سامي الحاج.. ونهاية الأسطورة الأميركية

سامي الحاج.. ونهاية الأسطورة الأمريكية



خلال ثمانية أعوام فقط استطاع رئيس حروب الهيمنة الإرهابية الأميركية جورج بوش الابن ومن أوصله إلى الرئاسة من مراكز صناعة القرار الأميركي، تقويض حصيلة جهود دعائية تضليلية على امتداد خمسين عاما سبقت بعد الحرب العالمية الثانية، عن الولايات المتحدة الأميركية، دولة التقدم والرخاء، والحريات والقضاء، والديمقراطية وحقوق الإنسان، ونصرة الشعوب المستضعفة ضد الاستعمار، حتى أصبحت "الحياة على الطريقة الأميركية" رمزا، و"بلد الإمكانات اللامحدودة" رمزا آخر، وبات الحديث عن الماضي الأميركي منذ إبادة الهنود الحمر إلى هيروشيما وناغازاكي، وحتى فيتنام مغيّبا.

"
يوم سقوط بغداد والفتك الموجه بمعالم حضارتها أصبح شاهدا تاريخيا على وحل المنحدر الذي صنعته أفكار صدام الحضارات ونهاية التاريخ والعدو البديل
"

فهوليود ورواياتها هي أميركا، والعالم الحر هو أميركا، والمساعدات المالية هي أميركا، ومستقبل العالم هو ما يصوّره خيال مخرجي أفلام المستقبل، والتقدّم هو ما تفتح أبوابه العقول الأميركية، والبطاقةُ الخضراء للعمل في أميركا هدف فوق كل هدف للحياة السعيدة.

فمن أراد حياة النعيم عليه الرحيل إلى أميركا، ومن أراد البحث العلمي فجامعات أميركا موطنه، ومن أراد التخطيط للمستقبل الكريم فمعاهد الفكر الأميركية نموذج له، ومن أراد البطولات الخارقة فعليه برامبو وأقرانه، ومن أراد الحكم الديمقراطي فالنهج الأميركي نهجه، ومن أراد إسقاط الاستبداد المحلي في بلده عليه الاعتماد على (الاستبداد) الأميركي العالمي والدبابات الأميركية والقذائف الأميركية..

بل بلغ الأمر ببعض بلادنا العربية أن جعلت من اللغة الإنجليزية الأميركية بديلا عن اللغة العربية في تعليم أبنائنا وبناتنا، ومن ألعاب العنف الأميركية سلعة لنشر العنف في رؤوس أطفالنا، ومن المستشارين الأميركيين موجهين لصياغة مناهج التربية والتعليم في مدارسنا، لتصبح على غرار مدارس أميركية لا تنقطع الأخبار المؤلمة عن تلاميذها!

بكل سذاجة مصطنعة عجيبة يتساءل بوش وزمرته منذ الشهور الأولى لاستلام السلطة وممارسة ما مارسوه من أفاعيل: علام يكرهون أميركا؟..

ولا يشمل السؤال أهل المنطقة الإسلامية المستهدفة بالفوضى الدموية الهدامة فقط، فأهل الدول الحليفة الأوروبية أعربوا أيضا عن رفضهم السياسات الأميركية بغالبية عالية غير مسبوقة.

ولكن المتسائلين يجيبون أنفسهم بأنفسهم رغم ذلك بسذاجة مصطنعة عجيبة أيضا: هؤلاء لا يفهمون ما تصنعه أميركا، فيجب القيام بحملات دعائية لتحسين السمعة الأميركية والقضاء على صورة الأميركي القبيح "المزيّفة".

تزيفها الجزيرة.. وليست الجزيرة وحدها المتهمة، وإن كانت في مقدمة من استهدفهم القصف الأميركي قتلا، والقصف الأميركي ضغوطا لم تنقطع، وملاحقةً لمن يعمل فيها بلا خجل، ممّن بات من رموزها أحمد منصور أثناء وجوده فترة وجيزة في الفلوجة أثناء حرقها والعمل لمسحها من الخارطة، وتيسير علوني منذ كان يتنقل بين جبال أفغانستان في مرمى الصواريخ الأميركية، وسامي الحاج منذ سُدّ الطريق عليه إلى الشيشان فقصد كوسوفو ثم أفغانستان، لتكشف عدسة آلة تصويره ما لا يراد أن يُعلم.

