الكرة المستديرة وغريزة القطيع

الكرة المستديرة وغريزة القطيع



غارت بعيداً رياضة كرة القدم التي طوّرها البريطانيون لشحذ همم عمال المصانع في المنافسة واللياقة البدنية. ففريق "ليفربول" الذي أسسه أصحاب مصانع الصلب والحديد لزيادة الإنتاجية في تربية عضلات عمالهم (وقت الراحة الأسبوعية بعد كفاح طويل من أجل تخفيض ساعات العمل)، لم يعد من عماله وصناعييه اليوم ومن الحديد والصلب غير حنين الذكرى البعيدة.

وعلى حال "ليفربول" غدت أحوال الفرق البريطانية العمالية الأولى في الهند وغيرها وفي مصر كفرق مثل سكك الحديد، الغزل والنسيج، …. فالمنافسات الرياضية باتت أينما كانت أحداثاً عظمى يطغى عليها تدخّل المال والإعلام والسياسة، وقد طالت حتى الألعاب الرياضية الأرستقراطية الضيقة مثل لعبة "الغولف" والفروسية وكرة المضرب.

"
تحوّلت كرة القدم إلى صناعة استهلاكية جماهيرية واسعة عابرة للقارات, ولا تدرّ هذه الصناعة الأرباح المادية التجارية على أصحابها وحسب، إنما تدرّ أيضا أرباح إنتاج أشكال شتى من الرأسمال الرمزي أهمه الجمهور الشعبي
"

لكن كرة القدم احتلّت واسطة العٍِقد فوق لعبتيْ " الركبي" و"الفوتبول" الأميركية، إذ تحوّلت إلى صناعة استهلاكية جماهيرية واسعة عابرة للقارات. ولا تدرّ هذه الصناعة الأرباح المادية التجارية على أصحابها وحسب، إنما تدرّ أيضا أرباح إنتاج أشكال شتى من الرأسمال الرمزي أهمه الجمهور الشعبي الحاشد حول الكرة المستديرة.

إن هذا الرأسمال الرمزي المكوَّن من الجمهور الشعبي الحاشد هو أينما كان عرضة للاستثمار والاستقطاب بين ثالوث المال والسياسة والإعلام الخاص باللعبة من جهة، وثالوث مشابه خارجي عن اللعبة من جهة أخرى (مال الإعلان والتسويق والبورصة، وسياسة السلطة ورجال الأعمال الطامحين بالنادي السياسي، والإعلام غير الرياضي والمشاهير والنُخب الثقافية).

وتتباين طبيعة تدخَل الثالوث الثاني من محل إلى آخر ومن بلد إلى آخر بحسب طبيعة الظروف الاجتماعية الثقافية التي يتدخّل فيها، وبحسب تطوّر تقنياته المهنية والأخلاقية في الاستقطاب. فالاستثمار الأشدّ تأثيراً في ديمومته هو الاستقطاب "الحضاري" الذي يتجمّل بالخفَر، بحيث ينبغي أن يبدو مصلحة عليا و"خدمة عامة منزّهة عن الغرض والمصلحة الخاصة" على قول بيار بورديو في تحليله للرأسمال الرمزي.

وعليه دلّت "موقعتاْ القاهرة وأم درمان" على طبيعة ثالوث الغزو العربي القبلية البدائية وعلى برّية تقنياته المهنية والأخلاقية العارية في الغزو.

وهي على خلاف ما يطفو على سطح "المعارك" الغريزية من غبار أحقاد مأساوية، تكشف هشاشتها في ديمومة التأثير، أكثر من قدرتها على دفع انزلاق الحميّة الوطنية والاجتماعية الداخلية في اتجاه عدائية قومية بين مصر والجزائر. فأزمة السلطة العربية وأزمة نُخبها المالية والثقافية، أعمق وأعقد من تخفيف وطأتها في مباراة كرة قدم تتخذها السلطة رمزاً للوفاق الوطني والاجتماعي والكرامة الوطنية الجريحة.

