الدولة اليهودية خلف التاريخ

الدولة اليهودية خلف التاريخ



استهداف فلسطينيي 1948
هرتزل وعجينة القومية اليهودية المستحيلة
اصطناع نظرية وافتعالها 
يهودية ديمقراطية، فجوة غير قابلة للجسر

في خطوة استفزازية تأتي في نطاق المستحيل، وتفضح طبيعة وبنية الدولة العبرية الصهيونية، صادق الكنيست الإسرائيلي قبل فترة قصيرة وبالقراءة العاجلة (الأولية) على ثلاثة مشاريع قوانين، يقضي الأول منها بفرض عقوبة السجن لمدة سنة لمن ينشر دعوة ترفض وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية.

ويقضي القانون الثاني بحظر إحياء ذكرى النكبة من قبل المواطنين الفلسطينيين داخل مناطق العام 1948، وهو اليوم الذي تسميه الدولة العبرية يوم "الاستقلال" الذي يمثل في حقيقته يوم نكبة الفلسطينيين أينما وجدوا.

أما المشروع الثالث الذي عرض أمام لجنة التشريع الوزارية الإسرائيلية، فيتعلق بفرض "قسم الولاء للدولة" على كل من يرغب في الحصول على الجنسية الإسرائيلية، وكان هذا الموضوع أساس الحملة الانتخابية التي خاضها زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" الفاشي أفيغدور ليبرمان.

ولكن لماذا تعالت الأصوات الإسرائيلية الآن، وما الذي قدح شرارة تلك الأفكار.. وهل من خلفية تاريخية لصعودها؟

استهداف فلسطينيي 1948
لقد جاءت مشاريع تلك القوانين في سياقات تدل على "هلع" المؤسسة الإسرائيلية وقواها اليمينية وحتى ما يسمى قوى "اليسار الصهيوني" من تنامي الدور المتعاظم والفعل الكفاحي للمواطنين العرب الذين بقوا صامدين على أرض وطنهم بعد عام النكبة، خصوصاً مع التصاقهم بهموم أبناء شعبهم في النصف الثاني من الوطن الفلسطيني المحتل في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.

"
الوقائع الدامغة أثبتت أن المواطنين العرب داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مع تقبلهم الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم، إلا أنهم لم ولن يكونوا مستعدين للتماثل معها وتنمية مشاعر الولاء تجاهها
"

وتشير في جانب آخر منها، على مدى الانحطاط الكبير الذي بات يلف مجموع قوى الخارطة السياسية الإسرائيلية التي تريد وتطالب الآن بتحديد مشاعر العرب أبناء الوطن الأصليين في يوم النكبة، وتطالبهم بالاحتفال بما يسمى عيد "استقلال إسرائيل" وهو يوم نكبتهم، ومنعهم من إبداء آرائهم حول شكل الدولة التي يعيشون فيها.

فالوقائع الدامغة أثبتت أن المواطنين العرب داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مع تقبلهم "الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم مع تسليمهم بوجودها في ظل تناسب القوى بين الطرفين" إلا أنهم لم ولن يكونوا مستعدين للتماثل معها وتنمية مشاعر الولاء تجاهها.

وعليه فإن مبادرات ملحوظة تتأتى في سياق البرنامج الكفاحي لأبناء الوسط العربي الفلسطيني داخل حدود العام 1948 لفضح وتعرية طبيعة دولة إسرائيل والنزعة العنصرية التي تحكم بناءها، عبر الدعوة لاستبدال الدولة اليهودية الصهيونية بـ "دولة لكل مواطنيها" والمطالبة بحقوق العرب أبناء البلد الأصليين بما في ذلك تغيير الرموز مثل العَلَم والنشيد.

هرتزل وعجينة القومية اليهودية المستحيلة
وفي العودة لجذور المسألة المتعلقة بما يسمى "يهودية الدولة" فإن تيودور هرتزل لم يكن ليتصور أصلاً أن الدوافع الدينية يمكن لها أن تقرر المصير النهائي للدولة العبرية الصهيونية، فقد كان هرتزل علمانياً في قرارة نفسه، وشخصاً براغماتياً على طول الخط بالنسبة لرؤيته للعامل الديني مستنداً في فلسفته إلى تربيته الأوروبية الغربية التي أعطته ومنحته جرعات من (الدينامية) العالية في تجيير واستغلال العوامل الممكنة وخصوصاً منها العامل الديني لصالح بناء النظرية وفلسفة الأيديولوجية الصهيونية وسعيه لبناء الدولة الإسرائيلية الصهيونية، حيث أشار في كتابه الشهير "دولة اليهود" قائلاً "سنعرف كيف نبقي رجال الدين في كُنسهم.. الجيش والكهنة سيلاقون احتراماً كبيراً.. ولكن ليس من حقهم التدخل في شؤون الدولة".

