حتى يغيروا ما بأنفسهم..

حتى يغيروا ما بأنفسهم..


حجم الصدمة التي عبر عنها الشارع العربي من تصريحات باراك أوباما أثناء زيارته لمنطقة الشرق الأوسط يؤشر على أمور عدة، منها غياب الخبرة الانتخابية عن العقلية العربية، لأن الخبرة في حقل بهذا التعقيد لا بد أن تكون تراكمية عبر ممارسة طويلة ومن أكثر من وجه مقاربة.

"
إن لم يتمتع أوباما بصلابة كافية في فرض رؤيته على المسرح السياسي كالمخرج المبدع، فسينتهي به الأمر إلى أن يخرج من ذاته الحقيقية التي أحبها الناس ليدخل في "الدور"
"

ولا تتأتى هذه الخبرة من "بروفة" أحادية الإطلالة وغير مكتملة العناصر كما هو حال الغالبية الساحقة من النخب والجماهير العربية التي تشارك في مظاهرات تسمى انتخابات تنتهي باعتقال الصناديق وتنصيب مرشحي الأنظمة الحاكمة!

والغريب هنا أن بعض من يفهم جولة أوباما على أنها جزء من حملته الانتخابية يحاسبونه وكأنهم ناخبوه في حين لا يحاسبون حكامهم الذين لم ينتخبهم أحد!

مدى تطابق أو تناقض ما قيل في جولة كهذه مع البرنامج الأصلي للمرشح أمر يعود لعاملين، الأول مدى "نزاهة" وصلابة المرشح نفسه، ما يحدد مدى قبوله أو رفضه التناقض مع نفسه لأجل المنصب.

والثاني المتغيرات التي تطرأ على الساحة السياسية التي تحتم على كل السياسيين العمل ضمن ما تسمح به, وذلك لاعتبارات براغماتية، بغض النظر عن مبدئية أو نفعية اللاعبين فيها.

وأهم تلك الاعتبارات أن السياسة صراع مصالح الأمم والدول, قد تتخلله حالات صدام كما تتخلله حالات توافق بين تلك المصالح.

والكتلة الصلبة أو المكون الرئيس لبرنامج أوباما ليس ما تفوه به في جولته في منطقتنا خاصة, بل هو ما طرحه في حملته للفوز بترشيح حزبه, وهو قائم على "التغيير" في السياسات الداخلية والخارجية بما يصوب أخطاء تراكمت داخليا في غياب المراجعات الجذرية, وأخطاء أكثر فداحة ارتكبت ضمن مغامرات في الخارج لم تحسب جيدا حساب الربح والخسارة.

وهذا البرنامج نجح, حسب إجماع المحللين، ليس فقط بنصه المجرد, بل أيضا لما لمسه الناخبون من "نزاهة" في شخص أوباما شكلت رافعة إضافية لبرنامجه وأهلته لأن يفوز رغم كل محاذير إرث سياسي أميركي محافظ ومثقل بالانحياز العرقي والديني خاصة.

ومن هنا فإن مجازفة أوباما بما يناقض برنامجه هذا مستبعدة, لأسباب تتعلق بتلك "النزاهة" ووجوب الحفاظ عليها، ولكن الأصح أن أوباما مضطر, براغماتيا, إلى التمسك بهذا البرنامج كي يكمل مشواره إلى البيت الأبيض, ومن بعده إلى دورة رئاسية ثانية, ثم ليتبوأ مكانته في التاريخ الأميركي والعالمي الذي يبدو أنه دخله ببطاقة شرف لم تتسن إلا لقلة من قبله.

ولاستيفاء هذا الجزء من حديثنا, وقبل أن نعود إلى تحليل مجريات جولة أوباما موضوع الحديث, يجب علينا أن نشير إلى خطرين نجزم بأنهما سيواجهان أوباما, ونأمل ألا يسقط في أي منهما.

الأول, أن يقع الرئيس الشاب القادم الأول من أوساط المهمشين إلى دوائر النخب الحاكمة في فخاخ الإلحاق عبر التخويف بالتهويل، خاصة أن تلك النخب لن تألو جهدا في توظيف كل وسائله.. وبعضها قد بدأ فعلا في مهاجمة أوباما من باب "افتقاره للخبرة"، حسب زعمهم.

وغني عن القول أن الخبرة السيئة أخطر من غياب الخبرة, كما أن الخبرة اللازمة لبرنامج يقوم على "التغيير" هي غير خبرة الولاء والمطاوعة للإرث القائم حاليا.

ولكن "قلة الخبرة" في حقيقتها ليست أكثر من زعم يؤشر على تفعيل آليات ذلك المسرح السياسي المفعم بالمزاعم, أو بلغة المسارح, "الحقيقة المتوهمة" التي تعمل على جعل ما يقدم على المسرح من مادة مختلقة شيئا أكثر تأثيرا على المشاهد من الحقيقة نفسها كما تعاش في الشارع والبيت.