ليكشف حقيقة ما حاولت عدسات المصوّرين وأقلام الصحفيين المحمولين على المدرعات الأميركية نشره عن الحروب.. "العادلة الرحيمة" ما دامت أميركا هي التي تشعلها وتسفك الدماء فيها بلا حساب!..

الجزيرة في مقدمة المتهمين بتزييف الصورة الأميركية التي صنعها بوش الابن وزمرته -وكأنّها في حاجة إلى تزييف أصلا- ولهذا لم تنقطع الضغوط على مؤسسة الجزيرة ولن تنقطع، وربّما تحوّل "القصف" إلى الداخل بعد إخفاق "القصف" من الخارج.

ويرجى أن يخيب ظن كل من يحسب أن هذا سيؤتي ثماره السامة، وظن كل من يوظف أو قد يوظف إطلاق سراح سامي الحاج الآن، فيعتبره ضربا من ضروب المغريات إلى جانب الضغوط والمؤامرات!

لا شكّ أن يوم سقوط بغداد والفتك الموجه بمعالم حضارتها أصبح شاهدا تاريخيا على وحل المنحدر الذي صنعته أفكار صدام الحضارات ونهاية التاريخ والعدو البديل!

لا شكّ أن "أبو غريب" بات عنوانا فاضحا للسقوط الشنيع في منحدر وحشية الإنسان عندما يفقد إنسانيته، فيمارس أبشع ألوان التعذيب وراء جدران السجون، ويفتك بأجساد من أصبحوا في رسف القيود الأميركية لا يستطيعون أن يدفعوا الإجرام عن أنفسهم!

"
سامي الحاج.. رمز للنزاهة الصحفية التي رفضت المساومات وسط ظروف السجن فأبى أن تكون حريته طريقا إلى استعباده بالتجسّس على زملائه في فضائيتهم لصالح الدولة التي تضع وزاراتها قوائم سنوية لتوزيع أحكامها على الدول والمنظمات والأفراد ووسائل الإعلام والفكر
"

لا شكّ أن الفلوجة باتت رمزا صارخا للسقوط الشنيع في بؤرة الإجرام الحربي بأفتك الأسلحة الحارقة والقاتلة المدمرة، عندما يوجّهها من لا يملك ضميرا ضدّ من لا يملك سلاحا رادعا.

لا شكّ أن "الحديثة" باتت صورة من الصور اليومية المعلنة والمعتم عليها للسقوط الشنيع في حمأة الانتقام الإجرامي الإرهابي تحت بيارق "الحرب ضدّ الإرهاب" عندما تنال المقاومة المشروعة من هيبة الدولة الإرهابية في حربها غير المشروعة بمختلف المقاييس.

ولا شكّ أن غوانتانامو من وراء ذلك كله بات عارا لا يمحى في وجوه من يصنعون ذلك السقوط الشنيع في الدرك الأسفل من وحشية الاستبداد الدولي والتجبّر في انتهاك كلّ قانون وعرف من القوانين والأعراف الدولية التي وصلت البشرية إلى صياغتها من دماء الضحايا وآلامهم على امتداد ألوف الأعوام الحافلة بالحروب، مثل حرب مائة عام في أوروبا التي "اكتشفت" أميركا، وحرب إبادة الهنود الحمر التي أوجدت "دولة أميركا"، والحربين العالميتين اللتين أوصلتا أميركا إلى زعامة الهيمنة الاستبدادية عالميا.