هرتزل لم يكن في حينها يقصد الحاخامات اليهود فقط، فخلال ارتكازه على نماذج قومية معروفة سعى إلى إحداث تغيير في مكانة ما أسماه "الشعب اليهودي" وتحويله خلال تواتر عداد الزمن، من دين إلى قومية (في عجينة ثبت بالدليل القاطع أن هناك إشكالية في بقائها). فقد أدرك مبكراً أن اليهودية ليست قادرة على لعب دور القاسم المشترك للدولة خلافاً للمسيحية الهيكلية، فالوجود اليهودي التقليدي المبعثر في كيانات قومية مختلفة لا يمكن له أن يصفو تحت علم الديانة اليهودية إلى مقام القومية الراسخة، فاشتق طريق النظرية الصهيونية، بالرغم من أن الدولة الإسرائيلية بصيغتها الراهنة حددت للدين مكاناً مؤسساتياً وسمحت بوجود ونشاط التيارات الدينية الغارقة في رواية الخرافة اليهودية، وبالتالي ضعفت وتراجعت بنية (الدولة الكيان) أمام البنى المجتمعية الدينية والخطاب الخلاصي الشوفيني الذي بات منهلاً لا ينضب عند قوى اليسار الصهيوني واليمين التوراتي على حد سواء.

فالقومية المدنية المزعومة داخل "كيان دولة إسرائيل" أخلت مكانها عملياً لهيكلية "يهودية" ستزداد قوة تصادمها لاحقاً مع مشروع الحل الناجز للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني في سياق كفاح الفلسطينيين داخل المناطق المحتلة عام 1948.

اصطناع نظرية وافتعالها
وقبل ذلك، ذهب فيلسوف "الدولة اليهودية" تيودور هرتزل في تصديره لرؤيته إلى الارتكاز على نماذج قومية معروفة، سعى من خلالها إلى إحداث تغيير في مكانة الدين اليهودي، ساعياً لتحويله من "دين محدود الانتشار في أوروبا وبلدان الشرق الأوسط إلى قومية متجددة" وباعتبار أن اليهودية عاجزة على لعب دور القاسم المشترك في بناء الدولة، وفق مفهومها الحديث والمعاصر.

"
أدرك هرتزل مبكراً، أن الوجود اليهودي التقليدي بتنوعه القومي المبعثر في كيانات ومنظومات دول مختلفة لا يمكن تجميعه وصهره في بوتقة واحدة دون ابتداع أشكال من اصطناع النظريات المفتعلة
"

لقد أدرك هرتزل مبكراً أن الوجود اليهودي التقليدي بتنوعه القومي المبعثر في كيانات ومنظومات دول مختلفة بين آسيا وأوروبا الشرقية والغربية، وقسم من القارة الأميركية في الشمال (الولايات المتحدة، كندا..) وفي الجنوب (الأرجنتين، البرازيل..) لا يمكن تجميعه وصهره في بوتقة واحدة دون ابتداع أشكال من اصطناع "النظريات المفتعلة". وعليه نجحت صهيونية تيودور هرتزل في لحظة تاريخية ومناخ مناسب لها، فكانت وليد طفرة جانحة كرستها في العرف الدولي الراهن كقومية متحررة من الهيكلية المبعثرة.

لكن صيرورة الأشياء، والنشأة الطافرة للدولة الإسرائيلية الصهيونية تطلبت بالضرورة إدامة الارتكاز الصهيوني على فكرة (الدين) والتغذي من وعاء الميثولوجيا التوراتية، لتصبح الصهيونية عقيدة سياسية تجسّدت في ممارسة تاريخية ذات أهداف محدّدة تمثّلت في إنشاء دولة إسرائيل على أسس دينية عنصرية استعمارية استيطانية إجلائية، فليس من السهل تشبيه الصهيونية، كعقيدة سياسية، بسائر العقائد السياسية كالشيوعية والرأسمالية.

ومن هنا فقد واجهت إسرائيل إشكالية واضحة بالنسبة لهوية الدولة، فشهدت توترات وصراعات لعبت دوراً في خلق هذه الإشكالية، بسبب التنوع الثقافى والعرقى فيها، وزيادة حدة الاستقطاب بين الدينيين والعلمانيين.

وفي الخارطة الدولية في العالم المعاصر، تقف الدولة العبرية الصهيونية باعتبارها الدولة الوحيدة التي تعرّف نفسها كدولة (ديمقراطية) و(دينية) في الوقت ذاته بالرغم من التنوع السكاني القومي والديني في تكوينها العملي (السكان الأصليين من المواطنين العرب الفلسطينيين، وقوميات أوروبية وآسيوية من يهود العالم قاطبة، فضلاً عن الأقليات القومية التي كانت في فلسطين قبل إنشاء الدولة الاسرائيلية الصهيونية مثل الشركس والأرمن والبوشناق…).