ولعل أول من استخدم السلطة السياسية العارية في استثمار المباريات الرياضية، هو أدولف هتلر أثناء افتتاح الألعاب الأولومبية عام 1936 حين أشاد وقتها بتفوّق العرق الآري والحضارة الجرمانية على ثقافات الأقوام والقوميات.

وقد كانت هذه الإشادة بمثابة إعلان حرب قصدت إزالة انطباعات يمكن أن تطبع أجواء الحرب بأخلاقيات المنافسة الودّية. لقد كانت رحى الحرب تدور خارج الملاعب الرياضية للسيطرة على العالم فأراد هتلر إبلاغ من يعنيهم الأمر أن المناسبة الرياضية الودّية لن تحول منها. وعدا هذا الإفراط العاري في اقتحام السلطة، لم يحدث قبل "واقعتيْ القاهرة وأم درمان" توظيف السلطة السياسية العارية في منافسات رياضية على شكل إعلان حرب شوفينية عنصرية.

فالنموذج السوفياتي الشهير في إحكام قبضة السلطة على مجمل الأنشطة الرياضية، اعتمد على استخدام الترميز وعلى توظيف التقنيات والأخلاقيات الرياضية في خدمة السلطة ولم يستخدم بدائيات سلطة عارية وأخلاقيات برّية في غزو الرياضة. بل على العكس من ذلك خاض النموذج السوفياتي معركة ثقافية للدفاع عن المنافسة الودية وروح الفريق وحمايتها من سلطة المال.

ولم يكن عيب النموذج في بدائية التقنيات والأخلاقيات الرياضية، إنما كان عيبه في ثقل اليد الحديدية على الأنشطة الرياضية وعلى استغلال رمزيتها في المنافسات الدولية.

وكما النموذج السوفياتي، يعتمد النموذج الصناعي الغربي على اللباقة العالية في استخدام التقنيات والأخلاقيات الرياضية لصالح السلطة ترميزاً. وهو ترميز أكثر حنكة وخفرًا من النموذج السوفياتي نتيجة دور النُخب الثقافية الحريصة جداً على أداء وظيفتها في مراقبة السلطة، خوف أن تفقد استقلاليتها عن السلطة وبالتالي وظيفتها ومبرر وجودها.

فالنُخب الثقافية تكبح -خلال أداء وظيفتها الطبيعية في المراقبة- جنوح السلطة السياسية لتوظيف الأنشطة العامة ومن ضمنها الأنشطة الرياضية في خدمة السلطة وخدمة مصالح رموز السلطة على وجه الخصوص وذلك على مستويين: أولاً في مراقبة تحمّل السلطة السياسية مسؤولية المحافظة على روح المنافسة الودية مهما كانت "مصيريّة" في تأهيل فريق أو آخر ومهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية متوترة. ومراقبة مسؤوليتها عن ضبط الأمن في عزل بؤر الشغب عن باقي المشجعين ناهيك عن شعب بأكمله.

وإذا لم تكن قادرة على تحمل هذه المسؤولية في حسن التنظيم وضمان الأمن لأسباب استثنائية، يمكنها نقل المباراة قبل وقوعها ويمكنها كذلك الانسحاب لأسباب سياسية بحتة. وثانياً مراقبة مسؤولية السلطة السياسية عن حفظ أخلاقيات المنافسة الودية في عدم تظهير ما يمكن أن تبوح فيه غرائز الحشود في الملعب، ومسؤولية محاصرته في بؤرته وعدم توسعه في الانتقال إلى خارج الملعب.

"
في معظم المباريات الساخنة والحاشدة في أوروبا والعالم تقع أحداث شغب بين المشجعين وتظهر في غالب الأحيان ظواهر عنصرية وشوفينية وطنية أو دينية وجهوية, لكن لم يحدث أن جاهرت السلطة السياسية أو النُخب الثقافية في تبنّي خطاب هذه الظواهر المشينة
"

ففي معظم المباريات الساخنة والحاشدة في أوروبا والعالم تقع أحداث شغب بين المشجعين وتظهر في غالب الأحيان ظواهر عنصرية وشوفينية وطنية أو دينية وجهوية…. و لم يحدث أن جاهرت السلطة السياسية أو النُخب الثقافية في تبنّي خطاب هذه الظواهر المشينة أو تساهلت حياله. وفي "موقعتي القاهرة وأم درمان" لم تتبنَّ السلطة السياسية ونُخبها الثقافية مثل هذا الخطاب وحسب، بل هي من افتعله من أساسه ووصمت فيه تاريخ البلدين ومجمل فئات وشرائح الشعبين الشقيقين سواسية كأسنان المشط. والأسباب سلطوية عارية تفيض منها بدائية تقنيات وأخلاقيات غريزية.

