السودان.. الانفصال على الأبواب

الصادق الفقيه - عنوان المقال: السودان.. الانفصال على الأبواب



– العد التنازلي

– تلازم الإجراءات
– انشطار المكان
– تدشين للانفصال
– مفاجأة سارة
– انتهت المهزلة

من الخطوات المهمة التي تعتبر شرطا تمهيديا لقيام الاستفتاء إجازة المجلس الوطني (البرلمان) لأسماء مفوضية الاستفتاء القومية، باعتبارها خطوة أولى في طريق العملية المثيرة التي تمت بالإجماع، واعتمد رجل السياسة والقانون محمد إبراهيم خليل رئيسا للمفوضية، ووافق الشريكان على تسمية أمينها العام.


العد التنازلي
وتشرف المفوضية على عملية الاستفتاء كلها، من تسجيل الجنوبيين في الشمال والجنوب، وإجراء الاستفتاء نفسه، بالتعاون من مؤسسة الرئاسة وحكومة جنوب السودان والأجهزة الأمنية والعدلية والشرطية.

وينص الاتفاق على استفتاء الجنوبيين لتحديد خيارهم بين الانفصال أو الوحدة مع الشمال، في حين ينص القانون على تحديد الانفصال بنسبة "50% +1" من المصوتين، وحدد النصاب نسبة 60% من المسجلين كحد أدنى لاعتماد نصاب التصويت.

"
من المؤشرات القوية الدالة على البداية الإجرائية للانفصال، دعوة مجلس سلاطين جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق كافة الجنوبيين في كل مناطق العالم، بما في ذلك شمال السودان، من الراغبين في التصويت على تقرير المصير، للتوجه إلى مؤتمر تداولي لبحث الاستفتاء والعودة إلى الجنوب
"

ولا يظن أحد أن علي عثمان محمد طه نائب الرئيس السوداني قد تخلى عن تمسكه "بخيار الوحدة حتى آخر لحظة مثلما جاء في اتفاقية السلام"، رغم اعترافه في مؤتمره الصحفي الذي عقده نهار الثلاثاء 5/10/2010 بانحياز شريكه إلى الانفصال ودعم واشنطن لهذا التوجه.

وذلك له سبب بسيط هو أن "آخر لحظة" هذه، وكما جاء في اتفاقية السلام التي ألزمت الشريكين بالعمل من أجل الوحدة، لم تحن بعد.

وفي ذلك، يتخذ طه موقفا مختلفا عن النائب الأول للرئيس ورئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت الذي تحدث بلغة مواربة أولا عن دعوته لخيار الانفصال، بتذكيره للجنوبيين بأنهم إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية فليصوتوا للوحدة، ثم أعلن من بعد صراحة بأنه شخصيا سيصوت للانفصال.

وهذا استباق للأحداث وتجاوز لمنطق ومطالب اتفاقية السلام، يضاف إلى ذلك حديثه الدائم عن المشكلات التي يمكن أن تعيد الحرب بين الشمال والجنوب، حتى صار خطابه محبطا للسودانيين الذين كانوا وما يزالون يأملون أن تدرك الحركة الشعبية أخطار ومآلات خيار الانفصال على السودان وأفريقيا.


تلازم الإجراءات
وبعد إجازة البرلمان لمفوضية الاستفتاء التي ستشرف على عمليات الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، أصبح الحديث عن إجراء الاستفتاء في موعده أمرا مرجحا، لاسيما بعد تأكيدات الشريكين -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- على الالتزام بإجرائه في موعده يوم 9 يناير/كانون الثاني القادم، رغم أن هذا الاستفتاء الذي أصبحت تفصلنا عنه أيام معدودات تنقصه ترتيبات أخرى تفوق قدرة المفوضية التي ستجريه.

وتشمل هذه الترتيبات أو المترتبات جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية أو ما يسمى الجوار الآمن إذا أسفر الاستفتاء عن انفصال الجنوب.

ومن المؤشرات القوية الدالة على البداية الإجرائية للانفصال، دعوة مجلس سلاطين جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق جميع الجنوبيين في كل مناطق العالم بما في ذلك شمال السودان، من الراغبين في التصويت على تقرير المصير إلى التوجه إلى مؤتمر تداولي لبحث الاستفتاء والعودة إلى الجنوب.

