السفسطائيون والوضع العربي المعاصر

السفسطائيون والوضع العربي المعاصر / حامد الدباس




 

العلاقة بين الفكر والواقع
مفهوم السفسطة
السفسطة والواقع العربي المعاصر

 

العلاقة بين الفكر والواقع علاقة جدلية يحددها مستوى التطور الفكري والمادي الذي يحكم المجتمع ومدى تقدمه الثقافي، ودرجة الوعي التي تنتشر بين مختلف قطاعاته المجتمعية والعلاقات البينية بين أفراد المجتمع والقيم السائدة في هذا المجتمع.

العلاقة بين الفكر والواقع
فإذا كانت درجة الوعي عالية كان الفكر هو الذي يسيطر على الواقع ويوجهه بمختلف جوانبه، وهذا يتضح بصورة جلية في الأديان التي تؤسس المجتمعات على الفضائل والقيم العليا وتقودها إلى الأفضل وتسعى الفلسفات المختلفة إلى ذلك في كثير من الأحيان.

أما إذا كان المجتمع متخلفًا ومحكومًا بواقع مادي مهيمن وإطار ثقافي مضطرب فإن هذا الواقع المشوه هو الذي يملي الجوانب الفكرية على المجتمع في مختلف جوانب الحياة وبالتالي تنتشر السلوكيات المنحرفة، وقد تتطور لتصبح محل تقديس بين أفراد هذا المجتمع.

وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ لمجتمعات سيطرت عليها رذائل حتى عرفت بها، بسبب غلبة النزعات المادية على منظومات القيم التي يمكن أن توجه هذه المجتمعات إلى الأفضل ومن أبرزها الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي انهارت بسرعة مذهلة بسبب انهيار منظومتها القيمية تحت ضربات قبائل الهون المتوحشة.

"
منذ القرن السادس قبل الميلاد بدأت الإرهاصات الفلسفية لدى اليونان تحاول تفسير العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ونشأت لذلك العديد من النظريات والأفكار الفلسفية التي بدأها طاليس ثم توالت المحاولات الفلسفية
"

لقد بدأت الفلسفة بصورة منتظمة وذات أسس فكرية ومنهجية في اليونان القديمة، مع العلم بأن الديانات الشرقية في العراق القديم ومصر القديمة والصين والهند كان لديها ثقافات وأفكار متقدمة تتضمن جوانب مهمة من الأسس الفلسفية التي نادى بها اليونان، ولكن اليونانيين أعطوها السمة أو الطابع الفكري المنظم، الذي راح يبحث في الكون كما يبحث في الأرض والإنسان.

فمنذ القرن السادس قبل الميلاد بدأت الإرهاصات الفلسفية لدى اليونان تحاول تفسير العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ونشأت لذلك العديد من النظريات والأفكار الفلسفية التي بدأها طاليس الذي قال إن أصل الأشياء من الماء، ثم توالت المحاولات الفلسفية وتنوعت محاولة تفسير العالم الذي يعيش فيه البشر.

مفهوم السفسطة
تزاوج التطور الفكري مع الازدهار المادي ونشأ بينهما ما عرف بالديمقراطية الأثينية التي أتاحت لكل الناس ومنهم المواطن الأثيني العادي للمرة الأولى الفرصة لأن يشارك في الحكم أو على الأقل في تقرير مصيرهم من خلال الانتخابات التي كانت تجري لحكم أثينا، مما خلق التنافس الشديد بين الناس للوصول إلى الحكم.

ولذلك تطورت الوسائل التي تساعد هؤلاء على الوصول إلى هذه المناصب العليا، وكان من هذه الوسائل ما عرف في القرن الخامس قبل الميلاد بالمدرسة أو الفكر السفسطائي، المبني في المقام الأول على القدرة البلاغية المميزة من أجل التأثير في الناس للوصول إلى الأهداف، فيما يعرف في الوقت الحالي بالحملات الانتخابية، ولذلك عرف عدد من هؤلاء السفسطائيين الذين يتقاضون الأجر والذين سعوا إلى تطوير وسائلهم بأي صورة كانت، من أجل الوصول إلى غاياتهم ولو كان ذلك على حساب الحقيقة والقيم والفضائل.

وقد طوروا القدرات البلاغية الرفيعة والجدل والخطابة المؤثرة التي تسعى إلى الفوز بغض النظر عن الحقيقة، حتى كانت لديهم القدرة على إقناع الشخص بالقضية ونقيضها في الوقت نفسه، مما خلق جيلاً لا يهمه إلا المنفعة الشخصية ولو كان ذلك على حساب المجتمع الذي يعيش فيه، وهو ما أوجد الأنانية الفردية الساعية إلى اعتبار الفرد ذاته هو الأول والأخير وهو مقياس الأشياء من حوله, فالصواب ما يراه الإنسان الفرد صوابًا والخطأ ما يراه الفرد خطأ.

ولذلك فالمعرفة في النهاية موجودة داخل الفرد وليس خارجه، ومن هنا لم يعد هناك وجود للقيم المشتركة التي تجمع الناس حولها، فأصبح الناس جزرًا معزولة كل يهتم بما يخصه فقط، ولم يعد هناك خطأ وليس هناك رذائل، فقد تساوت النقائض عندهم لأنها في الأصل ذاتية.

