إسرائيل وحزب الله

إسرائيل وحزب الله



لعل فشل إسرائيل في تحقيق كل أهدافها في الحرب التي جرت في صيف 2006 ضد حزب الله وما تلا ذلك من تداعيات، يجعل إمكانية قيام إسرائيل بشن حرب أخرى احتمالا ترجحه أسباب عديدة ولا يمنعه سوى محظور واحد.

فقد تعودت إسرائيل عندما ترتدي خوذة الحرب ضد العرب لا تخلعها إلا منتصرة انتصارا واضحا لا يجادل فيه أحد، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو أن يختلف العرب حول تسميته بالنكسة أو النكبة، لكن الأهم هو ما ينتج عن فعل إسرائيل العسكري من وقائع على أرض العرب تسوغ التبريرات وتعقلن التنازلات والتخلي عما كان يعتقد أنه ثوابت ومحرمات لديهم.

"
المعاهدات والتطبيع وشعار السلام خيار إستراتيجي، لم تجرؤ الأنظمة السياسية العربية على تبنيه علنا إلا بعد أن قدم لها الفعل العسكري الإسرائيلي ما تراه مبررات عقلانية في مواجهة شعوبها
"

فالمعاهدات والتطبيع وشعار السلام خيار إستراتيجي، لم تجرؤ الأنظمة السياسية العربية على تبنيه علنا إلا بعد أن قدم لها الفعل العسكري الإسرائيلي ما تراه مبررات عقلانية في مواجهة شعوبها كالقول: لا قبل لنا بإسرائيل ابنة الغرب المدللة والتي كلما استفززناها ضربتنا واحتلت منا أرضا يعترف لها الغرب بالشرعية والسيادة عليها.

لا شك أن مصداقية الآلة العسكرية الإسرائيلية من حيث الفعل تعد المبدأ الأساسي الذي لا تقبل إسرائيل بتسرب الشك إليه من قبل من تعتبرهم أعداءها وذلك لسببين:

الأول نظرا لارتباط ذلك المفهوم بأحد معاني القوة، ورغم أن هذا المفهوم يوجد في صلب ظاهرة العلاقات الدولية وليس ثمة نظرية في السياسة الدولية لا تعترف به صراحة أو ضمنا كعامل مؤثر في العلاقات بين الوحدات الدولية، فإن ما يحيل إليه هذا المفهوم من معنى بالنسبة لإسرائيل يختلف عن معناه بالنسبة لأي كيان آخر مهما بلغت حدة صراعه وعداوته مع جيرانه، فالتصور السائد لدى كل إسرائيلي هو أنه لولا القوة ما كان ليكون في هذا المكان ولن يكون بإمكانه أن يستمر فيه.

انطلاقا من هذا التصور فإن مفهوم القوة في التفكير الإسرائيلي يتجاوز معناه التقليدي إلى معنى الوجود والبقاء، ولهذا فإن ثمار القوة مهما تعددت مجالاتها تظل في الذهنية الإسرائيلية عديمة الجدوى ما لم تصب في قناة قدرة وفاعلية الآلة العسكرية، الضامن الوحيد -حسب هذا التصور– للوجود والبقاء. من هنا فإن مكانة القوة العسكرية الإسرائيلية تبلغ في الذهنية الإسرائيلية حد القداسة التي لا ينبغي أن يدنس الشك مصداقية فاعليتها.

ثانيا: مفهوم القوة وإسرائيل هما شرطان متلازمان وتوأم لا يمكن الفصل بينهما بالنسبة للغرب الذي أنشأ الدولة الإسرائيلية، فالعنصرية الأوروبية ضد اليهود اقتضت ضرورة التخلص من أكبر عدد منهم في مشروع دولة يستجيب للميثولوجيا والأساطير لكي تبدو عملية التخلص هذه وكأنها تحقيق لمطالبهم وأمانيهم، غير أن هذا المشروع محمل بشرط جوهري وهو أن تكون هذه الدولة في خدمة إستراتيجية الغرب في أكثر مناطق العالم حيوية بالنسبة لمصالحه.

