شيزوفرينيا الحال العربي والاسلامي

شيزوفرينا الحال العربي والإسلامي



مصطلح "شيزوفرينيا" أو "سكتسوفرينيا" يقابله في لغتنا العربية "الفصام النكد" والذي يعني في أبسط صوره ومفاهيمه، انشطار الفكر والعقل، وانفصالهما وظيفيا عن عالم السلوك، بحيث يصير القول والفعل في معزل عن عالم الإدراك الحسي المطابق للواقع، بل في معزل عن عالم الذاكرة والتصور والتفكير المبدع والخلاق.

تراجع شواهد الحنكة والحكمة السياسية في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، وتدهور ملكاتنا وقدراتنا الفكرية والعقلية الكلية منها والجزئية، والانكباب والانطواء على الذات وكأننا جمهوريات وممالك وإمارات عجزة لا تعرف زراعة ولا صناعة ولا تجارة ولا إنتاج، بل مجرد جماهير غفيرة حياتها الاستهلاك والاستغراق في الأماني وأحلام اليقظة.

هذا ناهيك عن عيش الضجر والضنك والتوجس والخيفة وحياة السخط والإحباط والاكتئاب والتبلد العاطفي، واللامبالاة وعدم الاهتمام بالآخرين، وبما هو ماض تليد وحاضر ومستقبل.

"
المزاج العام في شوارعنا وعواصمنا العربية في واد والاهتمام والتفكير بما هو جدير بالاهتمام والتفكير في واد آخر, عدا حقيقة كون الأخبار المحزنة صارت من وقع البلية وشرها مضحكة، والأخبار السارة رغم قلتها أضحت مبكية
"

كما أن المزاج العام في شوارعنا وعواصمنا العربية في واد، والاهتمام والتفكير بما هو جدير بالاهتمام والتفكير في واد آخر. عدا حقيقة كون الأخبار المحزنة صارت من وقع البلية وشرها مضحكة، والأخبار السارة وعلى الرغم من قلتها أضحت مبكية.

وضعف القدرة على الاتصال والتواصل السياسي لضحالة لغتنا وهشاشة تراكيبنا، وعدم الجرأة على التعبير حيث يتطلب الموقف جرأة في التعبير.

كما أن التلاعب بالألفاظ السياسية بلهجات وصولات وجولات مختلفة، وابتكار وتعاطي ألفاظ وكلمات لا معنى لها ولا مدلول على الأرض، قد صار من أعظم ألوان خطابنا المعاصر.

ناهيك عن ضعف البصيرة عند قراءة النصوص السياسية ومحاولة فهم محتوياتها وأبعادها، وما تتضمنه من تورية ومكر وخداع وإيهام وتضليل لا مراء فيه.

كما أن التصورات والمعتقدات الخاطئة وما يلفها من هلاوس ووساوس بكل صورها وأشكالها، أضحت هي الأخرى تسيطر على عالمنا السياسي فكرا وواقعا، وكأن الأوهام أضحت حقائق. فالحكم على من هم أصدقاء ممن هم أعداء صار بالمشهد المترجم رأسا على عقب، فصار الصديق عدوا، والعدو صديقا!

وجنون العظمة في واقعنا صار هو الآخر وكأنه الأمر المستحكم، فالكل -إلا ما رحم ربك- يكاد ينفجر من تخوم الكبرياء وشارات الزهو والعجب والغرور والخيلاء، هذا في الوقت الذي نعد فيه بحق وحقيقة قادة ومقودين، حكاما ومحكومين، غثاء كغثاء السيل.

كما أن عقد الاضطهاد والشك والريبة، والقلق من الآخر وكيل الاتهامات له بالتخابر والتآمر تارة، والتواطؤ والتخاذل تارة أخرى، هو ما لا يكاد يغيب عن التداول والطرح في أي من بياناتنا وورش عملنا وندواتنا ومؤتمراتنا الفكرية والسياسية؛ العروبية منها والإسلامية، بل لا يملك كتاب أعمدة التحرير والافتتاحيات في العديد من الصحف والمجلات الرسمية وغير الرسمية القدرة على طمسه أو إخفائه.

والواقع السياسي المأساوي في عالمنا العربي والإسلامي وصور وأشكال الحراك فيه أفقيا وعموديا يجسد لنا حجم اضطرابنا في تعاملنا أولا مع ذواتنا، ومع من هم أشقاء وجيران، ومن هم في محيطنا ممن هم عرب ومسلمون وغير عرب وغير مسلمين.

القطر الواحد فيه ما فيه من حالات وحوادث الانقسام والصراع والصدام. فلبنان ومنذ زمن بعيد ونحن نراه يعيش الحالة المأساوية التي هو عليها اليوم، وهو ما عايشه الفلسطينيون قبيل وبعيد نكبتهم وما يزالون، وهو حال العراق بالأمس واليوم، وحال الجزائر ومصر والسودان والصومال واليمن وباكستان وغيرها من الأقطار والبلدان.

العرب والمسلمون مع بعضهم البعض، وكأنهم ليسوا بإخوة، فالتنظيمات والأحزاب والجماعات في البلد الواحد تراها في حالة تنافس وتنافر وتناحر وعدم انسجام.

