تساؤلات على هامش الانقلاب السادس في موريتانيا

تساؤلات على هامش الانقلاب السادس في موريتانيا



الخليل النحوي

عرفت موريتانيا في تاريخها المعاصر ستة انقلابات ناجحة أحدثت كلها تغييرا في قمة هرم السلطة، وقد دأبت هذه الانقلابات على الإفصاح في بيانها الأول عن مسوغات الانقلاب، وعن مشروع سياسي ما يفهم من تسميتها كالإنقاذ أو الخلاص الوطني.. وكلها تصرح بصفتها العسكرية إلا الانقلاب السادس، فإنه خرج على المألوف، فلم يفصح عن هويته العسكرية ولم يعلن عن مشروع سياسي ما في تسميته، ولم يقدم أي مبرر للانقلاب، وإنما اكتفى بإلغاء إجراءات كان قد أصدرها رئيس البلد المدني في بيانه الأول.

يناقش المقال التالي أسباب هذا الانقلاب ويطرح أسئلة كثيرة حوله يمكن الاطلاع عليها من الروابط التالية:

– انقلاب ليس كغيره
– حلم لا يخلو من كوابيس
– تهم بلا بينات


لننظر الآن في اتهام رئيس الجمهورية سيدي محمد بن الشيخ عبد الله بالفساد والرشوة وتبديد المال العام.

ألم يسنّ الرئيس "سيدي" لأول مرة في تاريخ البلاد سنة التصريح بالممتلكات حتى يقال للمسؤول عن بينة: من أين لك هذا؟ ألم يبدأ في ذلك بنفسه، ثم يحول مبادرته إلى قانون بإجازتها عند البرلمان؟

تهم بلا بينات

"
رئيس الجمهورية يؤسس ويبني علاقات ثقة يرميها بذرة حيثما وجد تربة طيبة، ومن شأن من يبذر أن ينتظر الحصاد.. وهو يرفع صوت بلده ويحجز له مقعدا في المقدمة ويطلب له مجدا أسمى من الخبز
"

ألم يتنازل عن خمس راتبه للخزينة العامة طواعية ليقتدي به في ذلك وزراؤه وكبار معاونيه؟ ألم يبادر بالترتيب لتأسيس محكمة العدل السامية حتى لا يكون أي مسؤول مهما علا منصبه بمنأى عن المقاضاة؟ ألم تسدد أجهزة الأمن تحت إمرته ضربات قوية إلى تجارة تهريب المخدرات؟ أهذا سلوك رجل مرتش وفاسد؟

هل كان سيدي محمد بن الشيخ عبد الله يؤدي دورا في مسرحية هازلة عندما جمع الولاة لينذرهم من مغبة الفساد وليقول لهم إن خدمتهم للناس بأمانة وإخلاص ستكون المعيار الأساس في تقييم أدائهم؟ هل كان يمثل حينما وقف في ملأ حاشد يحذر المسؤولين، على رؤوس الأشهاد، من مغبة العقاب والفضيحة معا، إذا هم خانوا الأمانة؟

أليس هو ذلك الرجل الذي كان كثيرا ما يهتف إلى معاونيه أو يستدعيهم ليطلعهم على خبر بلغه عن محاولة ما للغش وخيانة الأمانة، ويطلب منهم التحقيق العاجل واتخاذ الإجراءات الرادعة المناسبة؟

أذكر جيدا -وهذا مجرد مثال- أنه اتصل بي ذات يوم من طوكيو، وكان الوقت هناك قد تجاوز الحادية عشرة ليلا، ليطمئن على حسن سير برنامج التدخل الخاص، وكان يتسقط أخباره في الغالب بشكل يومي.

صارحته يومئذ بأننا اكتشفنا اختلالات تحتاج إلى معالجة عاجلة حتى لا تتكرر، وذكرت له أن اللجنة المكلفة بتنسيق عمل البرنامج اختلفت بشأن مدى ملاءمة الإعلان عن هذه الاختلالات، فإذا به يصر بجزم وقوة على أن نكاشف الناس بالحقيقة كاملة وأن لا تقع التغطية على أي شخص، أيا كان مستواه، إذا أثبتت التحريات تورطه في التحايل على أرزاق الناس.