ليس بين السلطة السياسية في مصر والجزائر صراع محاور وليس بينها خلافات سياسية ساخنة. كما ليس بين البلدين مشاكل حدود واحتكاك مباشر، بل بينهما تاريخ طويل من التشابك الثقافي والاجتماعي المشترك وبينهما تاريخ قريب من التعاضد وتبادل المنفعة لصالح شعبين شقيقين.

ولعل التحولات السياسية والاجتماعية التي طوت هذا التعاضد الأخوي في العقود الأخيرة، تكشف عن بعض أسباب توتر السلطة السياسية في مباريات كرة قدم. فالسلطة السابقة كانت تغذّي شرعيتها ومشروعها في تعزيز أواصر التعاضد والأخوّة والمنفعة المتبادلة في الحقل الإقليمي وكذلك توسّع نفوذها في "العالم الثالث"، من أجل تحقيق هدفين:

 1- تخفيف حدّة التبعية للدول الصناعية في العلاقة المباشرة مع هذه الدول وفي العلاقة غير المباشرة عبر المجتمع الدولي والتجارة الدولية.

 2- بناء لحمة التوافق الوطني والاجتماعي الداخلي الوطني والقومي حول أفق السلطة السياسية في رؤى ومشروع استقلالي إثر تحولات مرحلة إزالة الاستعمار.

وفي حالة مصر والجزائر أدى التعاضد الأخوي بينهما إلى إعلاء المنفعة المشتركة وإلى إعلاء شرعية السلطة السياسية في الوفاق الوطني والاجتماعي الداخلي والإقليمي على السواء. لقد حققت الجزائر استقلالها بمساعدة مصرية وبادلت الجزائر المساعدة في حربي 67 و73 وتشارك كل منهما في الدفاع عن القضية الفلسطينية. والأهم ساهم التعاضد في توسع نفوذ مصر والجزائر في أفريقيا السمراء ودول عدم الانحياز، تمهيداً لتحسين مواقعهما في المجتمع الدولي وفي العلاقة المباشرة مع الدول الصناعية.

وفي "موقعتي القاهرة وأم درمان" استخدمت النُخب الثقافية والإعلامية، بإيعاز من السلطة السياسية أو بإيحائها، هذه الحقبة الناصعة دلالة على تخلّف بلد وشعب في "حاجته للمساعدة" الأخوية وقت المحَن. ودلّت هذه العيّنة "الثقافية" على عدائية السلطة لثقافة وقيَم تبادل المنفعة بين البلدان العربية من أجل تحقيق شرعيتها في الحد من التبعية للدول الصناعية، وفي التضامن الوطني والاجتماعي الداخلي.

كما دلّت على غور السلطة عميقاً في "قيَم" تمجيد التبعية "للدول المتحضّرة" وفي "ثقافة" التراتبية الهرمية الاجتماعية الداخلية، بين ذوي الاستهلاك البذيء والفئات الأخرى ضحية انهيار مجتمعاتها في تبعيتها للدول الصناعية. ولم تكن هذه العيّنة "الثقافية" ناتئة عن إبداع النُخب الثقافية طيلة أسبوع أُتيح فيه الإبداع و"حرية التعبير"، بل كانت عيّنة من أرقى "فكرها"، وما ظل كامناً في أحشائها أدهى وأمرّ.

لقد نجحت السلطة السياسية في وقت قصير لا يتجاوز جيلاً واحداً، في صناعة حلقات واسعة من الكتاب والفنانين والإعلاميين والمشاهير، على شكل مليشيات قوى "التدخل السريع". وقد نجحت هذه الحلقات بدورها في ترويج "ثقافة" السلطة المفرطة في تبعيتها للدول الصناعية، على شكل قيَم حضارية عصرية تنال إعجاب "الدول الديمقراطية والمجتمع الدولي" في الثناء على جُدد عبيدها.

