الوطنية.. الواجب.. الحق

الوطنية.. الواجب.. الحق



يقول مالك بن نبي الفيلسوف العربي الجزائري المتوفى في عام 1973: "إن مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارية، ونجاح أمة بحل مشاكلها يتموضع في فهمها ومعرفتها، والارتفاع إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتم التعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات وتقدمها، فستبقى في زوايا العدم والنسيان إن لم يطلها الهدم والرحيل الأبدي".

وقبله بخمسة قرون تقريبًا، يقول ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع عن الوقائع التاريخية مبيّنًا: "إنها لا تحدث بمحض الصدفة، أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية"، لذلك انطلق في دراستهٍ للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجوهرية للتاريخ، فعلم التاريخ في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذا فهو أصيل في الحكمة، عريق، يجعل كل أحداثه ملازمة للعمران البشري، وتسير وفق قانون ثابت، ويقول عن القانون:"تمييز الحق عن الباطل".

"
لا صحة إطلاقًا لأن يُنسب بناء الوطن إلى فردٍ بعينه، أو مجموعة بعينها، ومدرسة التاريخ تركت لنا الكثير من شواهد إبداعات الشعوب، كما أنها بالمقابل عرضت علينا المآسي والآلام والضلالات التي يتركها حكم الأفراد، أو الأقليات
"

ورغم الفارق الزمني المديد بينهما، يلتقي المُفَكران حول الأسلوب الأمثل لنجاح الأمم في حلّ مشاكلها، ودخولها عالم الحضارة والعمران البشري، ومن سِمات الأساليب أنها شمولية تحتوي حركة الأمة بكاملها، ولا تقتصر على أفراد، أو مجموعات منها، وبذلك يتحقق الهدف الموضوعي الدائم المحدد للتناسبات وضروراتها بين الغايات المنشودة والمؤملة، وبين سدنتها وعبّادها.

فالفرد يمكنه تحقيق مصالحه الخاصة وحده بينما تحتاج الأسرة إلى جهود جميع أفرادها، أما المجتمع فهو للجميع، وبالجميع وبجهودهم تتكوّن ذرى وقمم الترابط الاجتماعي، ولا صحة إطلاقًا لأن يُنسب بناء الوطن إلى فردٍ بعينه، أو مجموعة بعينها، ومدرسة التاريخ تركت لنا الكثير من شواهد إبداعات الشعوب، كما أنها بالمقابل عرضت علينا المآسي والآلام والضلالات التي يتركها حكم الأفراد، أو الأقليات.

ولأن الوطن غالٍ على قلوب أبنائه بات من الملزم للجميع ابتكار الأفكار، وبذل الجهود لبناء رحابه الواسعة بالقيّم المظللة لهم بكل معاني السعادة والحياة الكريمة، وعن حُبّ البلد قالت شاعرة عربية زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:

فما أبغي سوى وطني بديلا ** بحسبي ذاك من وطن شريف

لقد تطوّر مفهوم الوطن، وتوسعت حدوده كما توسعت أيضا معانيه حيث كان الانتماء للقبيلة، أو العشيرة، أو المجموعة، لكنه أصبح في أيامنا موقفًا سياسيًّا فلسفيًّا.

الوطنية مصطلح يُستخدم للدلالة على المواقف الإيجابية المؤيدة للوطن من قِبل الأفراد والجماعات، وبالتالي فالمواطن هو الأصل، والمُعبّر عن الوطن والوطنية، أما الوطن فهو المصلحة العليا للمجموعة الوطنية، فيه الحرمات السياسية والاجتماعية والروحية والجسدية والقُرب منها جميعها والتمسك بها في إبرام العقد الاجتماعي، والسياسي العام، والانتماء الطوعي هو تقرب وعبادة للوطن في مناسك وطنية.

وفي بعض الظروف السياسية كواقع الأمة العربية الحالي يصيب الخلل الأصول والتعاريف، ففي ظلّ التقسيم السياسي الاستعماري للوطن العربي، وما رافق ذلك أحيانًا من تباعد فكري، كل ذلك أدى إلى تزييف مربك بين المواطنة العامة الدائمة، والمواطنة القطرية الزمنية، في وجود الأنظمة الشمولية وتغييبها للحريات على كافة المستويات مما ترك لبعض الحكام العرب تعريف الوطنية وفق نزواتهم ، وبما يعزز رغباتهم.

