الحشد الطائفي قبل الأزمة اللبنانية وبعدها مسؤولية من؟

الحشد الطائفي قبل وبعد الأزمة اللبنانية مسؤولية من؟


عندما يعلن الشيخ علي بلحاج نائب زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر ذلك الموقف الواضح والمحسوم مما جرى في لبنان، منتصرا لحزب الله ضد قوى الموالاة، ففي ذلك ما ينبغي أن يستوقف القوى والرموز الشيعية في المنطقة برمتها، لا في لبنان وحده.

"
الشق الأكبر من السنة وقواهم ورموزهم لا يتبنون خطابا طائفيا ولا يستندون إلى مرجعية طائفية في تحديد مواقفهم من هذه القضية أو تلك، لا سيما حين يكون الأميركان والصهاينة في المعسكر الآخر
"

ولا تكمن أهمية بيان الشيخ علي بلحاج في كونه يصدر عن رمز كبير له تاريخه في السياق الإسلامي السني فحسب، بل في صدوره عن رجل يتبنى المرجعية السلفية في التعاطي مع الشأن الديني والسياسي، وهي المرجعية المتهمة بتولي كبر الحشد الطائفي في المنطقة، بحسب الطرف الشيعي، وإن أطلق عليها مسمى الوهابية.

لم يتوقف الأمر عند الشيخ علي بلحاج، فقد قال الأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي شيئا مشابها في الانتصار لتيار المقاومة الذي يمثله حزب الله في مواجهة الهجمة الأميركية الصهيونية.

وكذلك فعل الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية، وإن بدا موقف بلحاج أكثر حدة في هجومه على تيار "الموالاة" والدول العربية التي ترعاه، لا سيما المملكة العربية السعودية.

الموقف المذكور انسحب على أكثر الحركات الإسلامية، على تفاوت في الخطاب بين هذه وتلك، بل إن الجماعة الإسلامية اللبنانية التي تعيش أجواء الاحتقان السني اللبناني لم تبتعد كثيرا في تحليل الموقف من الزاوية السياسية عن ذلك، وإن انتقدت بقوة اجتياح حزب الله لبيروت، تماما كما انتقدناه وانتقده كثيرون لم يتمنوا أن يروا حزب الله يحول سلاح المقاومة إلى الداخل اللبناني، لا سيما أن ما جرى من الطرف الآخر لم يكن يستدعي ردة فعل على هذه الشاكلة.

لم يكن الأمر بالفعل يستدعي ردة فعل قوية في وقت يدرك فيه الحزب حساسية الموقف الطائفي، لا في لبنان فحسب، بل وفي المنطقة أيضا إثر تطورات الموقف العراقي منذ الاحتلال، وصولا إلى إعدام صدام حسين بتلك الطريقة المثيرة والتوقيت المستفز.

لا يغير ذلك في حقيقة أن رموزا وقوى في الظاهرة الإسلامية، لا سيما الشق السلفي السعودي والخليجي قد وقفوا موقفا مناهضا لحزب الله في المعركة الأخيرة، الأمر الذي يرتبط بما جرى وما زال يجري في العراق، معطوفا على الإيمان بوجود مشروع إيراني "صفوي" يستهدف الأمة، فضلا عن جماعات أخرى مثل الإخوان السوريين الذين يفضلون في معظم الأحيان الوقوف ضد مربع النظام الذي يعارضونه.

هكذا يتبدى للمراقب المنصف أن الشق الأكبر من السنة وقواهم ورموزهم، لا يتبنون خطابا طائفيا، ولا يستندون إلى مرجعية طائفية في تحديد مواقفهم من هذه القضية أو تلك، لا سيما حين يكون الأميركان والصهاينة في المعسكر الآخر.

ولا ننسى أننا نتحدث عن الأزمة الأخيرة، ونحن نعلم أن الموقف من مقاومة حزب الله، وبخاصة قبل تداعيات احتلال العراق كان أكثر وضوحا لجهة الدعم من دون النظر إلى مذهب الحزب.