بما أن المهمة والدور المنوطين بهذه الدولة هما بهذا الحجم وبهذه الخطورة، فإنه من البديهي أن تكون القوة الفائقة في جانبها العسكري هي التوأم الذي لا ينبغي أن يفارق هذه الدولة في أية لحظة من لحظات وجودها، فليس من المنطقي أن ينشئ الغرب على أرض شعب آخر دولة ضعيفة ثم يسند إليها دورا يقوم على القوة لخدمة إستراتيجيته القائمة على التضاد والتناقض مع مصالح وطموحات شعوب المنطقة المحيطة بها.

إن مفهوم القوة المرتبط بالآلة العسكرية الإسرائيلية يعد المرتكز الأساسي لعلاقة الغرب بإسرائيل، وبالتالي فإن أي تراجع لثقة الغرب في قوة وفاعلية هذه الآلة يعد أمرا بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، لأن ذلك يعني أن الغرب لم يعد يعول على مقدرتها العسكرية للعب الأدوار التي يسندها إليها في المنطقة.

إن ضعف الأداء الذي قد يصيب الآلة العسكرية الإسرائيلية لن يكون بالطبع بسبب نقص الإمكانات لأن الغرب كفيل بتوفيرها ولكن يكون بسبب ظهور قوة في المنطقة تمنع إسرائيل من أن تكون الفحل الوحيد وسط قطعان النوق العربية، ولهذا فإن إسرائيل كانت ولا تزال سباقة ومشاركة في أي مخطط غربي لضرب نواة أية قوة تظهر في المنطقة من مصر إلى العراق إلى إيران.

"
ضعف الأداء الذي قد يصيب الآلة العسكرية الإسرائيلية لن يكون بالطبع بسبب نقص الإمكانات لأن الغرب كفيل بتوفيرها, ولكن يكون بسبب ظهور قوة في المنطقة تمنع إسرائيل من أن تكون الفحل الوحيد وسط قطعان النوق العربية
"

إن حزب الله ليس قوة إقليمية في حجم تلك الدول ولم يهزم إسرائيل ولكنه منعها من أن تحقق الأهداف التي انطلقت من أجلها حملتها العسكرية، وبالتالي حرمها من أي انتصار مدو تعودت على مثله في كل غزواتها لبلاد العرب، فما فعله حزب الله هو أنه ألجم انطلاقة الآلة العسكرية الإسرائيلية وزرع بذور شك أشبه باليقين في مصداقيتها وفاعليتها، فترتبت على ذلك نتائج تدرك إسرائيل أخطارها وتداعياتها على المدى البعيد.

كان أول هذه النتائج هي زعزعة ثقة الإسرائيليين في أنفسهم وتسرب الشك إلى قدسية ما كان يقينا، فكانوا قبل صيف 2006 لا يشكون لحظة واحدة في ما تعدهم المؤسسة العسكرية بتحقيقه من أهداف معلنة قبل قيام حملتها في أرض القويم المجاورين، فلم تكن حروبهم السابقة تغير شيئا من طقوس حياتهم اليومية فيظلون مواظبين على الذهاب إلى نواديهم ومقاهيهم ويتفرجون وهم مسترخون في منازلهم الآمنة على المشاهد التي يقوم بها جيشهم بمطاردة وقتل الأشرار والبرابرة وأشباه البشر الذين شاءت الجغرافيا والأقدار أن يكونوا من القاطنين على تخوم دولتهم.

أما النتيجة الثانية، التي لا شك أنها ماثلة الآن في ذهن متخذ قرار الحرب الإسرائيلي، فتمثلت آنذاك في الحرج الشديد أمام أهم طرفين بالنسبة للسياسة الخارجية الإسرائيلية.