وطلب المجلس من الجنوبيين التوجه إلى مناطقهم الأصلية في الجنوب والاستعداد للمشاركة في هذا المؤتمر المقرر انعقاده يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

وقال رئيس المجلس السلطان دينق مشام أنقوي إن مجلسه "قرر أن يكون مقر التصويت للاستفتاء في جنوب السودان فقط، وأنه لن يقبل بأي مراكز أخرى في أي مكان غير جنوب السودان".

وقال إن القرار جاء بناء على رغبة شعب جنوب السودان، ودعا السلاطين في شمال السودان إلى الإسراع بحصر وتسجيل مواطنيهم بكافة الولايات الشمالية، كما طلب منهم أن يكونوا جاهزين لترحيلهم إلى الولايات الجنوبية، من الآن وحتى 25 نوفمبر/تشرين الثاني هذا العام.

واعتبر مشام أن وحدة السودان وانفصال الجنوب بيد السلاطين، وطالب الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب بتسهيل عملية ترحيل المواطنين الجنوبيين الموجودين في الشمال عبر المواصلات البرية والنهرية والسكك الحديدية.


"
لحسن حظ الحركة الشعبية أنها وجدت شريكا يمكن أن تعلق عليه كل أخطائها السياسية والإدارية، أو تتنصل معه من كل التزاماتها، ولا تخسر أيا من أصدقائها وحلفائها، ويمكن أن تتهمه بأي تهمة ولا تجد من يراجعها فيها، في الداخل ولا في الخارج
"

انشطار المكان
وفي المقابل، صعدت جماعات ناشطة في الحركة الشعبية لتحرير السودان في الأيام الأخيرة من دعواتها لانفصال الجنوب عن الدولة السودانية، مستخدمة في ذلك وسائل الإعلام والخطب والتجمعات والمظاهرات والحشود الجماهيرية.

وبينما عزت كثير من التقارير أسباب تصاعد دعوات الانفصال إلى التباعد بين الشريكين اللذين يمسكان بزمام السلطة في البلاد، وإلى أن شعارات الوحدة الجاذبة لم توجد في نظر الجنوبيين خطط إنعاش، ولا هم يرون لاتفاقية السلام أي انعكاسات إيجابية ملموسة، بجانب الضيق من استمرار حالة التردي الاقتصادي وعدم الاستقرار في الجنوب، فإن الحركة الشعبية ما تزال تصر على أن السبب في فشلها الاقتصادي والأمني هو الشمال، وتشير بأصابع الاتهام دائما إلى شريكها في الحكم، المؤتمر الوطني.

وفي نفس السياق، دعا الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم أكثر من مرة الشماليين إلى الاستعداد لتقبل دولة جارة في الجنوب، وقال "إن الواقع يؤكد أن نسبة الجنوبيين الذين سيصوتون للانفصال كبيرة، وهو أمر يدعو إلى توقع الانفصال ويجب تقبل الموضوع".

وأشار إلى تهيئة مجلس الأمن والدول الأعضاء للواقع المحتمل، لكن المؤتمر الوطني رفض اتجاهات قيادات الحركة الشعبية، وطالب بأن يكون خيار الوحدة الجاذبة هو الاتجاه الذي تعمل له كل الكيانات والقوى السياسية السودانية، بما فيها الحركة الشعبية التي تسيطر على الحكم في جنوب السودان، قبل موعد الاستفتاء على حق الجنوب في تقرير مصيره.


تدشين للانفصال
ولم تكن قيادة الحركة الشعبية في حاجة لاجتماع نيويورك الذي التأم يوم 24/9/2010، لتعلن للعالم رغبتها في الانفصال.

ورغم أنها لم تستعمل لغة دبلوماسية تناسب مقام مثل تلك الاجتماعات، فإنها أعلنت بلغة لا لبس فيها انحيازها المطلق لخيار الانفصال، الأمر الذي مثل قفزة متجاوزة لنتائج الاستفتاء، معلنة نتيجته الختامية حتى لا تفوت أخذ شرعية قيام الدولة الجديدة من هذا التجمع الأممي الرفيع.

فحسمت الحركة الشعبية بذلك موقفها -قيادة وتنظيماً وأفرادا- من قضيتي الوحدة والانفصال وتفضيلها للخيار الثاني الذي يرجع تاريخ المناداة به إلى أيام نشأتها الأولى، إذ أضمرته في خطتها الداخلية وضمنته شعارات تعبئتها، وأحيته بوضوح حاسم في أغاني جنودها وأهازيجهم، وإن لم تفصح عنه بشكل أمين في خطابها السياسي.

