في ضوء المنافسة الكروية المصرية الجزائرية

في ضوء المنافسة الكروية المصرية الجزائرية



لا شك أن تداعيات المنافسة الكروية الجزائرية المصرية تُعَدُ واحدة من اللحظات التاريخية الشديدة الخصوبة في تطور أنظمة الدولة القـُطرية العربية، وفي الممارسة الإعلامية العربية. كما أنها تطرح الكثير من الأسئلة، التي تنتظر تقديم أجوبة. وربما كان واحداً من هذه الأسئلة: ما تأثير ما حدث على مفهوم الانتماء؟

تعرف المجتمعات الحديثة نوعين رئيسين من الانتماءات: الانتماءات الجزئية (الثانوية وغير الاختيارية)، وهي عبارة عن بُنى ناجزة ومكتملة (العائلة والعشيرة والمذهب والطائفة والعرق واللون…الخ)، والانتماءات الكلية (الرئيسة والاختيارية)، (الانتماءات السياسية والفكرية والأيديولوجية…إلخ). يوجد هذان النوعان من الانتماءات في علاقة جدلية، يغذي فيها أحدهما الآخر، ويؤدي الدور الحاسم والمحدِّد فيها الانتماءات الكلية.

وإذا ما كان السياق يُعطي المعنى، فإننا سنحاول وضع الدور الذي قام به الإعلام في المنافسة الكروية المصرية الجزائرية، خصوصاً فيما يتعلق بالانتماء، في السياق العام لتطور الإعلام العربي عموماً ودوره فيما يتعلق بالانتماء خصوصاً.

"
تؤكد القراءة الواعية لتاريخ الإعلام العربي أنه -في الأعم والأغلب- لم يخطئ في الإسهام الفاعل في تكوين الانتماءات الكلية، وفي بلورتها، وإنضاجها، وإغناء مضامينها، وتجاوز أي تناقض يحدث بينها وبين الانتماءات الجزئية
"

تؤكد القراءة الواعية لتاريخ الإعلام العربي أنه (في الأعم والأغلب)، لم يخطئ في الإسهام الفاعل في تكوين الانتماءات الكلية، وفي بلورتها، وإنضاجها، وإغناء مضامينها، وتجاوز أي تناقض يحدث بينها وبين الانتماءات الجزئية. والاستثناء الوحيد في هذه المسيرة الطويلة هو الدور الذي يؤديه الإعلام الراهن، الذي حولته الدولة القطرية الراهنة إلى علاقات عامة.

وإذا ما أردنا تحقيب علاقة الإعلام العربي بالانتماء، نحددها على النحو التالي:

صحافة عصر النهضة: كان أبرز المهام المطروحة في تلك الحقبة تحقيق التمايز من خلال امتلاك الذات والهوية. وكانت الصحافة العربية لسان حال التنويريين العرب، واستطاعت إنجاز واحدة من مهامها التاريخية المتمثلة في الإسهام الفاعل في بلورة الانتماءات الكلية (الوطن والأمة والقومية والعروبة ومشاريع التطوير السياسي والديني والفكري والاجتماعي واللغوي).

مرحلة الاستعمار: كانت محاربة الانتماءات الكلية واحدة من المهام المركزية التي سعت الدول الاستعمارية لإنجازها في البلدان العربية التي احتلتها. ولعبت هذه الدول ورقة الانتماءات الجزئية لمواجهة الانتماءات الكلية، كشرط ضروري لتفتيت المجتمعات العربية. ومرة ثانية نجد الإعلام العربي يؤدي دوراً تاريخياً ممثلاً في تعبئة قوى المجتمع تحت رايات الانتماءات الكلية. وبالرغم من تعدد المشاريع والرؤى والاتجاهات، وتعدد الصحف وتنوعها، فقد دار الصراع أساساً تحت رايات الانتماءات الكلية وفي ساحاتها.

حقبة الدولة القطرية الحديثة: التي يمكن تحديد ثلاث مراحل متميزة في تطورها:

مرحلة دولة ما بعد الاستقلال: تعثرت خطواتها في استكمال المهام السياسية والاجتماعية والاقتصادية للاستقلال. وعكسَ الإعلام العربي مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي لتلك المرحلة التي كان يدور الصراع فيها حول الانتماءات الكلية، الممثلة في مشاريع سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة.

