفكيك سلاح كوريا الشمالية النووي لأنها تعي صعوبة ذلك من الناحية الواقعية، كما تسعى إلى توظيفه لخدمة مشاريعها المستقبلية وتطلعاتها الإستراتيجية في شرق القارة الآسيوية، ومن ثم فإن جهود واشنطن في هذا الخصوص لا تتعدى العمل من أجل إيجاد آليات قانونية وسياسية وفنية للحيلولة دون تصدير نظام بيونغ يانغ للأسلحة النووية أو الصواريخ البالستية أو التقنية المتعلقة بهما إلى دول أخرى لا تروق لواشنطن مثل إيران أو سوريا أو باكستان.

ويستشهد خبراء كوريون شماليون على سلامة هذا الطرح بمؤشرات ملفتة لعل من أبرزها: تقاعس المخابرات العسكرية الأميركية المتعمد عن منع بيونغ يانغ من القيام بأولى تجاربها النووية رغم علمها المسبق بموعد تقريبي لإجرائها، فضلا عن عدم وضع القوات المسلحة الأميركية بالشطر الجنوبي في حالة تأهب حينما أجريت تلك التجربة، وامتناع وزارة الدفاع -كما يقول مسؤول عسكري أميركي رفيع- عن إبداء أي استعداد للرد العسكري على أي استفزازات من قبل كوريا الشمالية.

"
تستند بيونغ يانغ في تحديها للجهود والمساعي الأميركية إلى قناعة مفادها أن واشنطن ليست بصدد العمل بجدية لتفكيك سلاح بيونغ يانغ النووي لأنها تعي صعوبة ذلك من الناحية الواقعية، كما تسعى إلى توظيفه لخدمة مشاريعها المستقبلية
"

وفي مقال مهم نشرته صحيفة واشنطن بوست في أعقاب تبادل القصف المدفعي الأخير بين الكوريتين، ألمح الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة جيمي كارتر -على نحو ضمني- إلى إخفاق واشنطن في ترويض نظام بيونغ يانغ، وأكد أن تجاربه الشخصية في التعاطي مع الكوريين الشماليين تؤكد -بما لا يدع مجالا للشك- أن لديهم رغبة جادة ونية حقيقية في التفاوض والحوار المباشر مع الأميركيين بغية مناقشة كافة القضايا العالقة بما فيها تحويل اتفاق الهدنة المبرم عام 1953 إلى اتفاقية سلام شاملة تضمن عدم الاعتداء المتبادل بين أطراف شبه الجزيرة الكورية بالإضافة إلى الولايات المتحدة، علاوة على إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، شريطة أن تكف واشنطن عن إملاء شروطها التعسفية على بيونغ يانغ أو التهديد بمهاجمتها أو الإطاحة بنظامها.

ويستشهد كارتر بتجربة واقعية سابقة له في هذا المضمار حينما استجاب لدعوة كان نظام بيونغ يانغ قد وجهها له عام 1994 من أجل الحوار، وهي الخطوة التي تمخضت عن إبرام "إطار عمل متفق عليه" بين واشنطن وبيونغ يانغ تجمدت بموجبه جهود الأخيرة لتطوير برنامجها التسليحي غير التقليدي، كما استؤنفت على إثره عمليات التفتيش الدولي على برنامجها النووي لمدة ثماني سنوات متصلة، حتى أقدم بوش الابن على الإطاحة بهذه الخطوة الهامة في إطار سياساته التصعيدية والاستعدائية حيال الدولة الشيوعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.