إنفلونزا الخنازير وفلسفة الخطر

إنفلونزا الخنازير وفلسفة الخطر



أنواع الخطر
ضريبة الحياة السهلة
سكان هذا الكوكب

في رائعته الأدبية "الطاعون" يقدم الأديب والفيلسوف العبثي الفرنسي ألبير كامو (1913-1960) رؤيته -في رمزية سياسية وفلسفية تتعلق بأجواء الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي لفرنسا- لمواجهة المجتمع الإنساني للأخطار القدرية العارمة في صورة وباء يصيب المجتمع.

وفي استبعاد مقصود للدين، يرى صاحب "الطاعون" أن التعاون الإنساني المتسم بروح الجرأة والتضحية كافٍ لدفع خطر الفناء المعلق فوق رؤوسنا. لقد قدم كامو هنا رؤيته فيما يمكن تسميته "فلسفة مواجهة الخطر".

وفي المقابل ثمة رؤية أخرى شائعة بيننا تنطلق من الدين، وترى أن البلاء لا يعم البشرية إلا بما كسبت أيديها، وأن التصالح مع الله كافٍ لدرء هذه المخاطر عنها، وهي رؤية تفتش عن الأسباب، وتقدم صورة مجملة للحل، دون أن تعتني بالتفاصيل في هذا الجانب أو ذاك.

وقد انطلقت إنفلونزا الخنازير من المكسيك وشرقت وغربت وفي صحبتها هلع مخلوط بالترقب والقلق الشديد، والناس في الأصل مشغولون بعلاج مشكلات عالمية أخرى مستحكمة، صحية واقتصادية وسياسية، وقد صدق فينا قول أبي الطيب المتنبي حين أصابته الحُمّى، فراح يخاطبها:

أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنت    فكيف نجوتِ أنتِ من الزحام؟!

وللمخاطر –في الحقيقة– فلسفة أحسب أننا في حاجة إلى أن ندركها، سواء كنا نتكلم عن المواجهة أو الحلول أو الأسباب أو النتائج.

"
الأخطار القدرية التي هي بيد الله تعالى وحده، ما هي إلا جزء من القوانين التي نظم الله الكون عليها، وما كان جزءًا من النظام فلا يمكن أن يهدم النظام، إلا بعد أن يستكمل مهمته, وأما الأخطار التي تصنعها أيدينا فهي المشكلة الحقيقية التي تواجه الإنسان
"

أنواع الخطر
لعلنا نتساءل: متى ابتعد الخطر عنا حتى نشتكي من ظهوره؟ نحن بني الإنسان نقف دائما مع الخطر على حافة الهاوية، يحيط بنا من كل جانب، ويكتنفنا من كل ناحية، فكوكبنا الصغير قد يذهب ضحية للنيازك والمذنبات، بل كل مجرتنا قد تبتلعها مجرة أخرى أضخم منها، وإذا جف الماء قتلنا العطش، وإذا سالت جبال الجليد قتلنا الغرق، وزلازل وبراكين وعواصف ورياح عاتيات.. إلخ. (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

لكن كل هذه الأخطار -أعني التي وردت قبل الآية الكريمة- لا ينبغي أن تقلقنا، إذ إنها صديقتنا التي لا طاقة لنا على منعها، وما لا طاقة لنا على منعه فليس أمامنا إلا العمل على تجنب أكبر قدر من أضراره إن استطعنا. المشكلة إذن تكمن في نوع آخر من الأخطار، هي تلك التي تصنعها أيدينا نحن البشر.

إن الأخطار القدرية التي هي بيد الله تعالى وحده، ما هي إلا جزء من القوانين التي نظم الله الكون عليها، وما كان جزءًا من النظام فلا يمكن أن يهدم النظام، إلا بعد أن يستكمل مهمته التي خلقه الله لأجلها.

وأما الأخطار التي تصنعها أيدينا، مثل هذه التي نتجت عن الاستعمال غير السوي للموادِّ والأحياء، والإسراف في استهلاك ثروات الأرض، والانحراف في الاستجابة للغرائز، ومحاولة اختراع أنماط اجتماعية تخالف ما رسخ في حياة البشرية منذ أبيها الأقدم.. هذه الأخطار هي المشكلة الحقيقية التي تواجه الإنسان، لأن النواميس الاجتماعية ربطت بهذه الانحرافات عقوبات صارمة تمثل جرس الإنذار الذي يحذر البشرية من الاستمرار في هذا المنحدر المهلك: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

ولا أدري هل ثمة حكمة محددة من إيراد هذه الآية الكريمة في سورة قرآنية تحمل اسم "سورة الروم" دون غيرها من السور؟ غير أننا ندري أن القوانين الكونية والاجتماعية تمضي في طريقها، ولا تنظر إلى وجوه الناس ولا لغاتهم ولا غناهم ولا فقرهم ولا حتى أديانهم.

كما ندري أن من مصلحة البشرية كي تبقى أن تُعاقَب على بعض أخطائها حتى ترجع عن الطريق الذي في آخره الفناء العام لها. أما إذا تُركَت تفعل ما تشاء بلا رقيب ولا محاسب، فهذا يعني أنها ستُفاجَأ بنفسها وقد سقطت في وادي الهلاك السحيق، دون أن تستطيع العودة منه.

إنه قانون يشبه قانون الألم، فمع أن هذا الأخير مزعج وغير مرحَّب بزياراته، فإنه ضروري لمعرفة الأعطاب التي تطرأ على أبداننا قبل أن تستفحل ويستحيل علاجها.

ويشبه كذلك قواعد التربية التي تفرض على المربِّي أن يعاقب صغيرَه أحيانًا، حتى يتجنب من السلوكيات والأقوال والعادات ما يمكن أن يضر بجسده أو عقله أو قيمه المحترمة.