وقد جاء جورجياس وهو أحد أبرز السفسطائيين ليضع مبادئ لهذه الأفكار التي تطورت بعد انتشارها في المجتمع الأثيني ليقول معززًّا النزعة الفردية المغلقة التي تعد أساس كل شيء، إنه لا شيء موجود، وإذا وجد شيء فلا يمكن أن يعرف، وإذا أمكن أن يعرف فمن المستحيل أن يتم توصيله إلى الغير.

السفسطة والواقع العربي المعاصر

"
على الرغم من الكوارث التي تعيشها الأمة العربية منذ عقود فإن هناك إنكارا غريبا لوجود هذه الكوارث ناهيك عن السعي للتعامل معها، وإذا وجدت هذه الكوارث فمن الصعب وقد يكون من المستحيل أن نعرفها أو نسعى إلى التعرف عليها
"

يبدو أن المجتمعات البشرية خلال مراحل تاريخية معينة تقع في مثل هذه الأوضاع التي كان اليونانيون جريئين للتعبير عنها وتعليمها للناس والوعي بها وتوظيفها لمصلحتهم، في حين قد تمر بها شعوب وتعيشها واقعًا دون أن تعيها فكرًا أو تدركها واقعًا.

فالواقع العربي المعاصر يعيش هذه الأفكار الثلاث بصورة ملفتة للنظر، فعلى الرغم من الكوارث التي تعيشها الأمة منذ عقود فإن هناك إنكارا غريبا لوجود هذه الكوارث ناهيك عن السعي للتعامل معها، وإذا وجدت هذه الكوارث فمن الصعب وقد يكون من المستحيل أن نعرفها أو نسعى إلى التعرف عليها.

ولهذا لم نتمكن حتى الآن من تشخيص الداء الذي حل بهذه الأمة وما زال يعصف بها على مختلف الصعد، رغم التكرار المذهل لهذه المشاكل والكوارث حينًا بعد حين، حتى إن بعضها يعود ليقع مرة بعد مرة، وما زلنا نعانيها دون أو ندرك أبعادها أو حتى كيفية تخطيها، وإذا تم التعرف على هذه المشاكل والأدواء فتبقى هذه المعرفة مرتبطة بمن يعرفها للعجز الهائل عن السعي إلى التواصل مع الآخرين.

ولعل أخطر صور السفسطة التي يعيشها الواقع العربي المعاصر ما نراه من المواقف المتناقضة للأنظمة السياسية والمؤسسات الإعلامية والثقافية وبعض المثقفين تحديدًا الذين يقفون في صف الأنظمة السياسية للدفاع عنها في مواقف جوهرها سفسطائي، معبر عن الأنانية الذاتية والقصور الفكري في معرفة الحقيقة أو العجز الشامل عن اتخاذ الموقف الصائب في الزمن المناسب لمناصرة الحقيقة، ولكن ما رأيناه أن مفاهيم الحق ونصرة المظلوم ومواقف الأشقاء ومصلحة الأمة، ما عادت موجودة لأن الواقع أضحى مغلفًا بجوهر السفسطة في المعرفة والفعل والتواصل مع الآخرين.

وقد انعكس كل ذلك على الفرد العربي الذي يتضح في انكفائه وعجزه عن التعاطف مع الآخر أو السعي إلى الفعل لتغيير الباطل، فهو يتعامل مع الواقع على أنه غير موجود أو أنه قدر لا راد له ولا فكاك منه وبالتالي لا يمكن تغييره، ربما عجزًا عن فهمه، وإذا فهمه فالأخطر عدم السعي إلى تغييره إلى الأفضل أو إلى الوضع الصائب، ولذلك تساوت لدينا النقائض التي عانى منها المجتمع الأثيني، فالفعل الطيب يتساوى مع الفعل الشرير، والذي يفعل نعامله كما نعامل الذي لا يفعل، والمسيء يتساوى مع المحسن، والمبدع لا فرق بينه وبين الكسول الخامل.

"
هل يؤدي واقعنا السفسطائي إلى استفزاز وإنهاض همم مفكرين عرب معاصرين يشخصون الداء ويصفون الدواء للنهوض من جديد بعد أن علا الصدأ نفوسنا، أم يوغلون في السفسطة ويفتحون مدارس لتعليمها
"

لم يعد انعكاس أفكار السفسطة مرتبطا بواقعنا السياسي فحسب بل طغى على كل جوانب حياتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ورحنا نجسد الأنانية السفسطائية في وجهها القبيح، مع العلم بأن هذه المدرسة أو هذا التيار اليوناني قد أثار عددًا من المفكرين الكبار للوقوف في وجهه وتصحيح مسار الفكر والسلوك في مجتمعهم ووقف التدهور الذي كان يستنزف مجتمعهم، وهؤلاء المفكرون أبدعوا أعظم الأفكار في الفكر الفلسفي الإنساني، ليقودوا أثينا إلى حكم العالم في أقل من نصف قرن, وأقصد بذلك سقراط وأفلاطون وأرسطو الذي كان مربيًّا ومعلمًا للإسكندر المقدوني الذي أخضع العالم القديم وحطم أعظم الإمبراطوريات في أقل من عشر سنوات بأقل عدد من الجنود.

فهل يؤدي واقعنا السفسطائي إلى استفزاز وإنهاض همم مفكرين عرب معاصرين يشخصون الداء ويصفون الدواء للنهوض من جديد بعد أن علا الصدأ نفوسنا، أم يوغلون في السفسطة ويفتحون مدارس لتعليم السفسطة حتى يصبح الواقع أسوأ في هذا العصر، عصر العولمة أو السفسطة العالمية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.