أولهما الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، فقد كان الغرب واثقا من أن الجيش الإسرائيلي سيزيل بضربة ماحقة وخاطفة هذا النتوء المزعج في جنوب لبنان، ولكن مع مرور الأيام والأسابيع اتضح أن الآلة العسكرية الإسرائيلية لم تستطع إنجاز هذا الهدف فتم الاكتفاء بما أنجز من أهداف أخرى، غير أنها رغم أهميتها لم تحل دون ترسخ الشك وزعزعة ثقة الغرب في القوة الإسرائيلية.

أما الطرف الثاني وهو بعض الأنظمة السياسية العربية، فقد وجدت إسرائيل نفسها في حرج شديد أمام هؤلاء الذين خاب ظنهم في مقدرتها العسكرية إلى الحد الذي ربما فكر فيه بعضهم في الانضمام إلى الحملة العسكرية، ورغم أن الإقدام على مثل هذا التصرف كان سيكون خطوة بالغة الأهمية في مسيرة العلاقة بين إسرائيل وهذه الأنظمة، فإن هذا التصرف بالنسبة لإسرائيل له أيضا أثر سلبي على مفهوم القوة الإسرائيلي المترسخ في أذهان هؤلاء، فتوقف الجيش الإسرائيلي أمام مقاومة عربية وقبوله بنجدة عرب آخرين تعود على هزيمتهم خلال ساعات وأيام، يعد سابقة خطيرة تؤدي إلى زلزلة جملة من الثوابت والمفاهيم التي ليس أقلها قوة الردع السيكولوجي التي تمثلها الآلة العسكرية الإسرائيلية في نفوس العرب الذين ما ينفك حكامهم يبررون تفريطهم وتنازلاتهم المتوالية بالخوف من استفزاز رد الفعل العسكري الإسرائيلي الذي تخر أمام جبروته الجبال وترتعش من فوقه ومن تحته فرائس الأرض وأعمدة السماء.

كان لوقوف حزب الله في وجه الجيش الإسرائيلي لمدة شهر أثر بالغ السلبية على مفهوم القوة الإسرائيلي نتجت عنه تداعيات في المنطقة لا يمكن أن تغيب عن صناع القرار الإسرائيلي وهم يحصون الأسباب الموجبة لشن حرب أخرى ضد حزب الله.

"
كان لوقوف حزب الله في وجه الجيش الإسرائيلي لمدة شهر أثر بالغ السلبية على مفهوم القوة الإسرائيلي نتجت عنه تداعيات في المنطقة لا يمكن أن تغيب عن صناع القرار الإسرائيلي وهم يحصون الأسباب الموجبة لشن حرب أخرى ضد حزب الله
"

أول هذه التداعيات هو تزايد الجرأة على استفزاز الآلة العسكرية الإسرائيلية دون رهبة مبالغ فيها، فرغم ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي من فظائع وما خلفه من دمار، فإن حرب غزة التي استمرت عدة أسابيع كانت علامة فارقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، فلأول مرة تقوم بؤرة مقاومة مسلحة داخل الأراضي التي تحتلها إسرائيل ويكون لهذه المقاومة مركز عمليات معلن وحدود يجرى الدفاع عنها بثبات ورباطة جأش في مواجهة الجيش الإسرائيلي الذي طالما أثارت مجرد تحركاته رعبا في نفوس الكثير من العرب.

من بين هذه التداعيات غير المحمودة بالنسبة لإسرائيل، تزايد حرج الأنظمة السياسية العربية التي تحذر دائما من مغبة استفزاز آلة إسرائيل العسكرية. فقد أخذت المعارضات والشعوب العربية تعاير هذه الأنظمة وتسفه حججها مستشهدين دائما بوقوف المقاومة اللبنانية لمدة شهر في وجه الجيش الإسرائيلي دون أن تقوم القيامة أو تسقط سماء الشرق الأوسط على الأرض.

