الانسحاب الأميركي من العراق يعزز مكانة إسرائيل أم يضعفها؟

الانسحاب الأميركي من العراق يعزز مكانة إسرائيل أم يضعفها؟ - صالح النعامي



 
 
شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الآونة الأخيرة تحولات هامة، لا تتمثل فقط في تراجع الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس أوباما على حكومة بنيامين نتنياهو في كل ما يتعلق بمتطلبات التسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين، وعلى رأسها تجميد الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس، بل إن هذه الإدارة قطعت خلال فترة وجيزة شوطاً كبيراً على صعيد التعاون الإستراتيجي مع إسرائيل.

وقد تمثل هذا التعاون في تعزيز التنسيق الاستخباري وتزويد إسرائيل بطائرات "إف 135" الحديثة، ومنظومات مضادة للصواريخ بالغة التطور، مع حرصها على إبراز هذا التعاون وإظهاره، إلى جانب تبني واشنطن سلم الأولويات العالمي كما تحلم به تل أبيب، عندما أعلن أوباما بشكل لا يقبل التأويل أن مواجهة التهديد النووي الإيراني يمثل المشكلة الأولى التي تلتزم إدارته بمعالجتها.

ولأول وهلة يبدو أن هذه التحولات مرتبطة فقط بالحسابات الداخلية الأميركية وخشية أوباما أن يؤدي "تشدده" مع نتنياهو إلى إغضاب اللوبي اليهودي وأصدقاء إسرائيل في واشنطن بشكل يؤثر سلباً على فرص الحزب الديمقراطي في الانتخابات التي ستجرى في نوفمبر/تشرين الثاني القادم لكل من مجلسي الشيوخ والنواب.

لكن نظرة متفحصة تدلل على أن هذه التحولات مرتبطة أساساً بقرار الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق والإعلان عن نيتها الانسحاب من أفغانستان، حيث تبين أن صناع القرار في تل أبيب قد نجحوا في إقناع إدارة أوباما بأن المصالح الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة تحتم على واشنطن إعادة الاعتبار لمكانة إسرائيل كحليف موثوق ومستقر بعد الانسحاب من العراق والانسحاب المتوقع من أفغانستان.

تضخيم مخاطر ما بعد الانسحاب

"
حرصت النخب الحاكمة والكثير من صناع الرأي العام في إسرائيل على تقديم الانسحاب الأميركي من العراق على أنه وصفة أكيدة لحالة خطرة جداً من عدم الاستقرار في المنطقة تهدد مصالح الولايات المتحدة
"

لقد حرصت النخب الحاكمة والكثير من صناع الرأي العام في إسرائيل على تقديم الانسحاب الأميركي من العراق على أنه وصفة أكيدة لحالة خطرة جداً من عدم الاستقرار في المنطقة تهدد مصالح الولايات المتحدة والمتمثلة بشكل خاص في ضمان تدفق إمدادات النفط بدون أي إعاقة.

وهدفت حملة التخويف التي قامت بها تل أبيب إلى اقناع الأميركيين بأن الانسحاب من العراق سيجعل هذه البلاد تقع تحت سيطرة الإيرانيين بشكل يعزز "محور الشر"، ويضعف الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة، حيث يدعي الإسرائيليون أن التحالف الإيراني السوري سيكتسب قوة إضافية بسقوط بغداد في قبضة الإيرانيين.

ولم تفت الإسرائيليين الإشارة إلى أن الانسحاب من العراق سيدلل على تراجع نفوذ أميركا في المنطقة مما سيعمل على تآكل قوة ردعها، لدرجة أنه سيشجع الأطراف العربية المناوئة لها على المس بمصالحها، وسيعمل على تحول العراق إلى نقطة للانطلاق لضرب المصالح الأميركية، وتحديداً في الخليج العربي.

توظيف أزمة النظام في مصر
ويؤكد الإسرائيليون أن ما يفاقم تأثير التداعيات الخطيرة للانسحاب الأميركي من العراق هو المشاكل الهائلة التي تواجه الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة، وتحديداً النظام المصري، وعلى وجه الخصوص المخاطر التي تكتنف انتقال السلطة بعد خروج الرئيس حسني مبارك من دائرة الفعل السياسي، مع العلم أن الأميركيين يعولون على الدور الذي يلعبه هذا النظام في التصدي لـ"الخطر الإيراني".

وكما يقول الكاتب الإسرائيلي ألوف بن فإن حالة عدم اليقين السائدة في كل ما يتعلق بمستقبل النظام في القاهرة تحتم على الأميركيين تقليص رهاناتهم على أنظمة الحكم الديكتاتورية المتحالفة مع واشنطن في المنطقة.

ويحذر الإسرائيليون الإدارة الأميركية من مغبة انهيار عقيدة الرئيس أيزنهاور التي حكمت الإستراتيجية الأميركية في المنطقة منذ عام 1957، والتي قامت على مواجهة الأطراف التي تهدد المصالح الأميركية، مما جعل الولايات المتحدة لا تتردد في مواجهة كل زعماء الدول وقادة التنظيمات الذين تحدوا الإرادة الأميركية ابتداءً من جمال عبد الناصر وانتهاءً بصدام حسين وأسامة بن لادن.

