نهاية الكوزموبوليتية الديمقراطية في الشرق الأوسط

نهاية الكوزموبوليتية الديمقراطية في الشرق الأوسط



ككل الظواهر السياسية في العالم الثالث، سجلت المسألة الديمقراطية نوسانا بين حدة مطلبية مثقفاتية ونوع من الحضور السياسي الدولي في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؛ نعني المرحلة الانتقالية بين نظامين عالميين أحدهما أفل والآخر لما يتبلور بعد.

"
أسس المحافظون الجدد نظريتهم عن تعميم الديمقراطية بناء على فلسفة ليو شتراوس وآلان بلوم التي تقسم السياسة إلى فلاسفة يمتلكون الحقيقة وسادة يعطون جزءا منها والرعاع أي الشعوب التي يجب أن تخضع لما يخططه السادة
"

ومع غياب الصيرورة التي صنعت الديمقراطية في الغرب كان لافتا حجم الاختلاط المثقفاتي بين مجموعة من المفاهيم؛ نعني الديمقراطية كتبادل حزبي للسلطة وكانعكاس لموازين قوى اقتصادية سياسية، وبين الحرية كمفهوم أقصى، وبين المجتمع المدني كوسيط بين الدولة والجمهور وكوسيط بين المؤسسات التمثيلية والمطالب الشعبية.

الملاحظ أنه قد غاب عن هذه المطلبية أهم عنصر في أي مسألة سياسية وهو مفهوم "الصيرورة"، ونعني هنا بدقة الانتقال من المطلبية إلى التاريخانية بما فيها من "تحاقب" زمني ومادي ومفهومي وبالتالي نظري.

كان واضحا حجم هزال هذه المطلبية، عندما أرادت أن تغيّب أو تزور صيرورة بدأت مع التحول البرجوازي في الغرب، ودور الكنيسة الذي أسس مفهوم السلطة وتصفية آثار دور محاكم التفتيش وبلورة مفهوم التسامح إثر مائتي عام من الحروب الأهلية وظهور الاستقطاب العلماني إثر استقطاب ديني طائفي عين البروتستانت في مكان والكاثوليك في مكان آخر، في فرز لم تعرفه التجربة المشرقية التي أضفت التعددية في سياق آخر أخذ عنوان أهل للذمة.

أضيفت لكل هذا حروب عمت أوروبا وساهمت في تشكيل ثنائية مفهوم الحرب والسياسة الكلاوزفيتشية مرورا بحروب قومية بلورت مفهوم الدولة الأمة، وانتهى عمليا مع الحربين العالميتين واقع الإمبراطوريات المباشرة لتكون سلسلة الحروب هذه المدفوعة الثمن -لأكثر من 600 مليون ضحية عبر ثلاثة قرون- فرصة لتشكيل مفهوم الواقعية السياسية ومبدأ السياسة الوظيفي الأداتي البراغماتي.

يضاف إلى ما سبق بلورة حقوق المرأة التي لم تكف الثورة الفرنسية ومبادؤها أن تجعلها واقعا إلا بقدر واقعية دورها في سوق العمل بعد أن خرج الرجال إلى الحرب، إذ لم يكن كافيا أن يظهر مفهوم العدالة والمساواة حتى يمنع ميرابو من أن يقول لنساء الثورة: "ماذا أفعل لكُن إذا كانت الطبيعة لم تنبت لي أثد".

بمعنى آخر لم تتجسد المرأة كإنسان سياسي إلا بناء على دور حدده ميزان القوى، فأضيف مفهوم ميزان القوى إلى جملة المفاهيم التي أسست الديمقراطية، ولعل هذا ما يفسر أن المرأة الفرنسية لم تنل حقها في التصويت إلا في أربعينيات القرن العشرين.

وأخيرا وليس آخرا، فقد أمنت الوفرة المالية المادية الاستعمارية فرصة لبناء ديمقراطية تنتقل من الإكراه المباشر إلى الإكراه غير المباشر (الضبط)، دون أن يكون في ذلك أدنى ثمن مضاف إلى الحراك الاجتماعي.