أذلك سلوك رجل ينشر الفساد والرشوة، كما نسمع اليوم في وسائل الإعلام الرسمية؟

نعم، يستكثر بعض إخواننا على رئيس الدولة أسفاره لتلبية دعوات قادة آخرين أو حضور مؤتمرات، ويطالبونه بكشف حساب عن كل سفر، وكأنه طفل من أطفال قارتنا السمراء يبتعثه شيخ ذو عسرة في الصباح، ليتكفف الناس على قارعة الطريق، ويسأله في الرواح عما جلب من النقود أو من فتات الموائد؟

مهمة رئيس الجمهورية أسمى من مهمة "المتسول" على قارعة الطريق أو النادل في مطعم للوجبات السريعة.. مهمة رئيس الجمهورية يفهمها الأطفال الذين ينشدون في المحضرة مع امرئ القيس:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني -ولم أطلب- قليل من المال
   ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

رئيس الجمهورية يؤسس ويبني علاقات ثقة يرميها بذرة حيثما وجد تربة طيبة، ومن شأن من يبذر أن ينتظر الحصاد. رئيس الجمهورية يرفع صوت بلده ويحجز له مقعدا في المقدمة ويطلب له مجدا أسمى من الخبز، على أنه مجد يطعم ويسقي ويكسو، ولكن بشرف..

ألم يحمل الرئيس المرحوم المختار بن داداه عصا التسيار والدولة أقل موارد وأضعف جندا وأقل عددا ليكسب لموريتانيا موقعا يليق بها في القارة الإفريقية وفي العالم؟ ألم يُعْرض بإباء عن قبول "فاتورة" حضوره مؤتمر القمة العربي في القاهرة، ليكسب للبلاد من وراء وقفة الإباء تلك مجدا أكبر ودعما أوفر؟

ماذا تريدون اليوم من رئيس الجمهورية سيدي محمد بن الشيخ عبد الله أن يفعل إذا استهوت تجربة موريتانيا أصدقاءها وأرادوا بدعوة رئيسها أن يعبروا عن إعجابهم بهذه التجربة وتقديرهم لهذا الرئيس؟ أتريدونه أن يقول لمن يدعوه: قل لي أولا ما ذا ستدفع لي؟ أي بلد يحترم نفسه يدير دبلوماسيته الرئاسية بهذا الأسلوب؟ ما الذي يتوقع الناس كسبه من رفض رئيس الجمهورية تلبية الدعوات التي توجه إليه؟ أن يوفر على الخزينة ملايين؟ ألا يعلمون أنه قد يجعل موريتانيا تخسر بالمقابل أضعاف أضعاف تلك الملايين، بل وتخسر ما هو أهم من القرش الأبيض؟ أم يظنون أن رئيس الجمهورية كان يشد رحله وينيخ راحلته بباب أي كان دون سابق دعوة؟

ثم من قال إن دبلوماسية الأسفار الرئاسية لم تعد بخير على البلد؟ أليس في ذلك الادعاء تبخيس لعلاقات موريتانيا بأشقائها وأصدقائها وطعن في مصداقية هؤلاء الأشقاء والأصدقاء؟ ألا يعلم الذين يريدون رئيس الجمهورية قعيدة بيت، حرصا على موارد البلد، أن أسفار الرئيس ساهمت في تعزيز صورة موريتانيا التي انطبعت في الأذهان عام 2007 (وإن بدأت تتشكل قبل ذلك)، وأن هذه الصورة ساهمت في جلب استثمارات ضخمة للبلد، بعضها شاخص على الأرض وبعضها كان في الطريق؟

في أي عهود موريتانيا استطاعت الدولة أن تستقطب في ظرف سنة واحدة أو تزيد وعودا والتزامات بالدعم والاستثمار تناهز أربعة مليارات من الدولار؟

لماذا نتجاهل دور هذه الزيارات في تعزيز موقع موريتانيا في بعض المنظمات وفي تحسين علاقاتها بجوارها، وفي تخفيف عبء المديونية عنها، وفي التسويق لمشروعاتها الاقتصادية الكبرى وفي جلب الاستثمارات العمومية والخصوصية؟ وكم ستبدو فاتورة تلك الأسفار هينة إذا قيست بما فتحته للبلاد من آفاق واعدة!