ومرحليًّا، فإن تعزيز المواطنة الزمنية، وربطها بقدر الأمة الحتمي في المواطنة العامة يجعل العمل في هذا المجال مقبولاً وموصلاً لما يَنشد الإنسان العربي، فمثلاً: في التنمية الصناعية، وهي واجب ملزم لكل المتصدين للعمل الوطني شريطة أن تُقام صناعات متكاملة مستقبلاً، باحثة عن الموقع القطري الأكثر ريعية والأقل كلفة، لكن جريمة تُرتكب إذا عَمدت الأقطار إلى إقامة صناعات متنافسة تضرّ وتعيق العمل الوحدوي.

 ولأن الأوطان تتكون من دوائر إبداعية مستمرة في الحركة، متوسعة في مجالات الفكر والثقافة والعلوم، وفي التنمية، وفي جميع الأطر حيث الفرد مركزها ومنطلق تحركاتها وباعث إبداعاتها، والإبداع عمليات خلق للوحات جميلة تزيّن الحياة، وتُحببها إلى النفس كحبّ الرجل للمرأة العبقرية: فهي تارة الجميلة، وتارة بمعنى الممتلئة، والعبقريات أفعال خارقة للمألوف ومبتَكرة كل جديد، وتفتحها كالورود لنتنسم عبقها لابد له من الحرية.

وعن الفكر الحُرّ قال نيتشه: "إن الحد من التصورات والآمال يُوقف إنتاج المعرفة، والحرية في ذاتها هي إما حرية فردية وهي حرية قول، وإبداء وجهات النظر الخاصة والرأي، أو حرية جماعية وهي حرية المجتمع كاملاً.. في تحرير الأرض من الاحتلال، أو من أنواع التبعية"، ولا حدّ يحدها إلا ما قال عنه المفكر جون ستيوارت ميل: "السبب الوحيد الذي يجعل الإنسانية، أو جزءًا منها تتدخل في حرية تصرف أحد أعضائها هو حماية النفس فقط، وإن السبب الوحيد الذي يُعطي الحق لمجتمع حضاري في التدخل في إرادة عضو من أعضائه هو حماية الآخرين من أضرار ذلك التصرف", والمُستنتج من هذا التعريف تحرير الإنسان من بُنيات اجتماعية غير متطورة.

"
الحريات الفردية تبقى ناقصة وغير كاملة المعالم والتأثير إلا في بوتقة التنظيمات الاجتماعية، والمهنية والحزبية، ففيها تتفاعل الآراء وصولاً لأفضل وأوضح الطرق المُحققة لأهداف منشودة
"

وفي فصل مؤسسات الدولة عن بعضها، وعن تجمعات المجتمع المدني، فقد بات من الواضح والجليّ أن الحريات الفردية تبقى ناقصة وغير كاملة المعالم والتأثير إلا في بوتقة التنظيمات الاجتماعية، والمهنية والحزبية، ففيها تتفاعل الآراء وصولاً لأفضل وأوضح الطرق المُحققة لأهداف منشودة.

إذاً، الحرية مكمن الإبداع والعطاء، ضرورية ضرورة الهواء للكائنات الحيّة شريطة أن تُختار لوحدها، وعملية الاختيار الحرّ قادرة على التكيف والتآلف مع بقية الآراء الصحيحة، والألفة معها.

الوطن حبّ وهيام، وإبداع في وارف ظلال الحرية، مانح الحقوق لعشاقه، ملزمهم بأداء ما عليهم من واجبات، وهكذا فالحق والواجب عنوانان للمسيرة الوطنية، والترابط بينهما كبير، فهما:

1- غير محدودين بزمان معين، أو بمكان معين، يشملان الإنسانية كافة، وإن ظهرت في بعض البلدان بعض الحقوق والواجبات الخاصة بأهلها، فذلك عائد إلى حضارة الأمة، والتوافقات الجديدة المُعتمدة.

2- يتوازيان بالأهمية، فمقابل الحقوق المرغوب فيها هناك واجبات ملزمة، لكن في تنامي الواجبات الوطنية تزداد حقوق المواطنين، وتتوسع آفاقها.

3- بعض المفكرين يُعطون الأهمية للواجب على الحق إيمانًا بالحكمة القائلة "العطاء يسبق الأخذ".

الواجب من المفاهيم الأخلاقية الإنسانية التي يجب أن يتأملها الفرد، ويحاول أن يعمل بها، ويؤديها عن طيب خاطر سواء تعلقت بذاته أو بغيره، فَبَعد أداء الواجب تتولد السعادة، والأفضل من ذلك أن يعتاد المرء على أن يكون سعيدًا أثناء أداء الواجب… وفي الشرائع السماوية "يُثاب مؤدي الواجب على فعله، ويعاقب على تركه".