وهذا نفسه سرعان ما يعود إلى وضعيته الخام الأولى، نعني الإكراه، وذلك في لحظة الحقيقة، أي في لحظة المواجهة مع الآخر سواء أكان حضارة أو دولة أو إرهابا، وهو ما يفسر كيف توقف فرنسا -أمّ الديمقراطيات- أي مشتبه فيه أربع سنوات وكيف تبرر بريطانيا الاعتقال حتى دون مجرد السؤال لمدة ستة أشهر.

ولكن القضية الديمقراطية ليست فقط في غياب الصيرورة والاكتفاء بمطلبية بائسة ويابسة وعدوانية أحيانا تلغي الآخر كما يلغيها وربما تزيد عليه، إنما في عدم حضور الفهم الواضح للديمقراطية المعولمة المراد تعميمها لكونها نتاجا لقرار عالمي بتوحيد اللغة السياسية بين الدول، انطلاقا من مركزية أوروبية صنعت الدولة وتريد تعميم السيطرة -أي الضبط- على العالم بتعميم منتجها الصيروري السابق الذكر، أي الديمقراطية.

ولشرح هذا لا بد أن نتذكر أن تأسيس الدول بعد الحرب العالمية الثانية كان بقرار دولي توافقت عليه الدول المنتصرة بعد تلك الحرب لتعميم الهوية التي تريدها لغة للعالم، ولم تكن حملة تصفية وتشذيب وربط المنظمات بدءا من حركات تحرر الشعوب إلى الألوية الحمراء إلى الجيش الأحمر الأيرلندي ونظيره الياباني.. إلا بمثابة ضبط أخير لما تبقى من فلول من لا يتكلم اللغة الأساس أي الدولة.

وكان لا بد من منظمة دولية تضبط اللغة نفسها وتؤطرها، فجاءت الأمم المتحدة بشقيها: الثقافي، أعني الجمعية العمومية التي تفسح المجال للقول الثقافي الماكروسياسي دون أي نتاج أو تأثير، والسياسي ممثلا في مجلس الأمن الذي كرس ميزان القوى العالمي وشدد تحت الفصلين السادس والسابع القدرة على التلويح بالعصا ومن ثم استخدامها ليكون هو السياسة أو بالأحرى الماكروسياسة.

هنا ضبطت المسألة وتحولت الشعوب إلى دول تنصاع لإرادة ماكروسياسية ينظمها الكبار.

"
المشروع الأميركي ليس محض نقل أخلاقي للديمقراطية إلى دول تفتقدها، إنه بكلمة واضحة مدخل إلى السيطرة وهو ما سوف يشرحه الفلاسفة الجدد للمحافظين القدامى وسيعمل على تنفيذه السياسيون
"

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تداعى رهط من مثقفي الولايات المتحدة الأميركية، دعوا بالمحافظين الجدد، تربى بعضهم على خلفية تروتسكية تؤمن بثورة (مطلق ثورة) مستمرة، تحولت عن الاشتراكية والليبرالية إلى الديمقراطية لعدة أسباب.

أولها تعميم النموذج الأميركي على العالم كهوية سياسية، وثانيها إعادة توزيع القوى العالمية كنوع من الغنيمة الإستراتيجية وهي ما تمنحها، عبر الديمقراطية لدول لم تحقق كل المنجز الصيروري السابق الذكر، فرصة السيطرة دون الحاجة للمرور عبر الدولة ذاتها.

أسس المحافظون الجدد نظريتهم عن تعميم الديمقراطية بناء على فلسفة ليو شتراوس وآلان بلوم التي تقسم السياسة إلى فلاسفة يمتلكون الحقيقة وسادة يعطون جزءا منها والرعاع، أي الشعوب التي يجب أن تخضع لما يخططه السادة.

فالرجال المتفوقون -أي الفلاسفة- هم الذين يقدمون للقطيع كل ما يحتاجه من معتقدات دينية وأخلاقية وغيرها، رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذه المعتقدات كلها أكاذيب.

وهؤلاء "السادة" الذين يصبحون ساسة ورجال دولة، يستمرون في تلقي النصح من الفلاسفة، وحكم الفلاسفة عبر رجالهم الذين دخلوا في الحكم هو ما يسميه شتراوس "المملكة السرية" للفلاسفة.