ولكن لا شك أيضا أن سامي الحاج -من بين معتقلي وحشية غوانتانامو الأميركية، باعتقاله الطويل ورفضه للمساومات، وبما احتمله من تعذيب إجرامي- قد جسّد جميع تلك السقطات معا، وأنّه من لحظة اعتقاله الأولى حتى لحظة عناقه لأفراد أسرته الصغيرة في الخرطوم، وبهجة جميع أفراد أسرته الكبيرة في أنحاء العالم، أصبح الرمز الأوسع شهرة والأكبر فعالية والأعمق مغزى فيما تعنيه كلمة سقوط أميركا حضاريا، على أيدي بوش الابن وزمرته، ممّا لن يزول مفعوله إلا إذا شهدت أميركا تغييرا جذريا لا تبدو حتى الآن أي مؤشرات على حصوله في المستقبل المنظور.

ربما ساهمت في ذلك الجزيرة بحملتها الإعلامية، ومعها ومن ورائها منظمات الإعلاميين والدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن لم يكن ذلك كلّه كافيا لأن يؤتي ثماره لولا أنّ قصة سامي الحاج نفسها ألقت أضواء ساطعة على صانعي القرار في الولايات المتحدة الأميركية.

سامي الحاج.. مصور إعلامي في عصر توصف الصورة المتحركة المباشرة فيه بأنها أقصى درجات التقدم الحديث في عالم الإعلام وما يصنعه في حياة البشرية، ويحاصر به من يرتكبون الجرائم الحربية والجرائم ضد الإنسانية..

واعتقاله يعني أن ما ساهم التقدم الأميركي في ابتكاره على هذا الطريق، يفقد قيمته الحضارية تحت أقدام الحرب الهمجية، فما دام لا يخدمها وجب اعتقاله وراء القضبان!

سامي الحاج.. رمز لحرية الكلمة الإعلامية التي زعمت أميركا لنفسها طويلا أنّها تحمل رسالة نشرها في العالم وتعليمها للشعوب "المتخلفة" واستخدامها سلاحا في وجه الأنظمة الاستبدادية، وكشف اعتقاله وسواه، كما كشف اغتيال زميله طارق أيوب وأقرانه، أنّ المطلوب هو حرية الكلمة في خدمة الهيمنة الأميركية فقط.. ولهذا وجب استمرار اعتقاله سنوات عديدة وراء القضبان!

سامي الحاج.. رمز للنزاهة الصحفية التي رفضت المساومات والإغراءات وسط ظروف السجن والتعذيب، فأبى صاحبها أن تكون حريته طريقا إلى استعباده بأن يكون أداة للتجسّس على زملائه في فضائيتهم لصالح الدولة التي تضع وزاراتها قوائم سنوية لتوزيع أحكامها على الدول والمنظمات والأفراد ووسائل الإعلام والفكر..

هذا إرهابي وذاك يدعم الإرهاب، وهذه دولة مارقة وتلك استبدادية، وهذه فضائية وذاك قلم يعادي الصهيونية المبرّأة من الآثام، وهذا مصرف مالي يجب إغلاقه، وتلك جمعية تشجع على مقاومة العدوان بما تقدمه من غوث لبقاء ذوي الشهداء على قيد الحياة!

سامي الحاج.. رمز للمعتقلين جميعا وراء قضبان الهيمنة الأميركية وقضبان التبعية للهيمنة الأميركية، ورمز لسقوط أقنعة الزيف لشعارات سيادة القانون واستقلال القضاء.

"
سيدخل بوش الابن وزمرته التاريخ على أنهم هم من حسموا أمر سقوط الإمبراطورية الأميركية (..) ونرجو أن تتحول دولته إلى دولة عادية، لأن شموخها الإمبراطوري بالإجرام لا يمثل عزة ولا رقيا ولا حضارة، بل يمثل عارا على وجودها وعلى شعبها
"

فكم كان عشاق الهيمنة الأميركية يذرفون المداد من أقلامهم ويلوكون التسبيح بحمد البيت "الأبيض" على ألسنتهم، وهم يستشهدون بأن النظام الديمقراطي الأميركي كشف بإعلامه عن حقائق حرب فيتنام فأنهاها، وأنّ النظام الديمقراطي الأميركي أسقط بقضائه نيكسون في فضيحة التجسس "ووتر غيت"، وبلادنا تصوغ وثائق تقييد الحريات الإعلامية المقيدة أصلا، ولا تنقطع فيها الفضائح ولكنها محرومة من حرية الإعلام الأميركية ومن سيادة القانون الأميركي واستقلال القضاء الأميركي.