وإن لم يتمتع أوباما بصلابة كافية لفرض رؤيته هو على المسرح السياسي (كالمخرج المبدع) فسينتهي به الأمر إلى أن يخرج من ذاته الحقيقية التي أحبها الناس ليدخل في "الدور".

وأراهن على أن أول ما سيقال لأوباما هو عبارة "ما هكذا تتم الأمور"! إذ سبق أن قيلت لي من زملائي النواب المخضرمين الذين توافدوا ضمن تحرك مبرمج, فرددت "بل هكذا تسير الأمور لتعود إلى مسارها الدستوري والشرعي"!

"
كما أصبح بوش تجسيدا للشيطان يلصق به كل ما لحق بالمتفيئين ظلال دكتاتورياتهم بانتظار مخلص, أصبح على أوباما نتيجة غياب المخلص العربي الآن أن يأتي بالخلاص فيما ظنه العرب رحلة الاستغفار عن ذنوب سلفه
"

فعبارات التخويف والإلحاق التي تتغطي بغطاء النقد الموضوعي أو تتزيا بزي النصح المجاني لا تعني كيف تتم الأمور حسب الدستور وحسب كل ما هو شرعي مما وظفه أوباما ليتبوأ صدارة العرض، بل هي تستند إلى العرف الذي تم إرساؤه، وإن كان خطأ, وبالالتفاف ودخول الأنفاق المعتمة المطولة في تحاش للطرق السريعة المكشوفة, وفي الصفقات التي لا تعلن.

ولا أبالغ إن قلت إن هذا هو ثاني أصعب امتحان لأوباما إن اجتاز امتحان الفوز بالرئاسة، وأهميته ليست فيه وحده كما هو حال الفوز بالمقعد, بل هي في كل ما سيليه، لأنه يرسي درجة صلابة واستقلال الرئيس بما يؤهله لاتخاذ القرارات الصائبة في قضايا خطيرة ستواجهه عند مفارق طرق وعرة عدة, قد يبدو الطريق إلى البيت الأبيض مقارنة بها مجرد نزهة.

هذا عن الخطر الأول, أما الخطر الثاني فهو أن يستحوذ الغرور على الرئيس الفائز لحينه في سباحة عكس التيار الأقوى, والغرور هو ما سيجعله يقف وحده في مواجهة كل التيارات التي حملته إلى موقعه هذا، لأنه لا نقطة ماء ولا نسمة هواء من هذا كله جرت لأجله شخصيا, بل لأجل أشياء أبعد وأهم.

ولكن هذين الخطرين ليسا الممرين الحتميين, فبينهما يقع الطريق الثالث, طريق من يقال إنهم صناع التاريخ في حين أنهم حقيقة: توفيق الرجل (أو الشخص كي لا نغضب النساء) المناسب للحقبة التاريخية المناسبة. والتاريخ يظل الفاعل الأكبر والأهم من الرجل.

لهذا فإن الفشل في هذه المعادلة يصيب الرجل لا التاريخ الذي لا يزيد على أن يتعثر مساره المحتوم قليلا, وتزداد كلفتة البشرية قليلا أو كثيرا!

وهذا يعيدنا إلى موضوع جولة أوباما في منطقتنا، جولته التي ركن البعض منا فيما يبدو إلى أنها يمكن أن تحمل الحل في حقيبة يد, باعتبار العقلية العربية المشكلة من تراث الدكتاتوريات، وليس من تراث الديمقراطيات التي تقوم على الفعل الجمعي.

وكما أصبح بوش تجسيدا للشيطان يلصق به كل ما لحق بالمتفيئين ظلال ديكتاتورياتهم بانتظار فرد مخلص, أصبح على أوباما (نتيجة غياب المخلص العربي الآن) أن يأتي بالخلاص فيما ظنوه رحلة الاستغفار عن ذنوب سلفه.

وحين فوجئوا بغير هذا تملكهم غضب الطفل الموعود بهدية, وبعضهم اقترف في هجومه على أوباما نفس التمييز العنصري الذي وظف لتبرير اقتراف كل جرائم الاستعمار الغربي المتواصلة ضد العرب والعالم الثالث.

وهذا النوع من الهجوم يكشف عن ضعف الثقة بالنفس, ودون الثقة بالنفس لا يمكن لأمة أن تقوم. لهذا صدمني وآلمني أن يشير كتاب جادون محترمون إلى أوباما في مقالات هازئة بلقب "أبو سمرة". وهي تسمية (لكون العرب سمرا في غالبيتهم) يقصد بها الأشد سمرة من نوع الأفارقة.

ووصف "أبو سمرة" تحديدا سبق أن اضطرني لزجر زميل نائب (ممن توصلهم الحكومات ويلصقون بالمقاعد) حين تفوه بها بصوت عال في التندر على نائب أفريقي داخل قاعة مؤتمر. ولا أريد هنا ذكر الحيثيات الأكثر إحراجا للأردن، والتي ألزمتني بذلك الزجر الصريح.