في المقابل لم نجد كثير خلاف في الحالة الشيعية حيال ما كان يجري في العراق، بما في ذلك حزب الله، وإن اختلف موقفه بقدر محدود.

حدث ذلك على رغم أن العدو هناك كان أميركا التي جاءت بشعار إعادة تشكيل المنطقة برمتها، بما في ذلك استهداف إيران وسوريا وقوى المقاومة، ورأينا كيف تفوق الخطاب الطائفي على ما عداه، حتى عندما أعدم صدام بتلك الطريقة المثيرة يوم عيد الأضحى، بما انطوى عليه الموقف من إهانة لجماهير الأمة العربية والإسلامية التي تعاطفت مع وقفة الرجل خلال المحاكمة وقبل ذلك الحرب والاستهداف الذي سبقها.

"
المناهج الدراسية السنية في مختلف الدول العربية لا نعثر فيها على حملة منظمة تستهدف الشيعة، لكن الحشد الطائفي في الحالة الشيعية يبدأ منذ سنوات التنشئة الأولى حين يعبأ الأطفال على تضليل المذهب السني برمته
"

وأسوأ من ذلك بالطبع الموقف من المقاومة الإسلامية هناك، تلك التي أفشلت المشروع الأميركي من جهة، في حين ساهمت في تعميق تحالفه مع القوى الشيعية من جهة أخرى، إذ لم نجد في الساحة الشيعية سوى النزر اليسير من المواقف التي تعترف بتلك المقاومة، فضلا عن أن تشيد بها أو تدعمها.

وكانت الحجة أنها "إرهاب" أحيانا، أو أنها لتحسين وضع العرب السنة أحيانا أخرى، مع أن رموز السنة في العالم العربي والإسلامي لم يترددوا في إدانة الشق الذي يستهدف الأبرياء مما كان يحسب عليها.

سبب هذه المعادلة المختلفة بين الطرفين هو أن السنة لم يعتبروا أنفسهم في يوم من الأيام طائفة من الطوائف، بل كانوا يرون أنفسهم الأمة التي تحتضن جميع أبنائها، ولا تشعر أنها مهددة من أي طرف إسلامي آخر.

وحين نتابع المناهج الدراسية السنية في مختلف الدول العربية، فضلا عن الكتابات والنشاطات الفكرية والدعوية لا نعثر على حملة منظمة تستهدف الشيعة، وإذا ذكرت حالة السعودية كمثال يخالف ذلك، فإن الرد هو أن التشدد فيها يشمل الجميع وليس الشيعة وحدهم، أعني المذاهب الإسلامية الأخرى مثل الأشاعرة والصوفية، بدليل أن الإمام أبو حنيفة صاحب المذهب الأكثر انتشارا في العالم السني منذ القرن الثاني الهجري لا ينجو من هجماتها وهجائها.

في مقابل هذا التسامح السني يلاحظ أن الحشد الطائفي في الحالة الشيعية يبدأ منذ سنوات التنشئة الأولى، إذ يعبأ الأطفال بحكايات ومشاهد القتل لآل البيت رضوان الله عليهم، إلى جانب تكفير معظم الصحابة وأم المؤمنين عائشة، فضلا عن تضليل المذهب السني برمته ووصمه بأبشع الأوصاف، ولا مجال لإنكار هذه المعادلة التي لم تغير حقيقة وجودها في تعاطي الطرف السني مع الشيعة.

والخلاصة أن منطق التعبئة في الحالة الشيعية يقوم على اعتبار السنة هم الخصم، بل العدو في بعض الأحيان، مع اعتبار أن إثبات صحة المذهب لا تتم إلا من خلال إثبات ضلال مذهب أهل السنة، بل ربما تكفيرهم في بعض الأحيان.