كل هذه النتائج والتداعيات هي في الواقع أسباب تدفع صناع القرار الإسرائيلي إلى التفكير في شن حرب أخرى ضد حزب الله، أكثر منها أسباب مانعة. غير أن هناك مستجدات وأسبابا أخرى تعتبرها إسرائيل أكثر خطورة وتبرر إعلان الحرب على حزب الله وهى أسباب تتعلق بإيران وسوريا، فإسرائيل تعتبر حزب الله حليفا موثوقا به لكل من إيران وسوريا، ولهذا فإن أي عمل عسكري تقوم به ضد أي من هذين البلدين، ستكون لحزب الله ردة فعل عليه لأنه سيعتبر نفسه مستهدفا أيضا بهذا الفعل، ومن هنا فإن شن حرب ضد حزب الله يخدم من المنظور الإسرائيلي أهدافا ثلاثة:

الأول وهو التقليل من حجم ردة فعل إيران في حالة توجيه ضربة إسرائيلية إلى المنشآت الإيرانية النووية، فالمقدرة الصاروخية لحزب الله والتي لا بد أنها تحسنت كثيرا عما كانت عنه في صيف 2006، لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهلها أو تقوم بفعل عسكري على هذا القدر من الخطورة ضد إيران دون التفكير أولا في تحييد ردة الفعل الصاروخية لحزب الله.

ثانيا: في حالة شن حرب ونجاحها في إخراج حزب الله من معادلات الصراع والقوة في المنطقة، فإن ذلك -حسب التصور الإسرائيلي- يقوي ولا يضعف فرص التوصل إلى اتفاق ذي سقف منخفض في مفاوضات ناجحة مع سوريا.

ثالثا: في حالة شن إسرائيل حربا خاطفة وحاسمة ضد حزب الله وما يترتب على ذلك من إخراجه كليا من معادلة الصراع، فإن هذا قد يبدو لإسرائيل كافيا بحيث يغنيها عن توجيه ضربة إلى إيران أو شن حرب ضد سوريا، لأن ذلك سيكون بمثابة رسالة من جانب إسرائيل والغرب ولا يمكن لأي من المعنيين أن يخطئ في قراءتها، الأمر الذي سيؤدي إلى تخفيف ما تعتبره إسرائيل والغرب تشددا في مواقف الطرفين إزاء جملة من القضايا الأساسية في المنطقة.

"
أولى ضحايا حرب إسرائيلية فاشلة في جنوب لبنان هي جهود ومخططات السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة، ولذا فإن يقين إسرائيل وحدها لا يكفي لانطلاق آلتها العسكرية ضد حزب الله، بل لا بد أن يترسخ هذا اليقين لدى مؤسسات الحرب الغربية
"

يتبقى محظور واحد ولكنه يساوي هذه الأسباب مجتمعة في الكفة المقابلة، وهذا المحظور يتمثل في مدى يقين إسرائيل والغرب من نجاح هذه الحرب وتحقيق كامل أهدافها، لأنها في حالة فشلها ستكون نتائجها أكثر سوءا من سابقتها، فاحتمال الفشل هو المحظور الذي يجعل صانع القرار الإسرائيلي يتردد أمام قرار الحرب رغم تعدد موجباتها في نظره.

إن أولى ضحايا حرب إسرائيلية فاشلة في جنوب لبنان هي جهود ومخططات السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة، ولذا فإن يقين إسرائيل وحدها لا يكفي لانطلاق آلتها العسكرية ضد حزب الله، بل لا بد أن يترسخ هذا اليقين لدى مؤسسات الحرب الغربية وأن تحصل إسرائيل على موافقة صريحة وليس مجرد إيماءة رأس أميركية.

أما الضحية الثانية ولكنها الأهم لمثل هذا الفشل فهي ما تبقى من هيبة ومصداقية آلة إسرائيل العسكرية تؤم الدولة الإسرائيلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.