مرحلة الدولة الشمولية: اندفع الجيش، باعتباره القوة الوطنية الأكثر وحدة وتماسكاً وقوة لملء الفراغ الذي أحدثه عجز أنظمة دول ما بعد الاستقلال عن استكمال مهام الاستقلال. كما استطاعت العائلات المالكة في بلدان عربية أخرى إقامة أنظمتها الشمولية الخاصة بها.

وشهدت هذه المرحلة ارتفاع مد حركة التحرر الوطني العربية. وحدث استقطاب واصطفاف واضحان على الأرض العربية. رافق الإعلام العربي هذه التطورات، وبقي ميدان الصراع ورهانه الانتماءات الكلية، المتمثلة في صراع سياسات ومشاريع وأفكار وإرادات.

مرحلة الانكسار والتراجع: حتى هزيمة 1967بشموليتها وحدتها، لم تستطع أن تدمر الثوابت والانتماءات الكلية. وكانت "لاءات" الخرطوم الثلاث هي الرد، واندفعت الأمة على درب الجلجلة، الذي قاد إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1973. ولكن ما جرى أثناء الحرب وبعدها، استطاع أن يُفرِّغَها من مضامينها، ويحرمها من دلالاتها حتى الرمزية منها.

"
شهدت الدولة القطرية العربية سلسلة تحولات بنيوية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إيديولوجية، أدت إلى تغيير البنية الطبقية للأنظمة، وإلى تبدل جذري في تحالفاتها الداخلية والإقليمية والدولية
"

وبدأ عصر الانكسار والتراجع. وحين وضع التاريخ الكثير من الأنظمة أمام الاختيار بين ملاقاة مصالح شعوبها وأوطانها وأمتها، وبين ملاقاة مطالب إسرائيل والإمبريالية العالمية، لم تتردد كثيراً في اختيار الخيار الثاني.

وشهدت الدولة القطرية العربية سلسلة تحولات بنيوية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أيديولوجية، أدت إلى تغيير البنية الطبقية للأنظمة، وإلى تبدل جذري في تحالفاتها الداخلية والإقليمية والدولية.

أدركت معظم الأنظمة أنها فقدت الكثير من شرعيتها. وأصبحت مهمتها المركزية الحفاظ على وجودها. فاندفعت لإنجاز هذه المهمة من خلال الإستراتيجيات التالية:

1- السعي لإحداث تغيير جذري في مضامين الانتماءات الكلية. لم تعد تدرك الوطن وتفهمه باعتباره تلك الحالة المؤقتة المتجهة لملاقاة الأمة، أي وطن بهوية عربية، ولم تعد المواطنة ممثلة بالحقوق والواجبات، بل بالموالاة، ولم تعد حدود الأمن القومي للوطن تمتد وتتسع لتطال حدود الأمة بل أصبحت الدولة القطرية ليس فقط أولاً بل وأخيراً. وتوسلت الأنظمة لتمرير تلك المضامين بمسح الغبار عن انتماءات غائرة في القدم، صلتها واهية بالراهن، وبقراءات مغلوطة، ولكن متعمدة، لدروس ما شهدته الأمة في العقود القليلة الماضية.

وكان الهدف من ذلك كله إحداث عملية انزياح في مفهوم الوطن والمواطنة، بحيث يصبح الوطن هو النظام الراهن، وتصبح المواطنة هي الولاء للنظام.

2- جرت عملية مبرمجة محكمة لبعث الانتماءات الجزئية، وذلك على حساب الانتماءات الكلية, التي أُرغمت على التراجع.

3- بناء أجهزة أمنية غير مسبوقة نوعياً وكمياً، قادرة ليس فقط على القمع، بل وحتى على الردع.

3- إطفاء الحراك السياسي، وتدجين القوى أو قمعها، وإنشاء معارضة مُدَجَّنة ومنضبطة.

4- اتخاذ سلسلة إجراءات شكلية وديكورية، لا تمس جوهر النظام ومواقع السلطة الحقيقية.

5- إيجاد منظومة إعلامية متماسكة ومتكاملة ومتطورة، أفرغتها من الكوادر الصحفية صاحبة الموقف والرأي والمشروع، وسلَّمتها لأجيال من الصحفيين المنافقين والانتهازيين والمغامرين. وانهمك إعلام هذه الأنظمة في أسطرة الواقع وتزييف الوعي، وترويج الانتماءات الجزئية وتزيينها، وتسويق المضامين الجديدة لمفاهيم الانتماءات الكلية.

