رياح المصالحة

رياح المصالحة - الكاتب: محمد المدهون

 

تطور دراماتيكي إيجابي ذلك الذي حدث في ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية بذلك اللقاء غير المخطط في عمرة رمضان الماضي بين خالد مشعل وعمر سليمان وأحيا جهود المصالحة المعطلة منذ زمن، وأحيا تساؤلا عجيبا: ما الذي عطل المصالحة؟ وما الذي أحياها بين عشية وضحاها؟

سابقاً جرت عدة محاولات للمصالحة بين حركتي حماس وفتح، وكان اتفاق مكة الذي فشل بسبب الانسياق للأجندة الخارجية، وتأليب المجتمع الدولي على حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت نتيجة لاتفاق مكة، وقد كانت المبادرة اليمنية، وسبقها المحاولة السنغالية، ومن ثم الورقة المصرية التي أصبحت البوابة الوحيدة للتفاهم الفلسطيني.

"
المصالحة ضرورية ويجب أن تنجح, لأنها مصلحة فلسطينية أولا وأخيرا، مصلحة من أجل مواجهة الاحتلال، ومن أجل منعه من مواصلة ابتلاع الأرض الفلسطينية، وتهويد القدس، وتدمير الأقصى
"

المصالحة ضرورية ويجب أن تنجح، لأنها مصلحة فلسطينية أولا وأخيرا، مصلحة من أجل مواجهة الاحتلال، ومن أجل منعه من مواصلة ابتلاع الأرض الفلسطينية، وتهويد القدس، وتدمير الأقصى، وحتى تنجح المصالحة ببعدها المحلي، لا بد لحركة حماس من إدراك قيمة فتح التاريخية، والتعامل معها كتيار عريض هام داخل الشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت العمل على استثمار قبولها في الأوساط العربية والدولية، وتوظيفه لصالح الشعب الفلسطيني المحاصر.

وبالمقابل فإن على حركة فتح إدراك قيمة حركة حماس، كتيار شعبي فاعل، والاعتراف بهذا التيار، والتعامل معه كحقيقة راسخة لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه. ليس لأن حركة حماس قوية فقط، بل لأن العمل الفلسطيني يحتاج إلى تكريس القاعدة القائلة بضرورة الاعتراف بأية قوة شعبية تظهر أثناء مسيرة النضال الوطني، وباعتبار هذه ضرورة من ضرورات الوحدة الوطنية والمصلحة الفلسطينية، ومن هنا فإن على فتح وحماس امتلاك:

• الرغبة الحقيقية الصادقة في الحوار وفي الوصول إلى نجاح الحوار.
• عدم الارتهان للإملاءات الخارجية.
• الاعتراف بالآخر كشريك وبناء مرجعية سياسية فلسطينية عبر إعادة بناء منظمة التحرير وتشكيل حكومة وحدة وطنية.

بدأ الحصار فعليًا عام 2006 في أعقاب فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، واشتد الحصار وأخذ في التفاقم بعد إجهاض المحاولات التي جرت لإجهاض نتائج العملية الديمقراطية وعلى نحو خاص في غزة، الذي شكل علامة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني.

غزة وحماس والصمود الطويل رغم الظروف القاسية والحصار المرير الظالم، والعدوان المجرم المتغطرس ربما يكون من أسباب هذا التحول في الموقف تجاه المصالحة. فحماس في موقف سياسي أقوى نسبياً رغم تحرك البعض للأسف لتجريد حماس وغزة من صمودها وثباتها، وإقصاء حركة حماس نهائيًا من المشهد السياسي، أو جر حركة حماس إلى المفاهيم الخاصة السائدة في التعاطي مع القضية الفلسطينية.

والمصلحة الصهيونية في الانقسام والتشرذم الفلسطيني لا تخطئها العين المجردة (فرق تسد)، فهل زال الأثر الصهيوني عن هذا الملف؟ أم إن الانشغال الأميركي بالملف الإيراني والأزمة الاقتصادية والتعثر في العراق وأفغانستان سمح بتخفيف الفيتو الأميركي (غير السري) على المصالحة الفلسطينية؟ الظاهر أن التركيز الأميركي سياسياً على ترسيخ الدولة اليهودية عبر المفاوضات المباشرة ذو أولوية قصوى في هذه المرحلة مقدماً على الملفات السالفة الذكر.

وصول ما يسمى "بالعملية السياسية التفاوضية" ورموزها في الوقت الذي يستشري فيه الاستيطان إلى أشد حالات الضعف السياسي، والمفاوضات تراوح مكانها، وتهويد القدس على أشده، والإسناد العربي يتهاوي، وأوباما يتنازل لنتنياهو، وتآكل شرعية مؤسسات السلطة في رام الله، وهلامية مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، والتهديد بالانسحاب لبعض مكوناتها، وفياض يطيح بفتح، والتنسيق الأمني على أعلى المستويات، وهذا يمثل انهيار الغطاء الأخلاقي لهذه المؤسسات برمتها.