"
ما يتجاهله من يوجهون إلى الرئيس هذه "التهم" هو أن الإقصاء والتهميش ومصادرة الحريات هي التي تصنع الإرهاب والغلو، وأن موريتانيا في ظل حكم الرئيس "سيدي" بسطت الحرية للجميع ورخصت لكل الأحزاب التي توفرت فيها الشروط القانونية المطلوبة
"

بقيت "تهمة كبيرة" يهمس بها بعض خصوم الرئيس سيدي محمد بن الشيخ عبد الله في آذان "الآخرين"، فالرجل متهم عند هؤلاء بعدم الأهلية لـ"محاربة الإرهاب".

ولهم -فيما يذهبون إليه- حجج "دامغة"، فالرجل رخص -كما يقولون- لحزب إسلامي وأفسح له في السلطة، وجعل الجمعة عطلة الأسبوع، وصلى مع الناس في الجوامع، بينما كان أسلافه يقتصرون على صلاة العيدين في الجماعة، بل إنه أوغل في "التطرف" حين بنى مسجدا في القصر الرئاسي وحج البيت في عام حكمه الأول!

ما يتجاهله من يوجهون إلى الرئيس هذه "التهم" هو أن الإقصاء والتهميش ومصادرة الحريات هي التي تصنع الإرهاب والغلو، وأن موريتانيا في ظل حكم الرئيس "سيدي" بسطت الحرية للجميع ورخصت لكل الأحزاب التي توفرت فيها الشروط القانونية المطلوبة، وأنه ليس من بين هذه الأحزاب حزب يدعي احتكار الإسلام لنفسه دون غيره، بل ولا حزب إسلامي بالتسمية، هذا مع أن أحدا لم يطعن في ديمقراطية أوروبا بسبب وجود أحزاب مسيحية معلنة ومشرعة وحاكمة أحيانا.

وما يتجاهلونه هو أن الرئيس مواطن موريتاني من حقه، ومن حق العاملين والمقيمين معه أن يمارسوا شعائرهم، ويصلوا في المساجد، كما يصلي المسلمون العابرون وغيرهم في مصليات أورلي وشارل ديغول ومساجد ومصليات باريس ولندن التي تعد بالمئات..

وما وجه الغرابة في أن يكون يوم الجمعة عطلة في موريتانيا، طبقا لرغبة العمال الموريتانيين، وكما هو الشأن في الكثير من البلدان الإسلامية؟ ولماذا نستغرب أن يكون رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية مؤمنا يصلي ويحج، ويتحرى الصدق والوفاء، ولديه بقية أخلاق وشيء من التقوى؟

لا يعني ذلك البتة أن قائمة الاتهام تنتهي عند هذا الحد، فما أكثر التهم وأخطرها بعد كل انقلاب، لكنها نماذج شاهدة.. ولا يعني ذلك البتة أنه لم تكن هنالك أخطاء ولا مشكلات.. لكن هل كانت المشكلات قابلة للحل ما بين غمضة عين وانتباهتها؟ وهل كانت الأخطاء غير قابلة لـ"التصحيح" بأسلوب آخر؟

بأي منطق ننتظر من رئيس جمهورية أيا كان أن يعالج في سنة عوائق ومشكلات تراكمت على مدى العصور، حتى لو كان خاتم سليمان في إصبعه، وعصا موسى بيمينه؟

بأي منطق نفكر اليوم في محاكمة رجل، بـ"جرائم" لم نمنحه الوقت الكافي لارتكابها؟

هل كان الرؤساء الذين تداولوا الكرسي على مدى نحو نصف قرن ملائكة أبرياء وكان هذا الرئيس الذي حكم عاما واحدا شيطانا فظا غليظا بالصورة التي رسمت له خاصة بعد السادس من أغسطس/آب؟

ثم هب أن رئيس الجمهورية لم يعمل خيرا منذ أن انتخب، بل استفرغ جهده طوال خمسة عشر شهرا في الفساد والارتشاء وتعطيل المؤسسات وتبذير المال العام، فهل يكفي ذلك ليصدر عليه حكم غير معقب بأنه لا يستطيع أن يحكم البلد؟

هل كان المشرع على خطأ حين افترض أن الفترة اللازمة لإصدار حكم على رئيس جمهورية وسحب الثقة منه هي فترة خمس سنوات؟