لهذا، نجدها قد انحازت منذ بداية اتفاق السلام الذي ألزم الفريقين بالعمل من أجل الوحدة، إلى خيار الانفصال هذا، دون أن تقدر سوءات هذا الانقلاب السياسي وطنياً وأفريقيا.

فقد لاحظ المراقبون أن الحديث عن الانفصال بدأ يتساقط في التصريحات ويبذل في الندوات، ويقول به أحدهم وينفيه آخر لضرورات لحظية. ولكن سرعان ما انتقل هذا الحديث عن هذا الانفصال من خانة الآحاد إلى المواقف الجماعية.

"
الأجهزة الإعلامية الجنوبية واصلت التعبير عن هذا الانفصال كما تشاء، وكيل السباب كل للشمال، وبث حملات التعبئة العنصرية ضد الوحدة معه
"

ولحسن حظ الحركة الشعبية أنها وجدت شريكا يمكن أن تعلق عليه كل أخطائها السياسية والإدارية، ولا يصححها في الزعم أحد، أو تتنصل معه عن كل التزاماتها، ولا تخسر أيا من أصدقائها وحلفائها، ويمكن أن تتهمه بأي تهمة ولا تجد من يراجعها فيها، في الداخل ولا في الخارج.

فمارست في ضوء هذه الميزة التفضيلية التراجع التدريجي عن عهد الوحدة بادعاء أن المؤتمر الوطني لم يجعلها جاذبة بما يكفي، وتحللت في نهاية المطاف من آخر ما طالبتها به اتفاقية نيفاشا من خلال النصوص الواضحة التي تحض الشريكين على دعم خيار هذه الوحدة.

فقد قرر المكتب السياسي للحركة يوم 17/8/2010 وبعد اجتماعات وصفت بالتاريخية واستمرت لأربعة أيام في جوبا، أنها ستساند خيار الانفصال.

وقالت الحركة عبر بيان صادر في ختام الاجتماعات، إن المكتب السياسي يؤكد "أن الخيار المفضل الذي ظلت الحركة تدعو له خلال ربع قرن من الزمان وأكدته في مانفستو الحركة هو قيام سودان ديمقراطي وعلماني موحد طوعا في ظل التنوع، بيد أن رغبة حزب المؤتمر الوطني في التمكين لنظام ديني لا ديمقراطي لا يضمن أدنى حقوق المواطنة التي كفلتها اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي لغير المسلمين من المواطنين، بل للمسلمين الذين لا يشاركون المؤتمر الوطني رؤاه، أصبحت عائقاً لتحقيق الوحدة التي نبتغيها".


مفاجأة سارة
هذه التطورات تشكل على الأرجح مفاجأة سارة لمنبر السلام العادل في شمال السودان الذي يطالب هو الآخر باستعجال انفصال الشمال عن الجنوب، ولأنها تتزامن مع الجدل المحتدم داخل قطاعات معتبرة من نخبة الشمال حول جدوى استمرار الوحدة إذا كانت ستعمل على تقويض فرص التنمية والاستقرار في الجنوب والشمال معا، تقديرا على ما سبق من تجارب، خاصة ما أعقب منها اتفاقية السلام التي كان من المؤمل أن يبدي فيها الشريكان شيئا من المرونة وروح التعاون لإقناع كل الأطراف بجدوى السلام، وبالتالي جدوى الوحدة.

فقد عرضت صحيفة الانتباهة التي كانت تمثل تيار الانفصاليين في الشمال قبل إيقافها، وجهات نظر مؤيدة لهذا الطرح، زاعمة بأن حالة عدم الانسجام المستفحلة بين الجنوبيين والشماليين حتى في حالة السلم، تجعل الوحدة أمرا باهظ التكاليف على كل الأطراف، وأن البديل الأفضل للجميع هو الانفصال.

وقد أغلقت الحكومة السودانية صحيفة الانتباهة لتخفيف الإحساس غير المحبذ للوحدة في الشمال، إلا أنها عدلت ووافقت على عودة صدورها، لأن جميع الأجهزة الإعلامية الجنوبية واصلت في التعبير عن هذا الانفصال كما تشاء، وكيل السباب كل السباب للشمال الاستعماري، وبث حملات التعبئة العنصرية ضد الوحدة مع الشمال.


