الحداثة الداروينية وتصاعد معدلات التصدي لها

الحداثة الداروينية وتصاعد معدلات التصدي لها



مع منتصف القرن التاسع عشر تبلورت المنظومة الحضارية الغربية برؤيتها للعالم وللآخر وللذات. وتنطلق هذه الرؤية من أن العالم في جوهره مادة، وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري ولا يمكن أن يؤخذ في الاعتبار حينما ندير شؤون دنيانا ومجتمعنا، وأنه لا يوجد شيء ثابت في الكون بما في ذلك الطبيعة البشرية، فكل شيء يتغير بشكل دائم.

وقد عرَّفت الحداثة بأنها "استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا في التعامل مع الواقع" وهو تعريف يسقط البعد المعرفي، الكلي والنهائي. وكي نعرّف الحداثة الغربية تعريفاً دقيقاً مركباً لابد من استعادة البعد المعرفي.

"
الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هي الإمبريالية الغربية التي ترى العالم باعتباره مادة استعمالية، ومصدرا للمواد الخام، والعمالة الرخيصة، وأرضا بلا شعب يمكن للغرب أن يصدر لها معظم -إن لم يكن كل- مشاكله
"

إن فعلنا ذلك سنكتشف أن الحداثة الغربية ليست مجرد "استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا" وإنما استخدامها خارج أي نطاق إنساني أو أخلاقي، ولذا لا بد من أن نعرّف هذه الحداثة بأنها "استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة (value-free) في التعامل مع الواقع".

وهذا هو البعد المعادي للإنسان الذي تم إخفاؤه عن وعي أو عن غير وعي. وانطلاقا من هذا يتحدثون عن (value free science) كما أنهم يخبروننا أن الحديث عن الطبيعة البشرية هو سقوط في الميتافيزيقا، لأننا إن تحدثنا عن الطبيعة البشرية كمرجعية سنضطر لتحديد بعض السمات الأساسية المستقرة للإنسان وبعض القيم الإنسانية الأساسية، أي أن الحديث عن الطبيعة الإنسانية هو تحد لمفهوم الانفصال عن القيمة.

في هذا الإطار أصبح العالم منفصلا عن القيمة، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين العدل والظلم، وبين الحق والباطل، بل بين القبيح والجميل.

وحتى لو وجدت مثل هذه المعايير فهي –حسب تصور المدافعين عن الحداثة المنفصلة عن القيمة- ستتغير لا محالة، كما أنها غير مادية، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ في الحسبان.

كل هذا يعني هيمنة ما أسميه النسبية المطلقة أو الشاملة، أي نسبية كل شيء. ولكن في غياب المعايير تظهر مشكلة وهي كيف نحسم الخلافات التي تنشأ بين البشر والصراعات التي تنشب بينهم، ومثل هذه الخلافات والصراعات من صميم الوجود الإنساني.

هنا تظهر قيمة واحدة ووحيدة تصبح مطلقة وهي القوة، فصاحب القوة قادر على حسم كل الخلافات والصراعات لحسابه. وهذا أدى إلى أن الحداثة الغربية أصبحت الحداثة الداروينية.

هذه الحداثة تحوّل العالم إلى مادة استعمالية لا قداسة لها، يوظّفها القوي لحسابه. ومن هنا يمكن القول إن الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هي الإمبريالية الغربية التي ترى العالم باعتباره مادة استعمالية، مصدرا للمواد الخام، والعمالة الرخيصة، وأرضا بلا شعب يمكن للغرب أن يصدر لها معظم -إن لم يكن- كل مشاكله.

هذه الحداثة الداروينية قد دمرت العالم. انظر إلى ما يحدث: ارتفاع أسعار البترول, وتصاعد أسعار الطعام، وتزايد الحروب المحلية الصغيرة, تحول تجارة السلاح وإنتاجه إلى أكبر تجارة في العالم, تلوث البيئة بسبب تصاعد معدلات الاستهلاك، إلى آخر هذه القائمة التي تتزايد بنودها يوما بعد يوم.

يجب أن نميز بين مرجعية نخبنا الحاكمة، وهي المرجعية التي تحكم حياتنا العامة والسياسية الخارجية..إلخ، ومرجعية الجماهير في حياتهم الخاصة وفي تفاعلهم مع بعضهم البعض خارج إطار الدولة.

"
نخبنا الحاكمة تبنت الرؤية البراغماتية أي داروينية الضعفاء، وأصبح همها التكيف مع واقع الهزيمة الذي نعيشه، ومن هنا الهرولة نحو إسرائيل والولايات المتحدة والكويز، أي الهرولة نحو الأقوياء والمنتصرين أي أصحاب براغماتية الأقوياء
"

وهنا أحب أن أشير إلى أن البراغماتية على عكس ما يتصور الكثيرون هي شكل آخر من أشكال الداروينية، ولنقل إنها "داروينية الضعفاء والمهزومين" الذين ينحصر دورهم في تقبل سياسة الأمر الواقع ووضع الهزيمة والتكيف مع الوضع الراهن، تماما كما تريد إسرائيل من العرب.