ألم يكن من حق الموريتانيين الذين صوتوا لهذا الرئيس أن يحترم لهم اختيارهم، خطأ كان أم صوابا، إلى أن تقوم البينة على أن هذا الاختيار كان خطأ محضا لا سبيل إلى تقويمه في الأجل المسمى، ثم تتاح الفرصة لهؤلاء ولغيرهم لـ"تصحيح اختيارهم" بالطريقة التي مارسوه بها أصلا؟

"
من واجبنا أيا كانت مواقعنا ومواقفنا السياسية والفكرية أن نعمل على بناء أخلاقيات سياسية جديدة نتشربها ثقافة وفكرا وسلوكا، ونحاول بها أن نتدارك بعض ما فاتنا بالسقوط الراهن لنموذج التجربة الديمقراطية الموريتانية
"

ألم يكن من حق رئيس الجمهورية المنتخب أن يمنح ما منحه الدستور ومنحه الناس من الوقت لعله "يصلح فيه ما أفسد" أو تقوم عليه الحجة؟ أليس من حق الرؤساء القادمين، أيا كانوا، أن يطمئنوا إلى أن أمامهم فرصة خمس سنوات -لا سنة واحدة- للعمل، بل وللخطأ وتصحيح الخطأ، ذلك أن من لا يعمل لا يخطئ؟

أليس من حق الناخبين أن يمارسوا سلطتهم في منح الثقة وسحبها بالوسائل الدستورية المتواضع عليها؟ أم أن شعبنا لم يشب بعد عن الطوق؟ أم أنه لا يستحق هذه "المنحة" الثمينة التي "قدمها" إليه جيشه الكريم؟ وعليه، فإن الهبة لا تنعقد في حقه بالحوز، أو أن للواهب أن يعتصر هبته متى شاء؟

ولما ذا لا نبدع إذا في السياسة ونتفق على أن فترة انتداب رئيس الجمهورية هي سنة واحدة، قابلة للتمديد لفترة ثلاثة أشهر فقط لا غير، ثم يكون للبرلمان أن يقيله، فإن لم يفعل كان ذلك للجيش، وكان له أن ينصب رئيسا، وعلى المواطنين أن يذعنوا ويسلموا ويوفروا لدولتهم موارد تحتاج لصرفها في ضروريات أخرى؟


ألا ندرك الخطر الشديد الذي يترتب على إشاعة ثقافة السب والثلب والشتم كلما ارْبَدّت سماؤنا بغيوم طقس سياسي قلَّب أو سيطر علينا الوهم بسرمدية لحظة سياسية عابرة مهما طالت؟

ألا ندرك خطورة استمراء الولوغ في أعراض الآخرين قبل التثبت والتبين، أو لمجرد أننا لا نتوقع منهم ضرا ولا نفعا في لحظة من اللحظات؟ وما هي الباقيات الصالحات التي نتوقع أن نجنيها من تضخيم الهفوات وتبخيس الحسنات، واسترخاص أصوات الآلاف المؤلفة التي وضعت ثقتها في رئيس أي رئيس، أصابت في ذلك أم أخطأت؟

أعلم أنه ليس من الضروري أن تتوافر أسباب موضوعية منطقية لتتشكل أزمة سياسية، بل إن الأزمات السياسية غالبا ما تتشكل عندما يكون المنطق غائبا ويكون العقل في إجازة.. ويكفي أن يقع ذلك في طرف -أيا كان ذلك الطرف- لتكون الأزمة..

وأعلم أن للانقلابات منطقها الشبيه بمنطق أولئك الذين لا نريد للمنقلب ولا للمنقلب عليه ولا لأحد منا أن يكون منهم، أولئك الذين ورد في حقهم: {كلما دخلت أمة لعنت أختها}..

ومع ذلك فإن من واجبنا أيا كانت مواقعنا ومواقفنا السياسية والفكرية أن نعمل على بناء أخلاقيات سياسية جديدة، نتشربها ثقافة وفكرا وسلوكا، ونحاول بها أن نتدارك بعض ما فاتنا بالسقوط الراهن لنموذج التجربة الديمقراطية الموريتانية وبالتداعيات المحتملة لما حدث على مستقبل موريتانيا وعلى آخرين من حولها، وعلى الحلم المشروع بأن ينجح أحفاد المرابطين في تسجيل هدف ثالث في ملعب التاريخ وفي تقديم هدية جديدة إلى بني عمومتهم المعاصرين.
______________________
مستشار الرئيس الموريتاني السابق

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.