الأنا المهزومة ونماذج الخلاص

الأنا المهزومة ونماذج الخلاص الكاتب: ربى عطية



ضجيج في الإعلام حول التحضير لمباراة ما في كرة القدم.. لا أسمع التفاصيل جيدا، ولا أحفظ البلاد المتأهلة.. فلم يخطر ببالي للحظة أن الخبر سيتحول إلى منصة الأحداث وأن المباراة ستتحول إلى معركة ذات بعد قومي وقبلي، وسيُستدعى كل مثقفي البلاط للحشد لها. فماذا حدث؟ ماذا حدث خلف تلك الأخبار؟ ماذا قبل وماذا بعد تلك الركلة؟ ماذا حدث على مدى سنين مضت في الذاكرة والوعي واللاوعي الجمعيين لجمهورين عربيين -المصري والجزائري- حتى وصلا إلى هنا؟

لا شك أن قراءة سياسية للموضوع كانت ستأخذنا إلى دور ومصلحة النظام المصري مثلا في تغذية الأحداث لتحقيق نوع من إعادة رسم الهوية الوطنية المصرية إزاء الآخر العربي، بما يبرر مواقف عديدة للنظام المصري وبما يرسخ التصاق الشارع بالنظام الذي "وقف مع مصر" ضد "المعتدين على اسمها وأبنائها".

"
مشجعو الفريقين المصري والجزائري وإن دخلت عوامل سياسية آنية في تعبئتهم فإنهم كانوا جاهزين للدخول في أقصى حالات العدائية مع الآخر المشابه لهم في أوجه عدة
"

لكن هذه القراءة تبقى قاصرة إذا لم تأخذ بعين الاعتبار الحالة السيكواجتماعية لمشجعي الفريقين، الذين وإن دخلت عوامل سياسية آنية في تعبئتهم فإنهم كانوا جاهزين للدخول في أقصى حالات العدائية مع الآخر المشابه لهم في أوجه عدة، ليس حماية لمصلحة اقتصادية أو سياسية أو حتى أمنية، بل لأسباب سأحاول شرحها عبر مقاربة نفسية اجتماعية.

بداية، فإن الاستغراب لما تداعت إليه مباراة كرة قدم بين فريقين وطنيين ليس ناجما عن استنكار الطبيعة التنافسية للمجموعات ذات الهويات المحددة، فالإنسان كائن تنافسي، سواء بالتكوين حسب جوركفيست أو نتيجة العلاقات السوسيواقتصادية حسب ماركس.

لكن التنافس ينجم عن إحدى حاجتين، أولى وظيفية للاستمرار والرضا اقتصاديا واجتماعيا وجسديا، وثانية وجودية لترك بصمة على الآخرين تتخطى اللحظة الآنية المنعدمة. في الحالة الأولى يصبح التنافس الرياضي مؤشرا على تحقق الحاجة الوظيفية، ويحدد سقفه بقبول نتائجه. هنا، لم يكن يجب أن يُعبًّر عن خيبة مشجعي الفريق المصري بما يتجاوز الحد الزمني للمباراة (أو لسفر الفريق والمشجعين إلى بلادهم)، والحد المكاني لتجمعهم في الملعب وحوله. كما كان سيقتصر رد الفعل المعلن على المشجعين والاتحادات الرياضية، دون أن يمتد إلى هيئات المثقفين والفنانين والإعلاميين والأجسام الرسمية للدولة.

أما إذا اعتبر التنافس سبيلا إلى تحقيق حاجة وجودية للمجموعة، فعليّ قبل أن أخوض في أسباب تحول مباراة كرة قدم إلى نوع من التنافس الوجودي أن أسأل: هل كنا سنشهد التداعيات نفسها لو لعبت مصر مع المنتخب الإنجليزي مثلا؟

لا بد أن مستوى ما من التنافس كان سيظهر بسبب وقوف الطرف الذي نخوض التنافس معه في طريق حاجتنا المباشرة للاستمرار (ولو رياضيا في هذه الحالة)، إلا أن المحدِّد الذي يجعلنا نضع الخصم مكان تنافس حضاري ثقافي وحتى وجودي هو وعينا بذاتنا، والمنظور الذي نرى منه هذه الذات على مستويي الفرد والجماعة.

فمثلا، إذا كان وعي المرأة بذاتها متوقفا على جمالها، أصبح منافسها هو كل امرأة جميلة أخرى، وإذا كان وعي المجموعة بذاتها وعيا دينيا أصبح المنافس هو مجموعة دينية أخرى، وهكذا دواليك.. ويرتبط هذا الوعي بشرط الاعتقاد بإمكانية تحقيق النصر والحاجة إليه، ولهذا فنحن لا ننافس من نعتقد أنهم متقدمون علينا بكثير أو متأخرون عنا كثيرا في مجال المنافسة، وهذا يفسر قبول المجموعات البشرية بتفوق بعضها على بعض وحتى القبول بحالة الاستعباد في أقصى درجات حالة الإحساس بتفوق الآخر.