ووفق هذه العقيدة فقد دافعت الولايات المتحدة عن الأنظمة العربية المستبدة المتحالفة معها، حيث تستمد هذه الأنظمة قدرتها على البقاء من الدعم الأميركي لها، مقابل خضوعها لمحددات المصلحة الأميركية ودعمها لمجمعات الصناعات العسكرية الأميركية عبر التوسع في شراء كميات هائلة من السلاح الذي يصدأ في الغالب في مخازنه.

ويدعي الإسرائيليون إن الانسحاب الأميركي من العراق في ظل عدم استقرار الأنظمة المتحالفة مع أميركا سيؤدي إلى فتح شهية المزيد من القوى في المنطقة للتحرش بواشنطن، مما يدلل على وجوب إعادة الاعتبار لمكانة إسرائيل كـ"حليف موثوق ومستقر وقوي" للولايات المتحدة في المنطقة، والتصدي للخط الذي تعبر عنه الكثير من النخب في الولايات المتحدة، والتي تعتبر أن إسرائيل تمثل في الواقع عبئا على الولايات المتحدة وليس ذخراً إستراتيجياً لها.

"
يدعي الإسرائيليون أن الانسحاب الأميركي من العراق في ظل عدم استقرار الأنظمة المتحالفة مع أميركا سيؤدي إلى فتح شهية المزيد من القوى في المنطقة للتحرش بواشنطن
"

وينفث المفكر الإسرائيلي يورام إيتينجر في مخاوف واشنطن، مشدداً على أن إعادة الاعتبار لإسرائيل كحليف مستقر لأميركا في المنطقة هو خطوة تفرضها أيضاً مظاهر عدم الاستقرار الأخرى في المنطقة العربية، مثل اليمن الذي يدعي أنه يتحول إلى نقطة للانطلاق ضد الولايات المتحدة، بالإضافة للأوضاع المضطربة في القرن الأفريقي وفي لبنان وغيرها.

وبالمناسبة فإن بعض مسؤولي الإدارة الأميركية قد جاهر بتبنيه وجهة النظر الإسرائيلية، مثل نائب وزيرة الخارجية الأميركية أندرو شابيرو الذي نقلت عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية قوله إن التطورات المتوقعة بعد الانسحاب من العراق وأزمة أنظمة الحكم المتعاونة مع أميركا تعزز مكانة إسرائيل كحليف إستراتيجي.

وفي ظل هذا الواقع فإن الكثيرين في إسرائيل أعادوا للأذهان مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون الذي قال يوماً لتبريره المطالبة بزيادة الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل: "أنتم أيها الأميركيون لا تصنعون لنا معروفاً بدعكم لنا، إسرائيل تقوم بدور حاملة طائرات ثابتة للدفاع عن المصالح الأميركية في المنطقة".

التحذير من النفوذ الروسي والصيني
ويدعي الإسرائيليون أن ضعف النفوذ الأميركي في المنطقة في أعقاب الانسحاب من العراق وتعاظم نفوذ المحور الإيراني السوري، وحالة الفوضى التي ستعم المنطقة ستشجع الروس والصينيين وحتى الكوريين الشماليين على محاولة الحصول على موطئ قدم في المنطقة، مما يضاعف أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه إسرائيل في الدفاع عن المصالح الأميركية.

بالإضافة إلى ذلك فإن الإسرائيليين يرون أن التطورات الناجمة عن الانسحاب من العراق ستغري رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بمواصلة تعزيز علاقاته مع الإيرانيين والسوريين على حساب العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة، مما قد يؤدي ليس فقط إلى توسيع دائرة "محور الشر"، بل جعلها أكثر تأثير وأعظم خطراً.

فزاعة الجبهة الشرقية ومستقبل الاستيطان
ويدعي الإسرائيليون أن الانسحاب من العراق سيؤدي إلى تهاوي نقطة الافتراض القائلة إن إمكانية مبادرة العرب لشن هجوم على إسرائيل ضئيلة جداً، ويرون أن الانسحاب سيزيد من فرص شن هذه الحرب، مما يزيد من خطورة الجبهة الشرقية. ويرون في تل أبيب أنه في ظل هذا الواقع يتوجب على الكيان الصهيوني مواصلة السيطرة على الضفة الغربية التي يفترض أن تمتص أي هجوم عربي من الجبهة الشرقية، ولما كانت المستوطنات اليهودية تمثل مواقع متقدمة للجيش الإسرائيلي وتؤدي دوراً أمنياً كبيراً فإن "المصلحة الإستراتيجية الخالصة" تقتضي الحفاظ عليها وليس تفكيكها في أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين.