ويعتبر المفكر جان جاك روسو أن الإنسان لديه وعي فطري بالعدالة، والشعور بالواجب بينما يؤكد دوركايم أن الظواهر الاجتماعية بمثابة أشياء لا يمكن للفرد أن يتجاهلها دون أن يتعرض لضغطها وإكراهاتها، ويُحدد بشكل أدق المفكر برغسون الواجب الأخلاقي إذ يقول: "إنه يتمثل في حق الآخرين في الحياة، والتملك ولا حدود زمنية أو مكانية له".

والواجبات التي رتبتها الحياة، والتي قد ترتبها مستقبلاً عديدة تبدأ بواجبات الفرد تجاه نفسه، ومن ثم تجاه أسرته، صعودًا إلى الواجبات تجاه جواره وأقربائه، وكذلك تجاه مجتمعه ووطنه، وجميعها مُلزمة وغير قابلة للنقصان.

وعن الحق، فالتعريف المُحدِّد له هو كل ما يستطيع الفرد القيام به في إطار ما يُسمى بالنوعية القانونية التي يمنحها القانون، ومفهوم الحق وشموليته اختزنته العبقرية العربية عبر مراحل وجودها وتواجدها، وأبدع مُفكروها في تبيان جوانبه الفلسفية، ففي كتاب "المدهش" لابن الجوزي العلامة القرشي البغدادي (عاش بين عامي1114 و1201) يقول: الحق يأتي بمعنى الجرم "ويقتلون النبيين بغير حق"، وبمعنى البيان "الآن جئت بالحق"، وبمعنى المال المستحق "وليملل الذي عليه الحق"، وبمعنى القرآن "بل كذبوا بالحق"، وبمعنى الصدق "قوله الحق"، وبمعنى الحاجة "ما لنا في بناتك من حق"، وبمعنى لا إله إلا الله "له دعوة الحق"، ويراد به الله عزّ وجل "ولو اتبع الحق أهواءهم"، وبمعنى التوحيد "وأكثرهم للحق كارهون"، وبمعنى الحظ "والذين في أموالهم حق معلوم". والقدرة هنا تجلت في تحديد للمفاهيم بنصوص آيات قرآنية.

"
عندما تختل التوازنات الاجتماعية نتيجة غبن الحقوق لفئة معينة تمتد أيدي الأعداء للعب بمكوناتها واستغلالها لا حُبًّا لها، ولكن تدميرًا لها، وبالتالي محاولة تدمير الوطن برمته
"

وحصر الحقوق شبه مستحيل لأنها عديدة الفروع والتفاصيل، كما أنها تتزايد بازدياد الثقافة والحضارة، لكن وضعها في أبواب معيّنة يُمكن من معرفة كلياتها، فهي حقوق شخصية، وحقوق متبادلة بين أفراد الأسرة، وحقوق للفرد على المجتمع يتوجها جميعًا حقه في إبداء رأيه، وتمتعه بالحرية، واختيار التبعية الفكرية والتطبيقية في منظمات المجتمع المدني، وحرية الرأي لا تقيدها إلا ضوابط الوطنية وبمعنى أدق اتخاذ الإجراءات القانونية بحق من ناصبوا مجتمعهم العداء، وسلكوا طريق الأعداء، وانضموا والتحقوا بمشاريعهم… إلا أن الرأي الخاطئ سرعان ما تتكشف عيوبه، وبالتالي الرفض له، وأحيانًا الرد على صاحبه، وفي هذه الحالات فأكبر جريمة ترتكب بحق أصحاب هذه الآراء، وحتى بحق الوطن اعتقال أصحابها.

هنا تتلبد آفاق الحرية بالغيوم، وتُقدم على المذابح شعارات الغرض منها وأد الأفكار.. كل الأفكار البناءة أيضًا.

إنه الوطن والوطنية، والوطن الحرّ لا يكون إلا عامرًا بالأحرار، والفيلسوف جالينوس قال: "يتروح العليل بنسيم أرضه، كما تتروح الأرض الجدبة ببلل المطر"، بل راح الجاحظ أبعد ليعطي الفكرة النسيمية الوطنية نوعًا من القدسية الخيالية إذ يقول: "كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه حفنة من تربة أرضه في جراب يتداوى بها".

الأمل كل الأمل معقود على أن نَعيّ معنى الوطنية بدقتها، فهي زيف في تكريس الفردية، وحصرها بأوضاع غير وطنية كالطائفية، والعشائرية والنزعات "الإثنية"، والثابت والمُلغي لكل الأمراض في وطننا العربي هو في إعطاء الحق أولاً بكامله للجميع وإلزامهم بالواجبات بكاملها. وعندما تختل التوازنات الاجتماعية نتيجة غبن الحقوق لفئة معينة تمتد أيدي الأعداء للعب بمكوناتها واستغلالها لا حُبًّا لها، ولكن تدميرًا لها، وبالتالي محاولة تدمير الوطن برمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.