وهذا أيضا ما يفسر عدم قبول الأفراد والمجموعات بأي مكتسب يحققه من يعتقدون أنهم مقاربون لهم في المستوى في مجال التنافس. هنا يصبح من المقبول أن نفترض أنَّ نقل المنافسة ورد الفعل الخائب من ساحة الرياضة إلى الساحة الوطنية الحضارية الثقافية ما كان ليحدث لو أن الفريق المصري لعب إزاء الفريق الإنجليزي.

فهل كان ما حدث حتميا بين جمهورين متشابهين في الظروف الاقتصادية والخلفية الحضارية والثقافية؟ لا يرُدّ على هذا السؤال سوى سؤال آخر: هل كنا سنرى نفس المشهد لو حدثت المباراة نفسها عام 1965؟

بالطبع لا. ليس لأن رغبة أي من الطرفين في الانتصار كانت ستكون أقل. فالانتصار وسيلة الإنسان في تحقيق ذاته وإثبات مشروعية وجوده.

ولحسن الحظ أن تحقيق الذات لا يتأتى من مصدر واحد في الحياة. حيث تعتمد ديناميكيات التعويض على القدرة على تحقيق المكانة بطرق بديلة. فالمكانة الناتجة عن قوة مالية مثلا، يمكن تعويضها بتحقيق مكانة علمية وسمعة مرتبطة بها.

"
كيف هيّئ لجمهورين من أكبر الجماهير العربية أن خسارة مباراة لكرة القدم هزيمة غير محتملة بما يستدعي شطب الآخر عن الخريطة الحضارية للشعوب في خطاب إعلامي كاريكاتوري؟
"

فكيف إذن هيّئ لجمهورين من أكبر الجماهير العربية أن خسارة مباراة لكرة القدم هزيمة غير محتملة بما يستدعي شطب الآخر عن الخريطة الحضارية للشعوب في خطاب إعلامي كاريكاتوري؟ وهل أصبح التأهل للمونديال الطريق الوحيد لتحقيق الذات الجمعية لأي من الطرفين؟ هل ارتبطت خسارة المباراة بخطر الفناء في وعي أي من الجمهورين؟ أو غدا تحقيق النصر في أماكن أخرى مستحيلا بحيث أصبحت الهزيمة أمرا لا يحتمل؟ كيف تحوّل المنافس إلى عدو وأصبحت كل ديناميكيات الإسقاط والإحلال النفسي منطبقة؟

الحديث هنا عن شعبين رسمت الرواية الوطنية لكل منها صورة متضخمة للأنا الجمعية في مرحلة الخطابات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وفي مرحلة تشكل الذوات القطرية والقومية في العالم العربي ما بعد الاستعمار.

الرواية المصرية، رواية ثورة يوليو، قامت على التحرر من الهيمنة الغربية والإقطاع المحلي المرتبط بها وبناء دولة حديثة مستقلة سيدة لقرارها ومواردها وقائدة للأمة العربية. وقد رافقت مصطلحات مثل القيادة والريادة وتحرر "الأمة"، الوعي الجمعي المصري في تلك الفترة.

كما عبّر الإنتاج الثقافي والفني باحتفالية عن حالة من الفخر والنشوة بالإنجازات الجمعية، المتحققة منها والمرجوة: "قلنا حنبني ود احنا بنينا السد العالي"، "وطني حبيبي الوطن الأكبر يوم ورا يوم أمجاده بتكبر"، وغيرهما الكثير.

أما في الجزائر فكانت أسطورة المليون شهيد (أسطورة بمعنى الأساطير المؤسسة للهوية الوطنية لا بمعنى عدم صحة الرواية)، ومنجز التحرر من الاستعمار وأنظمة الحكم "الرجعية".

شعبان إذن ورثا خطابين وطنيين تحرريين كانت الأنا المنتصرة والمنجزة والمتحدية عنوانا لهما، وكانت هذه الأنا الجماعية قادرة على تذويب الأنا الفردية في نشوتها.