ويتضح من خلال محاولة تضخيم المخاطر الناجمة عن الانسحاب من العراق، أن الإسرائيليين يهدفون إلى إيصال الأميركيين إلى نتيجة مفادها أن القضية الفلسطينية تلعب دوراً هامشياً فقط في التأثير على استقرار الأوضاع في المنطقة والعالم.

ويدعي وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي سيلفان شالوم أن انشغال إدارة الرئيس أوباما في محاولاتها لحل القضية الفلسطينية لم يساعد في تقليص المخاطر التي تتعرض لها المصالح الأميركية والإسرائيلية وأن وضع حد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يؤدي إلى إعادة الاستقرار للمنطقة، بل أنه سيؤدي حتماً إلى المزيد من الاضطراب الذي يصعب التكهن بنتائجه.

والذي يعزز ميل الإسرائيليين لاستثمار جهود كبيرة من أجل إقناع الأميركيين بعدم مركزية القضية الفلسطينية هو معرفتهم المؤكدة أن الأنظمة العربية المتحالفة مع واشنطن قد أبلغت ممثلي إدارة أوباما بشكل لا يقبل التأويل أن معالجة التهديد النووي الإيراني تمثل أولوية يتوجب تقديمها على محاولات حل القضية الفلسطينية.

منطق إشكالي
انطلاق الكثير من النخب الإسرائيلية من الافتراض القائل بأن الانسحاب الأميركي من العراق سيعزز مكانة إسرائيل كحليفة يمثل منطقاً إشكالياًَ لن يصمد في اختبار الواقع. فمن الواضح أن ضعف الولايات المتحدة وتراجع قوتها ونفوذها سيؤدي إلى إضعاف إسرائيل حتماً. وكذلك فإن المكاسب الهائلة التي حققتها إسرائيل خلال العقود الأخيرة كانت نتاج التحالف مع الولايات المتحدة كقطب أوحد وقوي، وقد تعززت مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية بفعل هذه العلاقة.

فالأطراف التي كانت ترغب في خطب ود واشنطن كانت في كثير من الأحيان تدفع ثمن هذه الرغبة بالعملة الإسرائيلية، حيث أدركت أن الطريق إلى واشنطن يمر في تل أبيب، ولا مجال لحصر الأمثلة على ذلك.

إن ضعف الولايات المتحدة الذي يمثله الانسحاب من العراق والانسحاب المتوقع من أفغانستان سيؤدي إلى بلورة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهذا بكل تأكيد لا يمكن أن يخدم المصالح الإسرائيلية. فروسيا والصين والهند التي من المتوقع أن تلعب دوراً هاماً في النظام الجديد ستبدي مستوى حساسية أقل بكثير تجاه المصالح الإسرائيلية من الحساسية الأميركية لهذه المصالح عندما تندفع للمنطقة بحثاً عن مصادر الطاقة.

في نفس الوقت فإن تراجع قوة نفوذ أميركا سيؤدي حتماً إلى ميل واشنطن للتوافق مع القوى العالمية الأخرى، وستبدي استعداداً أكبر للمساومة، ومن غير المستبعد أن تكون المساومة في بعض الأحيان على حساب المصالح الإسرائيلية.

"
تراجع قوة نفوذ أميركا سيؤدي حتماً إلى ميل واشنطن للتوافق مع القوى العالمية الأخرى، وستبدي استعداداً أكبر للمساومة، ومن غير المستبعد أن تكون المساومة في بعض الأحيان على حساب المصالح الإسرائيلية
"

إن مظاهر الضعف الأميركي الواضحة لم تبدأ بالانسحاب من العراق، بل إنها كانت بادية للعيان قبل ذلك، وعلى الأخص عند تفجر الحرب الجورجية الروسية، عندما لم يسهم التحالف بين نظام الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي والولايات المتحدة وأوروبا في تدخل واشنطن لحماية نظامه عندما قام الجيش الروسي بدك العاصمة تبليسي وحاول تصفية ساكاشفيلي شخصياً.

ومما يفاقم التأثير السلبي للانسحاب الأميركي من العراق هو تواصل مظاهر الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة، فهناك من يرى أن هذه الأزمة ستؤثر سلباً على قدرة الولايات المتحدة على معالجة التهديد النووي الإيراني.

ومن ناحية ثانية فإن هذه الأزمة ستضعف القوة السياسية للوبي اليهودي في الولايات المتحدة، حيث تبين أن عدداً كبيراً من الأثرياء اليهود قد تضرروا بفعل هذه الأزمة، مما يعني المس بقدرتهم على التبرع للحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبالتالي قد تتراجع قدرة هذا اللوبي على فرض إملاءاته على الساسة الأميركيين.

ويتضح مما سبق أنه على الرغم من قبول واشنطن ولو الجزئي للرؤية الإسرائيلية للعالم بعد الانسحاب من العراق، فإنه سرعان ما سيتبين أن إسرائيل هي الأكثر تضرراً من أي مظهر من مظاهر تراجع النفوذ الأميركي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.