6- وكان لافتاً تشجيع الأنظمة للرياضة وتخصيص الاستثمارات الضخمة لها، واستخدامها وسيلة للتخدير, ولصرف الانتباه عن الاهتمام بالشأن العام.

"
رأت النخب الحاكمة في المنافسة الكروية المصرية الجزائرية الفرصة في الظهور بمظهر من يستجيب لرغبات الجماهير الواسعة المعنية بالرياضة عموماً وبهذه المنافسة بين البلدين خصوصاً
"

أتت المنافسة الكروية المصرية الجزائرية في هذه اللحظة من هذا السياق. أدركت النخب الحاكمة أن لهذه المنافسة أهميتها الخاصة وفق المعايير الرياضية البحتة. وقد كان من الممكن، بل ومن المنطقي فهم الحدث والتعامل معه ضمن هذه المعايير. ولكن النخب الحاكمة رأت اقتناص اللحظة الحدث، وتجييرها لخدمة إستراتيجياتها السابق ذكرها، وإخراجها من مضمونها الرياضي لتحقيق الأهداف التالية:

1- الظهور بمظهر من يستجيب لرغبات الجماهير الواسعة المعنية بالرياضة عموماً وبهذه المنافسة بين البلدين خصوصاً، لما للمنافسة الرياضية بينهما من سوابق وشجون.

2- تحقيق نصر ما، ولو في المجال الرياضي، يمكن توظيفه لتغطية الهزائم في المجالات الأخرى، وتوظيفه لتنفيس حالة الاحتقان والتوتر والإحباط.

3- تصعيد الموقف وزيادة التوتر، ليصبح ممكناً إعطاء الحدث دلالة رمزية، وهي هذه المرة دلالة وطنية.

4- توظيف المناسبة لتحقيق إستراتيجية الانزياح للدمج بين مفهومي "الوطن" و"النظام"، بهدف تحقيق التماثل بينهما، بحيث تصبح عمليات التجييش والحقن والتعبئة تحت راية الوطن، تعني عملياً الاحتشاد خلف النظام.

واستطاع إعلام الأنظمة، إعلام الموظفين، إعلام "حراس البوابة"، ولكن هذه المرة ليس حراسة مصالح الشعب والوطن، بل حراسة مصالح النظام ورموزه، استطاع تحقيق هذه الأهداف من خلال:

1- استخدام نظريات التأثير السريع لإنجاز عملية "إبهار"، عبر هجوم إعلامي صاعق وكثيف باتجاه الجماهير الواسعة، التي أثارت عملية التجييش والحقن انفعالاتها وغرائزها غير النامية، بهدف إيهامها بأنها تعيش لحظةَ فعلٍ يهيئ لانتصار، وشل مقدرتها على التفكير، وجعلها جاهزة لتقبل عملية "إبهار"، تخبلها، وتحولها إلى أداة طيعة.

2- خلق الأوهام وترويجها، وخاصة الوهم الذي سوَّقه إعلام الأنظمة بنجاح، وهو الوهم المتعلق بأن الاندفاع باتجاه الإقدام على السلوك المطلوب بعد إنجاز عملية الإبهار، يعطي إحساساً بالذات الفاعلة القادرة على المبادرة وممارسة حريتها، ولكن هذه المرة في الفضاء الرياضي، وليس في الفضاء السياسي والاجتماعي .

3- الاعتماد على الصورة المنتقاة والمصنوعة والموظَّفة بحرفية، لتقديم واقع زائف، واقع تلفزيوني، يغطي الواقع الواقعي ويحجبه.

4- استغلال مقدرة الصورة ودلالاتها الرمزية لتحقيق التماهي بين الوطن والنظام وبين الزعيم رمز الوطن وبين العلم الرمز الحقيقي والأصيل للوطن. وهذا ما يفسر الحرص دائماً على أن يظهر الزعيم وإلى جواره العلم الوطني، بهدف إنجاز عملية الانزياح ليتماهى الرمزان، ويتوحدا.

5- تبسيط القضايا وتسطيحها، واستخدام الصور النمطية بكثافة، وشخصنة المشكلة، وشيطنة الخصم (ألم يصف أحد رموز النظام مشجعي الفريق الخصم بأنهم "مرتزقة" و "إرهابيون".

6- الاختزال المُخِّل لإفقار الحدث من زخمه الإنساني ومضامينه المهنية وتبايناته الإنسانية (لون ثياب اللاعبين أصبح كافياً ليس فقط للدلالة على الفريقين، بل وعلى الشعبين أيضاً).