القائمون عليها في حالة تنابز وتدابر ويكيدون لبعضهم ويكيلون، وفي بعض المناسبات تراهم يرعدون ويزبدون ويتوعدون ويهددون بعضهم لمجرد أتفه الأسباب.

علاقاتنا الرسمية وغير الرسمية -خاصة المؤسساتية منها- مع من استعمرونا ذات يوم ولم يعتذروا لنا بعد، ومع من قسمونا ومزقونا شر ممزق أقوى بكثير من علاقاتنا الداخلية مع بعضنا. والأدهى والأمر أن علاقاتنا في بعض الحالات الشاذة مع من لا يريدون لنا إلا مزيدا من التشرذم والانقسام لربما تجدها أقوى من علاقتنا بأنفسنا!

كان عدونا المركزي بالأمس إسطنبول، فهي وعلى الرغم من علاتها من حمانا في حينه من غطرسة وقرصنة وسطوة الطليان والفرنسيين والإنجليز والبرتغال والإسبان لأكثر من أربعة قرون.

وكانت النتيجة عندما تخلصنا من الأتراك عقب "الثورة العربية الكبرى" أن اكتشفنا أننا فرشنا الطريق ورودا لقدوم الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم ليسومونا سوء العذاب.

اليوم لمن يقرأ إعلامنا الرسمي يرى أن العدو المركزي هو إيران ومن هم في محورها، والتي لولا مشاكل أميركا ومن معها في العراق وأفغانستان لكانت دباباتها تصول وتجول في شوارع طهران وشوارع إسلام آباد ودمشق والرياض، بل كل عواصمنا العربية والإسلامية دون مهادنة لحليم أو محاباة لزعيم.

"
إعلامنا العربي الرسمي يتهم إيران باستهداف العرب والطمع في أرضهم وخيراتهم ويصور لنا بعض كتابنا أن الخطر الفارسي على الأبواب، هذا مع غض الطرف عما فعله وما زال يفعله المحتل الحقيقي لمنطقتنا وينوي القيام بفعله في المنظور القريب
"

إعلامنا العربي الرسمي يتهم إيران باستهداف العرب والطمع في أرضهم وخيراتهم، ويصور لنا بعض كتابنا أن الخطر الفارسي على الأبواب، هذا مع غض الطرف عما فعله وما زال يفعله المحتل الحقيقي لمنطقتنا وينوي القيام بفعله في المنظور القريب.

نسينا أن ما حدث في المنطقة بين العرب والأتراك، والعرب والإيرانيين، وبين الأتراك والأكراد، والعرب والعرب أنفسهم ما هو إلا بفعل تخطيط وتدبير من يتربصون لهذه الأمة كي لا تنهض أو تقوم، ونسينا أن ما حدث وما زال يحدث في العراق وغيره من سيل دماء بين العرب والأكراد، والشيعة والسنة، والسنة والسنة أنفسهم، والشيعة والشيعة مؤخرا، هو بفعل أيدي من يمسكون بخيوط الفتنة العرقية والطائفية المقيتة، ويتلاعبون بمتغيراتها لتتكرس الضربة الإستراتيجية في واقع العرب والمسلمين؛ ضربة لا يقومون منها على مدى عشرات بل مئات السنين.

وهذا لا يعني أبدا أنه كان لزاما علينا الاستمرار مع الأتراك والخنوع لهم خاصة بعد أن جاروا وظلموا أواخر عهدهم؛ بفعل كيد القوميين والمتعصبين فيهم وشراك وسهام اليهود والفرنسيين والبريطانيين وغيرهم، ولا أدعو إلى التسامح والوقوف سلبا في وجه أي ممن يتهددون أمننا ووجودنا إن ثبت أنهم هكذا يفعلون.

ولكن حربا جديدة في المنطقة العربية سواء على إيران أو سوريا أو غيرهما، وفي هذه الظروف الصعبة يعني في حالة الحسم لصالح الأميركان هو تقاسم بلادنا مرة أخرى كما حدث ذات مرة عندما قسمها سايس-بيكو في الوقت الذي كان فيه عربنا يجزون رؤوس إخوانهم الأتراك، والقسمة في هذه المرة ستكون بين أميركا وربيبتها إسرائيل.

الحرب وكالعادة لن تكون إلا إذا قبل بعضنا أن يكونوا فيها شركاء كما سبق، وأن فعلنا عندما حاربنا ذات يوم في صف بريطانيا وفرنسا وأميركا هنا وهناك، في الحرب العالمية الأولى والثانية وفي حروب الخليج، والتي كان آخرها التواطؤ حيال غزو العراق واحتلال عاصمة الرشيد بغداد.

بلادنا العربية والإسلامية جميعها مستهدفة ونحن من شدة وقع فصامنا النكد هوام ونيام، وإلا ما معنى اندفاع بوش وأولمرت وغيرهما إلى تهديدنا ليل نهار وصباح مساء دون أن يحسبوا لنا حسابا، بل تكالب مرشحي الرئاسة الأميركية وتسابقهم في القول إنهم في حال فوزهم في الانتخابات الموعودة سيحتلون ويسحقون بلدانا كإيران وباكستان!