كم شوه واقع النظام الأميركي في عهد بوش الابن سمعة هذه المبادئ الأساسية الكريمة، وأعطاها صورا عنصرية بشعة، فقد تسري ميزاتها عند تطبيقها على من قد يستفيد منها في التعامل الداخلي بين أهلها، ولكنها لا تسري في ظلّ شريعة الغاب على جنس الإنسان لتحريره من الاستبداد الدولي!

وإلا فما فائدة تطبيق هذا المبدأ الكريم على نيكسون، مقابل عجز قضاة أميركا أو امتناعهم عن محاسبة بوش الابن على التعذيب في أبو غريب وغوانتانامو، وقتل مئات الألوف في حروبه "الوقائية" وتشريد الملايين ضحية أطماع الهيمنة، وتدمير هذا البلد أو ذاك..

ما جدوى سيادة القانون والقضاء في بلد تزحف أجهزة القانون والقضاء فيه زحف السلحفاة، في تعاملها مع غوانتانامو والمعتقلين فيه، فلا يطلق سراحهم ولا يحاكمون، ولا يُسمع لشكاواهم ولا يحرّرون، ولا قيمة لآلامهم وعذاب ذويهم، ما داموا لا يتبعون لمركز من مراكز صناعة القرار الأميركي، أو جماعة من جماعات الضغط بقوة المال وصناعات السلاح والنفط، على صانعي القرار الأميركي؟.

كل إمبراطورية من إمبراطوريات الشر في التاريخ سقطت نتيجة فسادها داخليا، وهي في أوج قوتها تسلحا وهيمنة عالمية.

وسيدخل بوش الابن وزمرته التاريخ على أنهم هم من حسموا أمر سقوط الإمبراطورية الأميركية، ولا نرجو لشعبها سوى النجاة من تكرار مسيرة الهيمنة الإجرامية في حقبة تالية، وأن تتحول دولته إلى دولة "عادية" من دول العالم، فشموخها الإمبراطوري بالإجرام لا يمثل عزة ولا رقيا ولا حضارة، بل يمثل عارا على وجودها وعلى شعبها، وقد يخلصها رحيل بوش الابن وزمرته منه، من حيث كانوا يسعون لتخليده!

سيان هل يجد هؤلاء أنفسهم في حالة اضطرار للتخلص من بعض رموز هذا العار بتحرير بعض من بقي في غوانتانامو أو إغلاقه، أم يصنعون ذلك طلبا لتخفيف أسباب "كراهية أميركا" وفق تصوّراتهم.

فجميع ذلك لا يعفي أحدا من المسؤولين في أنحاء العالم، في مناصب سياسية واقتصادية، أو مواقع فكرية وإعلامية، أو في أي ساحة من ساحات الإسهام في التأثير على الحياة البشرية، لاسيما في المنطقة الإسلامية المستهدفة قبل سواها.. لا يعفيهم من أن يذكرهم إطلاق سراح سامي الحاج وبعض أقرانه الآن، بأن عليهم أن يخرجوا أنفسهم وشعوبهم وبلادهم، ويخرجوا بسياساتهم وممارساتهم، من نفق التبعية للهيمنة الأميركية، أيا كان ما يرددون من الذرائع والأسباب.

فمهما قيل تسويغا لما يصنعون، إنهم مقهورون أو مهددون أو مجبرون، أو إنهم منبهرون مضللون منساقون، أو إنهم يتعاملون بلغة المصالح والسياسات الواقعية، وإنهم يعطون ولا يأخذون، فإن العجز الأميركي محتم وظاهر للعيان، عندما يجد نفسه أمام إرادة إنسان فرد لا يقهر، وإن كان في معتقل غوانتانامو الرهيب، كما كان سامي الحاج، فذاك في ذروة ما يمثل قيمة الإنسان الحقيقية، وما يمثل حقيقة قيمة الحضارة الإنسانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.