7- تحقيق اصطفاف إعلامي غير مسبوق يضم الإعلام الرسمي (القومي) والخاص (الأهلي)، وتجاوز التناقضات والحساسيات السابقة بينهما.

8- الاستعانة بمثقفي النظام ومفكريه، واستبعاد أصحاب الآراء والمواقف المختلفة.

9- استخدام مفردات وأوصاف غير مسبوقة في الحياة الرياضية، فقد أصبحت المباراة الرياضية "موقعة ومعركة".

ما حقيقة ما حدث، وما دلالته؟.. بالتأكيد إن ما حدث مهم ولافت وخطير, وربما مفاجئ وغير متوقع. ولكن، يجب أن نتجنب, ونحن نقيِّم دلالاته، الوقوع في الفخ الذي نصبته الأنظمة وإعلامها، ليستكملا تحقيق كامل أهدافهما من توظيف ما جرى لصالحهما.

إذ تجري عملية محمومة ومحكمة لتقديم ما حدث وكأنه "هزيمة للأمة كلها"، و"هزيمة للقومية العربية"، و"انكسار لفكرة العروبة"، وتعبير عن "خواء سياسي فكري"، وانعكاس لـ "الفراغ القومي".

إن ما حدث هو هزيمة بكل المعايير، ولكن ليس للأمة والشعب والقومية والعروبة والفكر، وإنما للنخب الحاكمة التي تقف على الجانب الخطأ من التاريخ.

كنتُ طوال فترة الحدث في الجزائر، وقابلت نخباً جزائرية مختلفة من العاصمة في أقصى الشمال، وحتى أدرار في أقصى الجنوب. وكان واضحاً أن هذه النخب الوطنية لم تخطئ البوصلة. وكان واضحاً أنها تُدرك، على مختلف مكوناتها، حقيقة ما يجري. كما تابعتُ البيانات التي أصدرها حكماء الأمة الذين يمثلون الوجدان والضمير والعقل من مثقفين وكتاب وعلماء وفنانين في البلدين.

هذا هو صوت الأمة. هذه الأمة التي لم تتح لشعوبها بعد إمكانية التصدي لإنجاز مهامها التاريخية وحل مشاكلها، والتي لم يتح، حتى لجيوشها أن تحارب، وكانت تسمع أخبار "هزائمها" من الإذاعة.

"
ما حصل بين مصر والجزائر هو هزيمة لإعلام أنظمة الدولة القطرية، إعلام الموظفين، إعلام العلاقات العامة والترويج والتسويق, الإعلام المنهمك في أسطرة الواقع والأنظمة ورموزها، وإيجاد وعي زائف، بهدف تضليل الجماهير
"

وصحيح أن ما حصل هزيمة للإعلام، وفق منظور تاريخي وليس وفق منظور لحظي راهن. ولكن ليس للإعلام العربي الذي لم يفقد عبر مسيرته اتجاه البوصلة. إن ما حصل هو هزيمة لإعلام أنظمة الدولة القطرية، إعلام الموظفين، إعلام العلاقات العامة والترويج والتسويق، الإعلام المنهمك في أسطرة الواقع والأنظمة ورموزها، وإيجاد وعي زائف، بهدف تضليل الجماهير.

من الخطأ اختصار التاريخ في لحظة. سينتهي تأثير عملية الإبهار، وسنعود، نخباً وشعوباً، لمواجهة الحقائق والتحديات التي تؤكد عجز الأنظمة عن إنجاز مهامها، وتفسِّر حالة السخط والتوتر التي تسود الشعوب، التي تدفع غالياً من دمها وحريتها وكرامتها ثمناً لهزائم ليست مسؤولة عنها، وثمناً لفشل مشاريع سياسية وتنموية مُنعت من الإسهام الفاعل فيها.

ولم أشعر بالقلق على تداعيات ما جرى على العلاقات الرسمية بين النظامين، وذلك لقناعتي أن معظم الأنظمة العربية تدرك أن ثمة حدوداً لخلافاتها، لا يمكن تجاوزها، نظراً لأنها ترى أن تناقضها الرئيس والعدائي لم يعد مع بعضها أو مع التخلف أو مع إسرائيل أو مع القوى الخارجية الطامعة بالهيمنة على المنطقة، وإنما مع شعوبها، التي يتعمق إدراكها بالإفلاس التاريخي لأنظمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.