انتخابيا, نجح أوباما على الأقل في اقتسام أصوات اللوبي الصهيوني في أميركا مع ماكين، وبقيت سياساته الأصلية كما هي، وهذه حددها بداية بحساب الربح والخسارة حين قال إنه مستعد للتحاور مع إيران وحتى مع بن لادن, وإن كانت الأخيرة أوردت بخفة, فإن في مزاح السياسة جدا أكبر.

وقوله هذا أثار غضب اللوبي الصهيوني وجزء من عامة الأميركان، كما أثارت تصريحاته بشأن إسرائيل غضب العرب.

ولكننا إن أخذنا معياره السياسي ذاك, وطبقناه على خريطة زيارته للمنطقة, من زار ومن لو يزر وبأي تسلسل, فإن القادم غير المعلن يعكس نفسه بصورة أوضح.

بداية زار أفغانستان المنسية في أميركا كمعظم أنحاء العالم، ولولا إلحاح بعض العرب وأحيانا باكستان ضمن أزمات رئيسها الغاصب للسلطة لما ذكرت إلا نادرا في نشرات الأخبار.

في تلك الأرض المنسية هدد أوباما وتوعد بزيادة قواته, وبذلك زاحم "ماكين" على أصوات ذلك القطاع الذي يريد أن تحكم أميركا العالم بجيوشها.

ووفاؤه بوعده سيحتل مقدمة الأخبار حتما, ولكن تنصله منه لن يصنع خبرا رئيسا، والأمران -إضافة إلى ما ستفعله القوات الإضافية التي قد تأخذ إجازة من مواجهات العراق في محيط كابل- يبقيان بابا للتلهية أو لتبرير ما يجري في أرض الغنيمة: العراق.

"
نجاح محور الممانعة في فرض تغييرات على الأرض حتم تغير مواقف العالم تجاهه, وستمتد تداعياته إلى أبعد من دول المحور والعراق وغزة, لتطول مجمل القضية الفلسطينية وما يحاك لتصفيتها
"

والعراق هو محطته التالية ولكنها الأهم في كامل زيارته للشرق الوسط كما في برنامجه الانتخابي الأصلي، وفي العراق درس أوباما عن قرب خياراته, ومن بينها ما يتعلق بإيران أيضا, ولهذا ظل حذرا ولم يشطح بوعود لا ترتبط بالمتغيرات على الأرض.

أما إسرائيل فقد سبقت زيارته لها وتصريحاته تلك زيارة خاطفة للأردن قالت الصحافة الرسمية إنها جاءت لكون الأردن دولة "محورية" في صنع القرار في المنطقة أو في مجموعة ما يسمى بمحور الاعتدال.. مع أن مصر والسعودية جارتان أكبر وأقوى، ليس فقط في ذلك المحور المتراجع دوره, بل وفي الإقليم والعالم العربي.

وإذا تذكرنا مخطط ماكين للحل الأردني (وهو مخطط صهيوني معلن منذ ما قبل قيام إسرائيل) الذي تعمد تسريبه مؤخرا, فإن زيارة أوباما هذه التي ينافس فيها ماكين كان يجب أن تثير لدينا مخاوف أهم من فرحنا بدورنا "الإقليمي والدولي".

وكان الأجدر بالأقلام التي تهاجم أوباما أن تتحد كلها لتوجه هجمة كبرى لمشروع الخيار الأردني وتطالب أوباما بموقف علني يرفضه, وأن توقف الغزل الحكومي بجثة مسيرة السلام التي تسببت في جعل الخطر يتسلل على امتداد عقد ونصف, حتى أصبح على الأبواب.

يبقى أن أوباما لم يزر دمشق, مع أن أميركا قررت الانقلاب على نفسها والتفاهم مع محور الممانعة. وعدم الزيارة مقصود كي لا يخلط الانتخابي بالسياسي الإستراتيجي. لأن الأول ينتهي بعد أشهر, ومقابله بدأت الآن سياسة أميركية جديدة تجاه إيران, بحيث لم يعد يجدي ماكين وبوش إدانة أوباما لأنه قال إنه سيحاور أحمدي نجاد!

وأوباما ترك مهمة الاستطلاع بكل مجازفاتها لمنافسيه, وهو ينتظر المتغيرات على الأرض, وهي كفيلة بأن تبرر له الالتزام بوعوده بالحوار حين يأتي لتنفيذ "إستراتيجيته". وفي فترة الانتظار سيعطيه تغير سياسات منافسيه بعض أصوات من كانوا وعدوهم بتصلب تجاه إيران لم يعد قائما.

وغني عن القول أن نجاح محور الممانعة في فرض تغييرات على الأرض حتم تغير مواقف العالم تجاهه, وستمتد تداعياته إلى أبعد من دول المحور والعراق وغزة, لتطول مجمل القضية الفلسطينية وما يحاك لتصفيتها.

وهذا يطول الحديث عن إرهاصاته التي تعددت وتبشر بمرحلة تاريخية جديدة قيد الصنع لمن يريد أن يعمل.. أي أن شيئا لم يفت الغاضبين على أوباما.. أم هل هو غضب على أنفسهم إذ صمتوا أطول مما يجب ولم يتصدوا لتغيير "ما بأنفسهم" وعلى الأرض؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.