وشعبان خضعا لخيبات أمل متلاحقة بعد استقرار الدولة "الثورية"، فكانت هزيمة الوطن النموذج عسكرية في مصر، أمنية في الجزائر، مع غياب للديمقراطية في البلدين، ودوّت الهزيمة الاقتصادية في بلدين من أكبر البلاد في محيطهما العربي، رامية بوزرها على طبقة وسطى متآكلة بما ترك أثره السلبي على المستويين التعليمي والمعرفي للشعبين بعد أن زعزع صورة الأنا الجمعية لهما إزاء الذات وإزاء كل آخر، خاصة الآخر "الشقيق" الذي أصبح التقهقر أمامه أكثر إحراجا للأنا المنهزمة من الهزيمة أمام الآخر المتفوق، متمثلا بالغرب في هذه الحالة.

الحلول الخلاصية أو "التنفيسية" معروفة في هذه الحالة. يصفها على المستوى الفردي إيريك فروم بطريقة جميلة حين يتحدث عن هروبنا من فكرة الفناء الفردي عبر امتداد أكبر لذواتنا بما يسميه الانصهار. وحين لا يقدر هذا الانصهار أن يكون عضويا وظيفيا ضمن مجتمع فاعل ومنتج، قادر على التطور ضمن ما سماه دوركهايم بالتضامن العضوي، يتحول إلى انصهار وقتي ننسى فيه الذات عن طريق الانتشاء المفتعل بالمخدرات أو الكحول مثلا أو عن طريق النشوة الجماعية في التجمعات التي تشهد حالة انفعالية تذوب فيها الأنا الفردية في الجماعية، وأبرز الأمثلة عليها المباريات الرياضية، والهبّات الشعبية، بالإضافة إلى الحالات الطقوسية الجماعية.

فليس من المستغرب ضمن نفس الفرضية إذن أن تكون مصر والجزائر من أكثر البلدان العربية انتشارا للمخدرات. وليس من المستغرب في حال عجز الدولة عن القيام بوظائفها الحيوية ودمج الناس فيها إنتاجيا، أن يتم استبدال التضامن العضوي بتضامن عصبي أقرب إلى العصبيات القبلية ما قبل الدولة.

هنا تختلف نسبة العصبية تبعا لمدى الشوفينية الملغية للآخر التي تغذيها الأساطير الوطنية القائمة على التفوّق. على سبيل المثال تحدث أحد الإعلاميين المصريين المعروفين في برنامجه التلفزيوني عن أن المصريين أصحاب فضل حضاري على الجزائريين، وأن مصر هي التي حررت الجزائر من الاستعمار وعلّمت شعبها العربية، إلى ما هنالك من خطابات شوفينية سمعناها على لسان فنانين وسياسيين وكتاب مصريين. دون أن يعني هذا أن نسبة العدوانية تفاوتت بين الجمهورين.

وإذا عدنا في دراسة سياق الحالة وصيرورتها إلى المرحلة اللاحقة للخيبات الكبرى مباشرة في تاريخ البلدين، لاحظنا توجها سائدا للبحث عن خلاص فردي سبغ تلك الفترات، تجسد بالسعي إلى الثراء والاستهلاك والتحلل من الانتماء للمجموعة (ما تدل عليه نسب الفساد وخطابات الانعزال القطري في البلدين ابتداءً من أواخر السبعينيات). فالشعوب تعيش أكثر من حقيقة أو فهم للواقع خصوصا في ظل إحساسها بانعدام الفعالية والقوة، مما يجعل البحث عن خلاص فردي الخيار الأول.

"
عندما تمر العصبية الجماعية بفترة هبوط, يصبح الانصهار في الجماعة خيارا من جديد، فتمضي الأنا الفردية المحملة بالهزيمة والسخط في سعيها إلى الانصهار بالمجموعة من جديد، لكن مع رسم حدود جديدة لإطار الأنا الجمعية هذه المرة
"

عندها تمر العصبية الجماعية بفترة هبوط ناتج عن حالة من السخط على الذات على المستوى الوطني. وحين يخيب الخلاص الفردي بدوره لأسباب اقتصادية وسياسية، يصبح الانصهار في الجماعة خيارا من جديد، فتمضي الأنا الفردية المحملة بالهزيمة والسخط في سعيها إلى الانصهار بالمجموعة من جديد، لكن مع رسم حدود جديدة لإطار الأنا الجمعية هذه المرة، بحيث تسقط مسؤولية الهزيمة على فئة ترميها خارج الإطار الجديد.

ومع وجود أنظمة سياسية غير ديمقراطية وفاسدة يهمها التحلل من أعبائها القومية والأممية رامية عليها وزر الهزيمة، يتم إعادة إحياء التضامن الجمعي في إطار عصبية غير عضوية وغير منتجة.

هنا يصبح ما شهدناه مشهدا مأساويا لحفل زواج بين شعب يسعى للخلاص من الموت المر باتصاله بجماعته، ونظام يهمه أن يُسكت صخب الحفل أصواتا توجه أنظار الحاضرين إلى مصدر آخر للخطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.