فإسرائيل الدول الوحيدة في العالم التي تأسست على خلفية "رواية ميثولوجية" مسنودة بقرار دولي، هو القرار 181 (قرار التقسيم) الذي جاء في لحظة نادرة لخصت الفترة الحرجة أثناء وقوع التحولات الكبرى في المنظومة الدولية، كحاصل تفاهم والتقاء وتوافق للمصالح الاستعمارية الكبرى مع انقشاع سحب الحرب الكونية الثانية (1938-1945).

يهودية ديمقراطية، فجوة غير قابلة للجسر
ومع ذلك، فإن كل الأحزاب الاسرائيلية الصهيونية ما تزال تصرعلى المبدأ الأساسي الرئيس، وهو ضمان الهوية اليهودية للدولة العبرية، وهي فجوة كبيرة غير قابلة للجسر أو الترقيع داخل كيان الدولة الإسرائيلية بين المواطنين الفلسطينيين العرب أصحاب الوطن الأصليين وبين جموع المجتمع الاستيطاني اليهودي على أرض فلسطين التاريخية.

وهي فجوة تبشر حال استمرارها بتكريس الشرخ اليهودي العربي القائم في داخل حدود دولة إسرائيل، وذلك بالرغم من محاولة البعض من الجيل الثالث من قيادات الصف الإسرائيلي كما حال تسيبي ليفني التي تابعت موقفها على المنوال الذي سعت إليه إسرائيل في "أسرلة ودمج وتذويب الهوية الوطنية لفلسطينيي الداخل المحتل عام 1948" حاولت التخفيف من حدة الموضوع والقول إن "إقامة الدولة الفلسطينية قد تُلبي احتياجات عرب إسرائيل القومية من خلال إفساح المجال للتضامن والتماثل معهم".

"
مشاريع القرارات الثلاثة التي تمت المصادقة عليها في الكنيست بالقراءة الأولى، تؤشر بشكل لا لبس فيه على حالة القلق التي تعيشها الدولة العبرية الصهيونية بعد أكثر من ستين عاماً من قيامها على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب الفلسطيني
"

بينما تنحو بعض الأوساط البراغماتية الإسرائيلية المحسوبة على تيارات اليسار الصهيوني ومن داخل حزب العمل وكتلة ميرتس تحديداً للقول "من الأفضل التركيز على توفير حلول عملية للضائقة التي يعاني منها الوسط العربي بدلا من التمحور حول القضايا الأيديولوجية المبدئية". بينما يقول يوسي بيلين من قيادة كتلة ميرتس المحسوبة أيضاً على تيارات "اليسار الصهيوني" بلغة مليئة بالديماغوجيا إن "إسرائيل تستطيع أن تكون دولة يهودية، وفي نفس الوقت دولة لكل مواطنيها" بينما يقول زعيم حزب شاس اليميني التوراتي إيلي يشاي "إنه لا يوجد تناقض على المستوى الديمقراطي بين ضمان طابع الدولة اليهودي وبين وجود الأقلية العربية".

وعند الاتجاهات الأكثر يمينية نجد اليهودي الروسي المستوطن على أرض فلسطين وزعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان الذي لا يؤمن بالتعايش ويعتقد أن كون إسرائيل يهودية أهم من كونها ديمقراطية، ومن هنا تصبح التفرقة ضد المواطنين الأصليين من أبناء البلد من الفلسطينيين العرب فيها مسألة مبررة مع تواصل النظر إليهم كتهديد إذا لم يكن أمنياً فديمغرافياً.

وخلاصة القول، إن مشاريع القرارات الثلاثة التي تمت المصادقة عليها في الكنيست بالقراءة الأولى، تشي وتؤشر بشكل لا لبس فيه على حالة القلق التي تعيشها الدولة العبرية الصهيونية بعد أكثر من ستين عاماً من قيامها على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني.

وتؤشر أيضاً على التهتك والفراغ الأيديولوجي الذي تحاول من خلاله المنظومة السياسية الإسرائيلية التصدي للحقوق الوطنية والقومية لفلسطينيي العام 1948 عبر إعادة إنتاج نظريات مصطنعة وتلحيف اليهودية كدين بلحاف القومية، والتنظير لـ "يهودية الدولة".

ولكن وقائع الحياة تؤكد مرة تلو المرة أن "الدولة اليهودية: خلف التاريخ، فقد مضى زمن الترانسفير، ولم يعد بإمكان أحد اقتلاع من الفلسطينيين ممن تبقى على أرض فلسطين المحتلة عام 1948.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.