فالفلاسفة بحاجة لأصناف مختلفة من البشر تخدمهم منهم "السادة" الذين يتلقون تدريبا عقائديا في التعليم "الخارجي للجمهور" أو التعليم العام، منهم من يدرب على الإيمان بالدين والأخلاق وحب الوطن والخدمات العامة، وبعضهم يدخل في الحكومة.

إذا المشروع ليس محض نقل أخلاقي للديمقراطية إلى دول تفتقدها، إنه بكلمة واضحة مدخل إلى السيطرة، وهو ما سوف يشرحه الفلاسفة الجدد للمحافظين القدامى برنارد لويس وفؤاد عجمي، وسيعمل على تنفيذه السادة/السياسيون أمثال زلماي خليل زاد وبولتون ورمسفيلد وتشيني.. وستسبح ببركاته الأكاديمية القادمة من هارفرد والمتشيعة على خطوط التماس بين تيار التمامية المسيحية والشتراوسية، كوندوليزا رايس.

هؤلاء لا يمكن اعتبارهم روادا لليبرالية؛ فهم ضدها حتى العظم وضد التاريخانية والنسبوية، ولهذا إذا أردنا أن نفهم عقلية تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة فإن علينا أن نراهم باعتبارهم خيارا ثالثا بين الليبرالية التي أقامت موقفا متسامحا من أفكار الآخرين، وهو غير مقبول لدى من يؤمن بحقيقته المطلقة، وبالتالي إزاء الحقيقة، حيث لكل الناس حقيقته وهو غير مقبول منهم، وبين التاريخانية التي تعتبر أن القيم متغيرة بتغير التجربة والتاريخ الخاص لكل المجتمعات ولكنهم بالتأكيد ضد النسبوية لأنهم لا يريدون إلا أن تكون الحقيقة مطلقة.

فهم يريدون أن يكون العالم كله ديمقراطيا في كل المؤسسات والنظم السياسية لتسهيل ضبط وحكم العالم معا، لكنهم لا يريدون أية ليبرالية نسبوية في القيم الاجتماعية، حيث إن الهدف هو ضبط المجتمعات أو المجموعات البشرية في المآل الأخير عبر منظومة من القيم الدينية التي يعززها (علمانيون!) لاعتبارات براغماتية محضة يمارسونها عندما تكون المسألة مرتبطة بمشروعهم، رغم رفضهم لكل قيم الحداثة بدءا من الميكيافيلية إلى البراغماتية إلى الأداتية فالوظيفية.

ينطلق المحافظون الجدد من فكرة شتراوس التي تتركز على العنصر الأول المتمثل في رؤيته بأن الديمقراطية يجب أن تكون قوية بصورة كافية حتى تستطيع أن تقف في وجه "الطغيان" الذي يشكل الخطر الأمثل على البشرية.

هذا التوصيف الأخلاقي لا يكتفي بالبقاء أمام الجرعة الأيديولوجية الأخلاقوية التي ستدغدغ الرعاع من الشعوب بمن فيهم المثقفون المطلبيون، لأنه سينتقل عمليا إلى نموذج آخر هو تنميط العالم تمهيدا لإحكام السيطرة عليه.

وهو ما سيقدمه برنارد لويس وفؤاد عجمي في نظريتهما عن ضرورة إنهاء القومية العربية وإحكام السيطرة على الشعوب في المنطقة وبالأخص في الشرق الأوسط عبر إنهاء الأنظمة المركزية التي وحدت ما لا يوحد وهو: الطوائف والعشائر والقبائل والأديان.. وكل التظاهرات ما قبل القومية.

"
عبر تدمير الأنظمة المركزية بشعارات أخلاقية كإزالة الطغاة يمكن العودة بمنطقة الشرق الأوسط إلى وضعها الأساسي أي إلى التشظي الما قبل القومي، الديني والطائفي والعشائري والقبائلي
"

وبالتالي وعبر تدمير هذه الأنظمة بشعارات أخلاقوية كإزالة الطغاة يمكن العودة بها إلى وضعها الأساس أي إلى التشظي الما قبل القومي: الديني والطائفي والعشائري والقبائلي أو المناطقي والحاراتي.. أي إلى العماه (Chaos) الذي ليس هو الفوضى كما يترجم خطأ.