منها المنافسة الطاحنة بين كل بلد عربي وآخر للوصول أولاً إلى العالمية قبل أن يقطف ثمار جنانها من يصل في المقدمة، ولا مفر من التبعية الكاملة للتخلص من الجهل والتخلف.

ومنها إزالة ما بقي من "أوهام مرضية" في الطموح القومي والتعاضد الإقليمي الذي دام حوالي عقدين من الزمن وأدى إلى هزيمة وإلى تخلف عضوي، ما زالت السلطة السياسية تجهد نفسها في علاجه منذ أربعة عقود دون أن تنجح كفاية بعد. فالانهيار الحالي هو مجرّد ضريبة التخلف السابق ومقدمة طبيعية لحلول فضلى على المدى الأبعد.

ومنها تمجيد غريزة القطيع على ما رأينا وسمعنا إبان الغزو من مثالب "حضارتي الأفناك والفراعنة" ومن دعوات محامي الدفاع عن الحقوق المدنية بمعاقبة شعب متهم "باعتداء إرهابي" أو دعوات "صد العدوان بترحيل الرعايا وقطع العلاقات الدبلوماسية".

"
كشفت الكرة المستديرة بين بلدين عربيين في أسبوع، هشاشة السلطة السياسية التي بلغت حاجة الغزو الهمجي في مباراة كرة قدم, وكشفت عن مخاطر غريزة القطيع في نُخبها الثقافية وعن ضراوة بدائيتها في مؤازرة السلطة
"

كشفت الكرة المستديرة بين بلدين عربيين في أسبوع، هشاشة السلطة السياسية التي بلغت حاجة الغزو الهمجي في مباراة كرة قدم لتحقيق مجد الوصول إلى العالمية، واصطناع مشروع وطني وشرعية وفاق سياسي واجتماعي داخلي. وكشفت عن مخاطر غريزة القطيع في نُخبها الثقافية وعن ضراوة بدائيتها في مؤازرة السلطة السياسية وفي افتعال حرب "قومية" بين الأشقاء.

لكنها كشفت في المقابل عن عمق مكوّنات تشابك الشعوب في العالم العربي وعن إحساسها المشترك بمخاطر غريزة القطيع. ففي وهج غزو السلطة ونخبها الثقافية انطلقت حملات إدانة الشباب العربي على المواقع الإلكترونية وعبّرت نسبة كبيرة في استطلاعات الرأي المنحازة إلى بدائية السلطة عن رفضها قطع العلاقات الدبلوماسية. ثم تراجع الكثير من ضحايا التضليل عن تسرّعه في التعبير عن فورة الأعصاب.

وفي كل الأحوال لا تدل أحداث الشغب المحزنة والهتافات الشعبية المحبِطَة على عمق شقاق شعبين شقيقين. فالمباريات الساخنة وتجمعات الجمهور الحاشد، مرتع خصب لفورة الغرائز وتنفيس الإحباط والأحقاد بالعنف أحياناً.

لكن مسؤولية السلطة توجب عليها ضمان الأخلاقيات الرياضية الودية في إطفاء بؤر الغرائز والشغب. ومسؤولية النخب الثقافية مراقبة السلطة وتقويم أدائها في مسؤوليتها. وعلى العكس من ذلك أشعلت السلطة ونخبها الثقافية لهيب الأحقاد تعبيراً عن هشاشة شرعيتها وعن مخاطرها في غريزة القطيع.

وقد فوتت النخب الثقافية والفكرية والروحية المستقلة عن السلطة فرصة أخرى لإثبات تحررها من ضغوط غريزة القطيع. فبيانات اتحاد الكتاب والمثقفين، في دعوتها إلى التهدئة والعقلانية، أخذت الناس والسلطة والنخب الثقافية في جريرة مسؤولية واحدة عمومية ومجهولة وهو ما كان يسميه حكماء العرب لزوم ما لا يلزم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.