مؤخرا أصدر الكاتب العراقي (الشيعي) المعروف أحمد الكاتب، صاحب كتاب "الفقه السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه" بيانا انتقد فيه فتوى للسيد علي السيستاني -أكبر مراجع الشيعة في العالم- نشرت على موقعه الإلكتروني تحرم زواج الشيعية من سني خوفا عليها من الضلال، كما تحرم الصلاة خلف سني، مع أن أحدا من العلماء السنة لم يحرم زواج السني من شيعية، وإن تعددت الآراء بشأن الصلاة، ربما تبعا لخلافات حول مسائل الجمع بين الصلوات وسواها.

"
مواقف القوى الإسلامية السنية مما جرى في لبنان تؤكد أن العقلية الطائفية، وإن حكمت سلوك البعض، فإنها ليست السائدة، بينما لا يبدو المشهد بنفس الوضوح في الطرف الشيعي
"

يحدث ذلك لأن أهل السنة لم يشعروا بالحاجة إلى شتم الآخرين للحفاظ على وجودهم، لا في القديم ولا في الحديث، وهذا الخطاب الذي يهول الخطر الشيعي لا يعدو أن يكون مدفوعا بأجندات سياسية في بعض الأحيان، وتستفزه في أحيان أخرى حالة الغرور التي انتابت الحالة الشيعية إثر ما جرى في العراق، إضافة إلى اتساع نطاق الطموحات الإيرانية في المنطقة.

نعم، السنة ليسو في خطر ولا مذهبهم كذلك، وإذا اعتقد بعض قصار النظر في الطرف الشيعي أن بوسعهم استعراض عضلاتهم على السنة فهم واهمون وسيجرون الأمة إلى بؤس لا يعرف مداه، ولن يربح منه سوى الأعداء.

وهذا ينطبق على قصار نظر في الطرف السني يبالغون في تصعيد روحية العداء، من دون أن يجيبوا على سؤال الحل الأمثل الذي يرونه للتعاطي مع مواطنيهم الشيعة، أو مع الشيعة عموما في السياق العربي والإسلامي، والذين يشكلون جزءا من نسيجنا الاجتماعي والسياسي.

ثمة بالطبع رموز من بين الشيعة لم يترددوا في القول إن على إيران أن تدرك أن الشيعة أقلية في الأمة لا تتعدى عشرة في المائة، كما أن على الشيعة العراقيين أن يتذكروا أنهم إذا كانوا أغلبية في العراق، فهم أقلية في العالم العربي، فضلا عن الإسلامي، لكن أصواتهم ضاعت وسط زحام الحشد الطائفي.

ليس ثمة مشكلة في أن يظل الشيعة شيعة والسنة سنة، مع حق كل طرف في القول إنه الأكثر صوابا، تماما كما يحدث في السياق السني ذاته بين الأشاعرة والسلفية والصوفية، فضلا عن ما كان يحدث قديما بين المذاهب السنية.

لكن استمرار الحشد المستند إلى روحية التكفير في محاضن التربية خاطئ ولا يمكن أن يؤدي إلى خير، لا سيما حين يكون العالم العربي والإسلامي مهددا بمخاطر خارجية لا تفرق بين شيعي وسني، بدليل استهداف حزب الله الشيعي وحماس السنية، في حين لا نعدم موالين للاحتلال في العراق من الطرفين، وإن كان تيار المقاومة في الطرف السني أقوى وأكثر وضوحا.

أحببنا أن نشير إلى مواقف القوى الإسلامية السنية مما جرى في لبنان كي نؤكد أن العقلية الطائفية، وإن حكمت سلوك البعض، فإنها ليست السائدة، بينما لا يبدو المشهد بذات الوضوح في الطرف الآخر.

وهذا وضع نتمنى ومعنا كل المخلصين أن يصحح من أجل الحد من لعبة الحشد الطائفي التي تمنح النافخين في أبواق الحرب المذهبية مزيدا من الذخيرة لتصعيد حربهم البائسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.