فهم يرون هذه المنطقة كعماه غير قابل للتنظيم، ويعتبرونها ساحة عمليات للانتقال إلى النظام العالمي الذي يرونه أحادي القطب، يعكس ميزان القوى النوعي الذي تأسس بعد انتصار الولايات المتحدة الأميركية على الاتحاد السوفياتي منفردة!

وهذه هي طريقة الأميركيين في ضرب المناطق الضعيفة والغنية لإرهاب الكبار من ناحية، والإمساك بصنبور وشريان حياتهم؛ نعني النفط، ودفعهم إلى حافة المأزق برفع سعره إلى الحد الذي أفلت منهم وأغرق العالم في تجويع وإفقار متتال لا يتوقف.

يرى شتراوس أنه لا يجوز للسياسة أن تحرم استصدار أحكام بالقيم الخيرة، وأن من واجب الأنظمة الخيرة أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأنظمة الفاسدة.

فالطغيان والتوتاليتارية كلاهما عند شتراوس نتاج لنمو ترافق مع رفض القيم الأخلاقية والفضيلة.

وهذا نتاج -كما أسلفنا- للتاريخية الفلسفية عند ماركس وهيغل التي أنتجت رفضا لأي قيمة عليا، ولليبرالية النسبوية التي اعتبرت أن كل المواقف الأخلاقية نسبية في المآل الأخير، مما أفقد المجتمعات الصناعية والمعصرنة في كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أهمية الاعتراف بمرجعية عليا أخلاقية تكون مقياسا للخير دون الشر.

هذا هو البعد الأيديولوجي المفرط بتداول نظرية "القوة لأجل" أو "القوة لغاية"، وهي التي على أساسها يتم نقد الأمم المتحدة ومجلس الأمن لعدم قدرتهما على ردع الخطر الاحتمالي، وهو ما أسس لفكرة الحرب الاستباقية، تماما كما فعلت عصبة الأمم المتحدة مع ألمانيا عندما اعتمدت المسايرة والاحتواء والحوار مع نظام قمعي نازي خطير على الديمقراطية.

وهذا ما نظر له ريتشارد بيرل (أمير الظلام) كثيرا قبل الحرب على العراق التي حولت النظام الطاغية -حسبما روجوا- إلى عماه خلاق.

كالعادة، تصنع سياسات بعض الدول الصغيرة بالتماهي مع المتسلط الذي استلم زمام أمور العالم إثر تغير ميزان القوى؛ فإذا كانت الهوية العالمية الموحدة بالإكراه العالمي قد أسست لنظام عالمي الدولة رائزه ومرجعه؛ فأسست كاريكاتيرات دول دون سياقها الحداثي الذي أنتجها في الغرب، فإن هذه الهوية العالمية المتجددة اليوم في نظام عالمي تحاول إنتاج الهوية الملحقة الجديدة الديمقراطية.

ومرة أخرى تحاول ذلك بكاريكاتير يتراوح بين العماه الخلاق الذي لا يكترث -باسم الديمقراطية- بأرواح البشر، وبين ديمقراطية ترتكس بدولها إلى المرجعيات الطائفية والقبلية.. وما قبل القومية وتحقق التشظي الذي سيجعل المرجعية لهؤلاء للولايات المتحدة وليست لأوطانهم، كما يؤكد على ذلك الثنائي لويس وعجمي دون أي وازع، معتبرين لبنان الأنموذج الأرفع لديمقراطية كزموبوليتية مرتبطة بالخارج.

عالم بأكمله يراد أن يتغير ويتخذ منطقة الشرق الأوسط ساحة عملياته واستعراضه، والديمقراطية شعاره الأخلاقي البراق الذي يستهوي المثقفين السذج.. والرعاع (الشعوب)، كما يقول برنارد لويس دون أن يرف له جفن ودون أن يتنبه له بعض عتاة مثقفي الديمقراطية في بلدان المطلبيات، بل ويتواطؤون معه أحيانا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.