عندما تحتل هذه المرة إيران أو باكستان أو سوريا أو غيرها، عندئذ لن تسلم السعودية ولا الأردن ولا مصر ولا السودان ولا غيرها من الدول، ولن يهدأ بال للأميركان وحلفائهم إلا والعالم العربي والإسلامي ممزق شر ممزق يلفه الخراب والدمار، ويئن آلاما وجراحا تحت وطأة الحراب والأقدام.

لم يكن بإمكان أميركا ومن معها السيطرة على أفغانستان والعراق لولا تواطؤ العرب والمسلمين، فباكستان وإيران عينهما كانتا ومع الأسف بطريقة أو بأخرى في اللعبة، حيث إن خلافهما مع طالبان دفع باتجاه التعاون المباشر مع أميركا في الحالة الباكستانية، وغير المباشر والمتمثل بالسكوت والرضا وغض الطرف عن الفعل الأميركي في الحالة الإيرانية.

وهو ما فعلته تركيا سرا وكل من السعودية والكويت وغيرها من الدول المجاورة وغير المجاورة في التعامل مع قضية العراق.

الكل كان همه التخلص من نظامي طالبان وصدام أولا "وبعد ذلك يحلها الحلال" وكأن من كان هذا همه لا يعلم أنه قد وضع حبل المشنقة حول رقبته!

لم يكن ليتجرأ الأميركان ومن معهم على أي بلد عربي أو إسلامي لولا حمى الشيزوفرينيا السياسية التي يعيشها العرب والمسلمون في بلادهم قادة ومقودين حكاما ومحكومين.

الواقع السياسي المأساوي في عالمنا العربي والإسلامي من أندونيسيا إلى المغرب هو الذي أعان المتربصين بنا على افتراسنا، وأغار صدورهم للانقضاض على أمة أضحت ألعوبة وأضحوكة الشعوب والأمم.

على ما يبدو لم يعد هنالك وحالة الفصام هذه قلاع لتصمد، سوى ما تبقى لنا من أشباه قلاع، فما لم يكن هنالك معنى لوجود ما نتوهمه ونسميه جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، سيكون ما لا تحمد عقباه.

على العرب والمسلمين أن يصحوا من غفلتهم وأن يتحرروا من قيود الأوهام التي يعيشون في ظلها، فها هي الأمم الأخرى بعد أن اكتفت ذاتيا زراعة وصناعة وتجارة، وغزت بمنتجاتها الأسواق العالمية بما فيها الأوروبية والأميركية وغيرها، تراها تغزو العالم الخارجي وعالم الفضاء.

فالصين التي أطلقت مؤخرا صواريخها نحو الفضاء الخارجي، وأعلنت عن نواياها في إرسال رجال فضاء صينيين إلى القمر وغيره، عما قريب هي إحدى تلك الأمم.

"
على العرب والمسلمين أن يصحوا من غفلتهم وأن يتحرروا من قيود الأوهام التي يعيشون في ظلها، فها هي الأمم الأخرى بعد أن اكتفت ذاتيا زراعة وصناعة وتجارة وغزت بمنتجاتها الأسواق العالمية، تراها تغزو العالم الخارجي وعالم الفضاء
"

كما أن الهند بعد أن تمكنت وبجهود علمائها المخلصين من تصنيع "السوبر كمبيوتر" وأضحت الدولة الأولى في إنتاج وتصدير تكنولوجيا المعلومات إلى أميركا وغيرها من الدول، تراها مؤخرا وفي سابقة من نوعها تطلق صواريخها نحو الفضاء، والتي كان آخرها صاروخ يحمل عشرة أقمار صناعية متعددة الأهداف والأغراض.

هذه أمم سبق لها وأن ذاقت مرارة الاستعمار كما ذقناه نحن، بل وأكثر، ولكنها بالعزيمة والإرادة والوحدة نمت وتطورت إلى درجة أخذ الغرب يحسب لغدها المُشرق ألف حساب.

على العرب والمسلمين اليوم وقبل غد أن يبحثوا عن سبل الخلاص مما أصابهم من تشظ وفصام غير مسبوق قبل فوات الأوان، فالقدس محتلة، وهكذا فطاني وكشمير وكابل وبغداد ومقديشو وأوغادين وغيرها.

ولن يكون لهم ذلك إلا إذا عادوا إلى لغتهم العربية ونموها وطوروها بما يتناسب واحتياجات العصر. وأخذوا بسبل وحدتهم، وهو ما لن يكون إلا إذا توجه الجميع بقلب واحد إلى رب واحد، وتلقوا عنه ومنه وحده لا عن غيره من الآلهة والأرباب.

بهذا وقبيله يكون البناء والنماء والعطاء، وتكون الوحدة الحق، وستحسب عندئذ الشعوب والأمم للعرب والمسلمين ألف حساب، وإلا سيكون مصيرنا المزيد من التقهقر والارتكاس، وسيكون السقوط في الحضيض وغياهب النسيان، وعندئذ إلى غير رجعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.