"
فلسفة الخطر معناها أننا أبدعنا الشكل الاتصالي والتوصيلي، لكننا لم نملك التحكم في المحتوى الذي يمر خلاله، والشكل أصم والمحتوى ناطق أو معبر في كثير من الأحيان، فلن تمر المنافع دون المضار، الأدوية دون الأوبئة، وكأنها ضريبة الحياة السهلة!
"

ضريبة الحياة السهلة
التيسيرات التي قدمتها الحياة المعاصرة للإنسان لا شك في ضخامتها، وقد أشار الدكتور أليكسس كاريل في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" إلى أن بعض الناس العاديين في هذا الزمان يعيشون في بيوت أشد فخامة من بيوت كثير من أمراء وملوك العصور السابقة، كما أُتيح لهؤلاء الناس العاديين من إمكانات المعاش ما لم يُتَح لأولئك القدماء ولو جزء ضئيل منه.

وحقيقةً تتنوع التيسيرات التي أتاحها العصر الحالي لإنسانه بصورة واسعة، لكن لعل الاتصالات والمواصلات تأتي في مقدمة ذلك عمومًا، فقد أتيح لنا نحن بني الإنسان أن نتواصل معًا بسهولة ووضوح دون أن يكون اختلاف المكان ممثلا لأي عائق أمام هذا، كما أتيح لنا أن نسافر بين أجزاء الأرض في راحة وسرعة مذهِلَينِ.

لكن، ما الذي يسافر وينتقل خلال أدوات الاتصال والمواصلات؟ إنه كل شيء: الإنسان والأشياء والقيم والثقافات والأمراض والمعلومات، كل شيء!! ولا يمكننا أن نقوم بفرز هذه الأشياء بحيث نسمح لبعضها بالمرور دون بعضها الآخر، فبينها من أسباب التشابك والتداخل ما يحرمنا فرصة هذا التمييز.

ولكن ما معنى هذا في فهم فلسفة الخطر؟ معناه أننا أبدعنا الشكل الاتصالي والتوصيلي (السيارة والطائرة والقطار والهاتف والحاسوب)، لكننا لم نملك التحكم في المحتوى الذي يمر خلاله، والشكل أصم والمحتوى ناطق أو معبر في كثير من الأحيان، فلن تمر المنافع دون المضار، الأدوية دون الأوبئة، وكأنها ضريبة الحياة السهلة!

سكان هذا الكوكب
نحن إذن في مرحلة عولمة قسرية للمشكلات والكوارث والأوبئة، وشواهد هذا كثيرة، ونعايشها خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، ومشكلة الاحتباس الحراري، وإنفلونزا الطيور، ومن بعدها الخنازير، وهو أمر لا يبدو أنه سيتوقف قريبا، إلا أنه قد يكون فرصة لإحياء بعض المعاني التي تتعلق بعموم سكان كوكبنا، متخطية كثيرًا من التنوعات والاختلافات والتباينات بين الشعوب والأمم والثقافات، ومن ذلك ما يلي:

– الإنسانية أسرة واحدة: على المستوى البيولوجي لا أحد من العقلاء ينكر الطبيعة الواحدة للناس، وهو ما نرجعه إلى الأصل الواحد الذي ننتمي إليه جميعا، ولا أحد ينكر كذلك أنه مهما اتسعت الاختلافات والخلافات بين أجزاء الجماعة البشرية، فالإنسان أقرب إلى الإنسان منه إلى أي كائن آخر.

"
لسنا نحلم بأن تصير البشرية أمة واحدة تختفي من بينها التمايزات والتنوعات والاختلافات الثقافية والاجتماعية واللغوية، لكن ليس أقل من أن نؤسس في جو الأزمات لأصول تعاونية تنقذ إنساننا من الانقراض!
"

لكن، ماذا عسانا نستفيد من هذا الحقائق التي لا تحتاج إلى تقرير؟ إن هدف ذلك هو النظر إلى المخاطر التي تهدد البشرية كلها على أنها مشكلة جميع الدول والأفراد، وأن هدف مواجهتها إنقاذ الجميع من مضارها قدر الطاقة، ومثلنا في ذلك -لو افترضنا أن العداوة استحكمت بيننا– مثل خَصمَينِ صادفهما عدوٌّ فاتك يريد قتلهما معا، فليس من العقل أن ينشغلا بخصومتهما عن هذا الخطر المشترك.

– فائدة التمرس على مواجهة الصعاب: لا تخلو مواجهة الصعاب من فوائد كبيرة على المستوى الفردي والجماعي، رغم ما قد ينتج عنها من خسائر وضحايا، ففي اللحظات الصعبة يستدعي الإنسان قدراته الكامنة ويوظفها بصورة تلقائية، وترتفع في هذه الأحوال قدرته على الإنتاج والإنجاز.

وربما يتيح الاشتراك في مواجهة الصعاب التي تهدد الجميع جوًا مثاليًا للتقارب والتفاهم بين أفراد الأسرة البشرية، كذلك سيتضخم رصيدنا من الخبرة والتخطيط في مواجهة الأزمات المستحكمة، وهو ما يقوّي استعدادنا للحياة بصورة أفضل.

لسنا نحلم بأن تصير البشرية أمة واحدة تختفي من بينها التمايزات والتنوعات والاختلافات الثقافية والاجتماعية واللغوية، فهذا -في الحقيقة- يكاد يكون حلمًا مستحيلاً، لكن ليس أقل من أن نؤسس في جو الأزمات لأصول تعاونية تنقذ إنساننا من الانقراض!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.