فهم يعرفون أن البقاء للأقوى وهم من الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة. أما الداروينية فهي براغماتية الأقوياء المنتصرين الذين يدركون ذلك تمام الإدراك، ويعرفون أن على الضعفاء الإذعان لهم والتكيف مع الواقع الذي تمليه إرادتهم.

فالبراغماتية باعتبارها فلسفة مادية شأنها في هذا شأن الداروينية لا تهتم بأية قيم خارج المنظومة المادة، وإنما تقبل القوانين الكامنة (الحالَّة) في المادة.

وما حدث هو أن نخبنا الحاكمة تبنت الرؤية البراغماتية أي داروينية الضعفاء، وأصبح همها التكيف مع واقع الهزيمة الذي نعيشه، ومن هنا الهرولة نحو إسرائيل والولايات المتحدة والكويز…إلخ، أي الهرولة نحو الأقوياء والمنتصرين، أي أصحاب براغماتية الأقوياء، أي الداروينية.

ولكني لا أشارك النخب الحاكمة هذه الرؤية، فأنا أؤمن بالإنسان وبمقدرات الشعب ومخزونه الحضاري، وهو إيمان مستمد من إيماني بالله، الذي نفخ فينا من روحه، وجعلنا قادرين على تجاوز السطح المادي إن قررنا ذلك. على أن نطور حداثة بديلة.

وقد يسأل سائل لماذا حداثة بديلة، ولماذا لا تكون شيئا جديدا مختلفا بشكل كامل؟ ويمكن الرد على ذلك بالقول إنه لا بد من استخدام المصطلح الشائع، ولا مشاحة في المصطلح. الحداثة الآن تعني الحداثة الداروينية، بكل وحشيتها وضراوتها وانفصالها عن القيمة.

ونظرا لشيوع المصطلح، ونظرا لهيمنته على الخطاب التحليلي، لا يمكن تجاهله، وعلى كل لا مشاحة في المصطلح، على أن نوضح التضمينات المعرفية للحداثة الداروينية. كما يجب أن نشير أن إلى الحداثة لها إنجازات لا بد من استيعابها والاستفادة منها، ولا تتجاهلها حين نتصدى لوحشيتها وحين نطرح البديل.

وقد أشرت كذلك إلى أن الحضارة الغربية نجحت في الاحتفاظ بثنائية خصبة في حياة البشر حتى عام 1965. فتم تحديث وعلمنة الحياة العامة وجعلها منفصلة عن القيمة.

ولكن الحياة الخاصة ظلت منضبطة ومحكومة بمجموعة من القيم المسيحية أو قيم مسيحية تم علمنتها بشكل سطحي. فالحياة العامة أصبحت مجال الصراع والتنافس، وظل الإنسان الغربي في الوقت ذاته منضبطا قادرا على إعلاء رغباته وإرجاء الإشباع، مما جعله "مواطناً صالحاً" منتجا.

وقد نجحت منظومة الحداثة الغربية في تقديم نفسها على أنها السبيل إلى السعادة الأرضية. وقام الإعلام الغربي والأميركي على وجه الخصوص وهوليود للترويج لهذه الرؤية التدميرية.

ولذا لا بد أن ندرك التضمينات الاجتماعية والإنسانية لهذا النوع من التسلية وللحداثة الداروينية ككل. كما يجب أن ندرك الثمن الاجتماعي الذي يُدفع.

ولذا أرى أن اختراعا مثل الثلاجة الكهربائية أو السيارة اختراع ممتاز ووفر لنا الكثير من أسباب الراحة. ولكن علينا أيضا أن نعرف أن السيارة هي أكبر مصدر للتلوث في المدن الكبرى.

"
حينما يدير المرء مفتاح سيارته يجب عليه أن يدرك أنه لا يبدأ موتور سيارته وحسب وإنما يجب أن يعرف عن آبار البترول التي ستحفر ومعامل التكرير والبواخر التي تنقله إلى أنحاء العالم والتلوث الناجم عن ذلك
 "

ففي مدينة مثل القاهرة السيارة هي المسؤول الأول عن التلوث. حينما يدير المرء مفتاح سيارته يجب عليه أن يدرك أنه لا يشغل محرك سيارته وحسب وإنما يجب أن يعرف عن آبار البترول التي ستحفر ومعامل التكرير والبواخر التي تنقله إلى أنحاء العالم، والتلوث الناجم عن ذلك. على قائد أي سيارة أن يعرف أنه يحرك منظومة كاملة تهيمن على العالم بأسره، وهذا ما يدركه الآن الكثيرون.