"
حكومة العدو الصهيوني المتطرفة ترسل رسائل "غير مشجعة" بالمفهوم الغربي بالنسبة لعملية التسوية، مما يجعل رئاسة السلطة وفتح في حرج شديد ومن ورائها النظام العربي المعتدل
"

حال دولة الاحتلال غير مستقر، فعشرات المناورات في كافة الاتجاهات، والتحذير طرفهم يتعالى من حرب جديدة ورغم الفشل في تحرير شاليط إلا أن نتنياهو حقق إنجاز العودة إلى مفاوضات التسوية والتهويد اليومي للدولة والقدس، وزيادة رصيد الليكود وليبرمان في استطلاعات رأي التطرف اليهودي. وإنجاز في الملف الأمني فقد أشار (47%) من الجمهور الصهيوني أن انتخابهم الليكود مجدداً بسبب الإنجاز الأمني (مع العلم أنه إنجاز سلطة التنسيق الأمني)، علاوة على بعثرة حزب العمل على يد باراك، وألاعيب بيريز مع العرب ومبادرتهم (بيريز مدعو إلى المغرب), وللتأكيد أيضاً على إستراتيجية الاحتلال تجاه ملف المصالحة (تعميق الفجوة وخلق الصراع الداخلي وتغذيته) وعدم الدخول المباشر في صراع مع حماس بغزة بعد تجربة محرقة غزة الفاشلة وتآكل شرعية الاحتلال دولياً.

ورغم ذلك فإن حكومة العدو الصهيوني المتطرفة ترسل رسائل "غير مشجعة" بالمفهوم الغربي بالنسبة لعملية التسوية، ولا تكني بل تصرح بالعداوة والاستيطان والتهويد، وإدارة الظهر لعملية التسوية بكاملها، مما يجعل رئاسة السلطة وفتح في حرج شديد ومن ورائها النظام العربي المعتدل، ورغم ذلك تتواصل حرب شعواء على المقاومة، وكأن محاربة المقاومة برنامج لا علاقة له بالوضع السياسي.

إن مشروع المصالحة غدا مشروعا مصريا، ولذلك تحرص مصر على إنجاحه وفق رؤيتها، والمحاولات المصرية التي لم تتوقف منذ اتفاق القاهرة في مارس/آذار 2005م، ومحاولات فك أسر شاليط والتي لم يكتب لها إلى الآن النجاح، والهدنة الهشة التي رعت مصر اتفاقها ولم تنفذ دولة الاحتلال إلا النزر اليسير من التزاماتها حتى غدا يُنظر إلى حماس وغزة كأنها ملف أمني بامتياز في يد المخابرات من وجهة النظر المصرية، مع توفر رغبة في نجاح المصالحة الفلسطينية تسجيلاً لإنجاز تفتقده مصر بعد سلسلة إخفاقات وتراجعات داخلية وخارجية خاصة مع حصار غزة المتواصل. ومن موقع حريص على دور مصر المناط بها، فإن مصر مطالبة بتبني دور متواز يمهد للمصالحة وتحقيق إنجاز مصري.

أين تتجه رياح المصالحة الفلسطينية؟ سؤال اللحظة بعد التطور الدراماتيكي في مكة والمعلن حتى اللحظة (لم يتم التأكيد من مصر) أن إضافة ورقة الملاحظات بين حماس وفتح كملحق للورقة المصرية والموافقة على اعتمادها كذلك (مع العلم أن هذا المقترح قدمه إسماعيل هنية إلى عمرو موسى في زيارته إلى غزة)، وبذلك تصبح الورقة المصرية مناسبة للاتفاق عليها بين الفصائل الفلسطينية وهذا رسو للمصالحة على شاطئ أمان نتمنى أن يدوم في انتظار تطبيق بنود المصالحة كافة وما قد يواجه ذلك من عقبات وتحولات.

"
نتمنى ألا يكون القبول المصري انتقائياً للملاحظات الفلسطينية مما قد يعطل المصالحة ويعيد كّرة الحوار مرّة أخرى إلى نقطة البدء دون تحديد قيود أو جداول زمنية
"

إن ما يرجوه كل حريص على الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنجاز المصالحة أن يتم قبول الملاحظات مصرياً مجدداً وبذلك لا تبقى سفينة المصالحة في عرض البحر جراء الحصار الأميركي الإسرائيلي، وعلى مصر أن تنظر بعين الخبير إلى محددات موقفها هذا وآثاره. وألا يكون القبول المصري انتقائياً للملاحظات الفلسطينية، مما قد يعطل المصالحة ويعيد كّرة الحوار مرّة أخرى إلى نقطة البدء دون تحديد قيود أو جداول زمنية ليغدو الحوار هدفاً بذاته شغلاً إشغالاً وانشغالاً.

حوار المصالحة الفلسطينية يحمل في داخله عوامل نجاح بنفس نسبة عوامل الفشل. ولا يتعلق الأمر هنا بالأفراد، ولا بالفصائل، ولا بالنوايا الحسنة أو السيئة لهذا الطرف أو ذاك. فقضية المصالحة ذات أبعاد محلية وعربية ودولية، وبحسب القدرة على فهم تلك الأبعاد ستتحدد النتائج.

وهناك خياران اثنان أمام حماس وفتح: النجاح والعودة بحكومة ومنظمة تحرير جديدة كمرجعيات للشعب الفلسطيني –دون الدخول في شكلها وسقفها السياسي–، والخيار الثاني هو بقاء الحال على ما هو عليه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.