انتهت المهزلة
قال عظيم لحظة حضرته الوفاة، متوجهاً بعبارته لمن كانوا حوله "الآن صفقوا أيها السادة فقد انتهت المهزلة". وكأني به يعلن نهاية مسرحية عبثية اكتنفها الكثير من غموض أهداف وأسرار المسيرة الإنسانية على وجه البسيطة.

وقد يرى البعض في السودان أن تجربة الشراكة المضطربة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكم، كانت على هذه الشاكلة العبثية التي جعلت غير قليل من الناس في الشمال والجنوب يزهدون فيها وينظرون إليها كمهزلة وينتظرون بفارغ الصبر نهايتها -على أي وجه تأتي به هذه النهاية- حتى لو كانت انفصالا يقسم البلاد إلى شطرين، رغم تجذر الرغبة في الوحدة.

"
الشراكة التي اتسمت بالمشاكسات المضنية والمستمرة والأجندات المتعارضة أذهبت بريق السلام إن لم نقل الرغبة فيه، لأنها غيبت فكرة الوحدة الجاذبة في الممارسة السياسية، وعطلت كل مصلحة عامة كان يمكن أن تتأتى منه
"

فالشراكة التي اتسمت بالمشاكسات المضنية والمستمرة والأجندات المتعارضة أذهبت بريق السلام، إن لم نقل الرغبة فيه لأنها غيبت فكرة الوحدة الجاذبة في الممارسة السياسية، وعطلت كل مصلحة عامة كان يمكن أن تتأتى منه، إذ بدا أن الحركة الشعبية أرادت مواصلة معركتها العسكرية ضد الشمال بمعركة سياسية اختلقت لها الأسباب، واستخدمت فيها كل تكتيكات إرهاق شريكها المؤتمر الوطني، وجعله في موقف دفاع مستمر.

وعمدت إلى تقسيم القوى السياسية الشمالية بتحالفات لم تصمد أبدا على خيار، ولم تبلغ نهاية في أي مشروع، من أيام التجمع الوطني الديمقراطي، إلى تحالف أحزاب جوبا أو تجمع القوى الوطنية.

ولم تحفل كثيرا بأصوات واختيارات أعضائها من الشماليين، فصمتوا بالتدريج عن المناداة بفكرة السودان الجديد، إلى أن تلاشى وجودهم في حمأة اندفاع الحركة العلني نحو الانفصال.

وواصلت الحركة شد الأطراف بدعم معلن وخفي للحركات المتمردة في الغرب والشرق، وانتهجت مسارات في العلاقات الخارجية مختلفة مع شريكها، وفي كثير من الأحيان متعارضة، بما في ذلك الموقف من المحكمة الجنائية الدولية.

واليقين أن قضية انفصال الجنوب لن تكون نهاية للتجاذب السياسي والصراع بين الشمال والجنوب، وإنما سيفتح الانفصال بابا واسعا جديدا لتحديات داخلية وخارجية على السودان، شماله وجنوبه.

وقد بدأت معالم هذه التحديات تطل برأسها قبل أن يحين موعد الاستفتاء ويحسم الجنوبيون نتيجته، فعندما تعلن الإدارة الأميركية حزمة حوافز وعقوبات جديدة مرتبطة بهذا الاستفتاء، فما على الحكومة السودانية إلا أن تحزم أمرها للعقوبات، لأن رجاءاتها الماضية في الحوافز والجزر الموعود لم تؤت أكلها، إضافة إلى أن حركة النواب السود في الكونغرس وجماعات الضغط اليمينية واليسارية والصهيونية، وصقور وزارة الخارجية والاستخبارات في الولايات المتحدة الذين لا يريدون أي تطبيع مع حكومة السودان، ويطالبون الرئيس البشير بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ظلوا على الدوام يطالبون بأن تتخذ إدارة الرئيس أوباما موقفا أشد حزما مع حكومة الخرطوم، بغض النظر عما تنجزه الأخيرة في مضمار السلام في الجنوب.

وكل تلك التحديات كان يجب أن يواجهها السودان موحدا، لأن الوحدة تقلل ضغط التحدي الخارجي على دولة أنهكتها صراعاتها الداخلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.