نعم لقد اتضح لنا جميعا أن الثمن المادي والمعنوي لمنظومة الحداثة الداروينية مرتفع للغاية، ولنأخذ الجانب المادي. تشير بعض الدراسات في الوقت الحاضر إلى ما يسمى رأس المال الطبيعي الثابت (fixed natural capital ) أي العناصر الطبيعية التي لا يمكن استبدالها، وثمة إحصائية تذهب إلى أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقية لأي مشروع صناعي غربي (أي حساب المكسب النقدي المباشر مخصوما منه الخسارة الناجمة عن استهلاك رأس المال الطبيعي الثابت) لظهر أنه مشروع خاسر، وأن المشروع الصناعي الغربي قد حقق ما حقق من نجاح واستمرار لأن الجنس البشري بأسره قد دفع الثمن، وقام الإنسان الغربي وحده بأخذ الغنيمة.

وهناك مشكلة النفايات الآخذة في التزايد بشكل مخيف. وبطبيعة الحال، هناك النفايات النووية، التي لم نتوصل بعد إلى طريقة أكيدة للتخلص منها.

إن التقدم الذي كان من المفروض فيه أن يحقق سعادة الإنسان الأرضية أصبح يهدد وجوده على هذا الكوكب. وتستند فكرة التقدم الدائم إلى تصور أن ما لا يعرف في الوقت الحاضر سيعرف في المستقبل، وأن رقعة المعلوم ستتزايد ومن ثم ستتناقص رقعة المجهول، ولكننا اكتشفنا أنه كلما تزايدت رقعة المعلوم تزايدت رقعة المجهول بنسبة أكبر.

لقد قامت عدة محاولات للتصدي للحداثة الداروينية من أهمها التجربة الاشتراكية التي حاولت على مستوى من المستويات، أن تؤكد بعض القيم الإنسانية مثل العدل، وحاولت أن تستعيد البعد الإنساني لحركة المجتمع.

ولكن التجربة الاشتراكية استوعبت تدريجيا في المنظومة الحضارية الغربية ربما بسبب مرجعيتها الفلسفية المادية، وأصبح هدفها هو زيادة الإنتاج لزيادة الاستهلاك، وأصبح اللحاق بالغرب هو الهدف النهائي.

أما المحاولة الأخرى الهامة للتصدي للنموذج المعرفي والحضاري الغربي فهي حركات التحرر الوطني التي واجهت الاستعمار وحاربت قواته حتى استقلت كل الدول المستعمرة، وصُفيت كل الجيوب الاستيطانية باستثناء إسرائيل.

ولكن رغم نجاحها هذا فإن حركات التحرر الوطني تبنت هي الأخرى كثيرا من مقولات المنظومة الحضارية الغربية، مثل أن الغرب هو قمة التقدم، وأن اللحاق به هو حل لكل مشاكلنا وإشكالياتنا، وعُرَّف التقدم بأنه الإنتاج والاستهلاك، وتبنت النخب الحاكمة مفهوم الدولة المركزية القومية التي تركز كل السلطات والصلاحيات في يدها (أي في يد النخب الحاكمة التي تديرها) وعُرفت المواطنة بأنها الولاء الكامل لهذه الدولة. ولم يكن عند هذه النخب إدراك لمدى تركيبية الدولة الحديثة.

"
قامت عدة محاولات للتصدي للحداثة الداروينية من أهمها التجربة الاشتراكية, والمحاولة الأخيرة هي الناتجة عن الوعي الشعبي على مستوى العالم من جماعات الخضر وجماعات أخرى ربما أكثر شعبية
"

ولذا كان التصور السائد أنه يمكن إدارة الدولة من خلال نخبة صغيرة يقودها الزعيم أو الحزب الواحد.

كما أن كثيرا من هذه الدول، رغبة منها في تحقيق نمو اقتصادي معقول في أقصر وقت ممكن، أجهضت كثيرا من الإجراءات الديمقراطية وتبنت الأسلوب السوفياتي في إدارة الدولة: حزب واحد حاكم، وبيروقراطية أخطبوطية تسيطر على كل جوانب الحياة، ومؤسسات أمنية قضت على أصوات المعارضة وأسقطت مبدأ تداول السلطة لا على مستوى رئاسة الدولة وحسب وإنما على جميع المستويات.

هذا الأمر أدي إلى تكلس النخب الحاكمة وعدم تجديدها من خلال ضم العناصر الصالحة من الأجيال الجديدة، الذي أدى بدوره إلى نمو جماعات المصالح التي تخدم مصالحها دون مصالح الوطن.

ويلاحظ أن جميع الاتجاهات السياسية (الماركسيون, الإسلاميون, والليبراليون) تبنت مقولات الحداثة المنفصلة عن القيمة والنموذج المعرفي والحضاري الغربي بدرجات متفاوتة.

والمحاولة الأخيرة للتصدي، الناتجة عن الوعي الشعبي على مستوى العالم، هي جماعات الخضر، وجماعات أخرى ربما أكثر شعبية، تقوم بإفشال محاولات الرأسمالية المتوحشة أن تلوث الكرة الأرضية وأن تخضعنا جميعاً.

ولعل الهبّة الشعبية التي قامت في دمياط في جمهورية مصر العربية بخصوص مصنع أجريوم للسماد أكبر دليل على مدى تزايد الوعي الشعبي ومدى تصاعد محاولات التصدي. والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.