مشهد الانتحار في صفوف الجيش الأميركي

مشهد الانتحار في صفوف الجيش الأميركي

– انتحار الجنود.. الأعوام والأرقام
– المؤسسات والانتحار
– رأي علم النفس في الانتحار

كأن مقولة الرئيس العراقي صدام حسين "سنجعل مغول العصر ينتحرون على أسوار بغداد" قد أخذت تلوح في الأفق الأميركي لتجسد واقعا لم يكن يخطر على بال أحد، لا في المؤسسة العسكرية الأميركية ولا في غيرها من المؤسسات.

لقد أضحى مشهد وأد الجنود الأميركان لأنفسهم أمرا مذهلا إلى درجة أن الصحافة الأميركية أصبحت تسميه "اللعنة" التي لم تعد قابلة للتورية.

فها هي شبكة الأخبار المركزية سي.أن.أن تؤكد أن كلّ يوم هناك خمسة من جنود القوات الأميركية يحاولون الانتحار! ما يعد حسب الشبكة زيادة صارخة مقارنة بواقع ما قبل الحرب في العراق، حين كانت النسبة لا تتعدى جنديا واحدا في اليوم.


"
معظم من انتحروا من الجنود هم من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، مع الإقرار بارتفاع ظاهرة الانتحار لدى من هم أكبر سنا، وبين المجندات التي وصل الانتحار في صفوفهن أعلى حد له على الإطلاق
"

انتحار الجنود.. الأعوام والأرقام
في أحدث تقرير أميركي حول موضوع انتحار الجنود صدر يوم 4/2/2008 قالت مصادر عسكرية مطلعة إن الدراسات الحالية تشير إلى وجود رقم قياسي غير مسبوق على صعيد انتحار الجنود في الخدمة الفعلية، إذ يعتقد أن العدد في العام الحالي 2008 يقارب 121 حالة، 89 منهم ثبت انتحارهم، بينما لا يزال التحقيق جاريا لمعرفة مصير 32 حالة أخرى.

وذكرت الأرقام الرسمية أن العام 2007 وحده شهد قرابة 2100 حادث قام خلاله الجنود بالانتحار أو محاولة الانتحار، ما يعني ارتفاعا مخيفا بنسبة 20% مقارنة بالعام 2006، وأكثر بست مرات مما كان عليه الحال قبيل غزو العراق، حين سجل العام 2002 نحو 350 حالة فقط.

عدد من حاولوا الانتحار في 2006 بلغ قرابة 2000 جندي، في حين أن عدد من تأكد انتحارهم بلغ 102، أي ضعف عدد من انتحروا في العام 2001 سنة شروع الولايات المتحدة في حملتها العالمية على ما يسمى الإرهاب.

لقد وصل معدل نسبة الانتحار بين الجنود مع نهاية 2006 إلى 17.5% لكل 100 ألف جندي، أي الارتفاع بنسبة 12.8% مقارنة مع 2005 الذي سجل انتحار 87 جنديا، أي بمعدل 1.30 لكل 10 آلاف.

أما عن عدد العسكريين المنتحرين في 2004 فقد بلغ 67 جنديا (1.10% لكل 10 آلاف جندي)، بينما شهد العام 2003 -سنة الشروع في الحرب- انتحار 79 جنديا، وهو في المعدل ما يساوي 12.4% لكل 100 ألف.


المؤسسة والانتحار
من وجهة نظر العاملين في المؤسسة العسكرية الأميركية فإن معدلات الانتحار خلال السنوات الماضية وصلت مستويات لم يشهدها الجيش الأميركي منذ أكثر من ربع قرن.

وقد عبرت الأخصائية النفسانية في الجيش الأميركي العقيدة إليزابيث كامرون ريتشي عن ذلك بقولها "إن محاولات الانتحار زادت كثيرا في غضون السنوات الخمس الماضية.. وإن ظاهرة الانتحار ومحاولة الانتحار تتزايد رغم الأشياء الكثيرة التي يعمل عليها لتقليل معدلات الانتحار".

وفي دراسة لها حول الانتحار في صفوف الجيش، كشفت عن حقيقة مفادها أن برامج مكافحة الانتحار لم تكن مصممة لمجابهة مثل تلك الأوضاع التي يواجهها الجنود الأميركيون الذين يخوضون حروبا حقيقية خارج البلاد لأشهر طويلة.

وقالتها بصراحة إن "الانتحار مؤشر على حجم ومستوى الإرهاق الذي أصاب القوات الأميركية.. وإن عائلات الجنود أضحت متعبة".

وكشفت كذلك عن حقيقة مفادها أن معظم من انتحروا من الجنود هم من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، مع الإقرار بارتفاع ظاهرة الانتحار لدى من هم أكبر سنا، وبين المجندات إذ انتحرت 11 منهن فقط عام 2006، وهو ما اعتبرته ريتشي "العدد الأكبر في وسط المجندات المنتحرات على الإطلاق".

وهذا ما دفع السيناتور جيم ويب إلى التقدم بمشروع قرار إلى الكونغرس بهدف تعزيز برنامج الوقاية من الانتحار في صفوف الجيش، وقال في بيان مكتوب "إن قواتنا وأسرهم تمر بفترة غير مسبوقة من التوتر بسبب نسق عمليات الانتشار في غضون السنوات الخمس السابقة".

وهذا ما دفع السيناتور باتي موري كذلك إلى المطالبة بزيادة حجم المساعدة المالية للعسكريين العائدين من جبهات القتال، لتعزيز قدراتهم وما يضمن لهم من توفير العلاج اللازم لصحتهم النفسية.

"
الجنود يخفون أعراضهم النفسية بنسبة 50% خوفا من الإضرار بمستقبلهم في الجيش، و65% لا يريدون الظهور بمظهر الضعيف، و63% همهم الإبقاء على معاملة قادتهم الحسنة لهم ولو على حساب الإقرار باضطرابهم النفسي
"

لقد تحرك الجميع لدعم البنتاغون، وبالفعل وضعت عدة برامج مهنية لتحديد الجنود الذين لديهم نزعة إلى الانتحار، وإحالتهم إلى خبراء الصحة النفسية لمساعدتهم على تجاوز الضغوط التي تخلفها الخدمة العسكرية.

وقد قام فريق من الأطباء النفسيين والأخصائيين الإكلينيكيين بدراسة ظاهرة الانتحار وتقييم الموقف وتحديد أسبابه وتقييم مستوى خدمات الطب النفسي والصحة النفسية المقدمة للقوات الأميركية للسيطرة على هذه الظاهرة الخطرة.

وكخطوة تنفيذية تمت مقابلة 700 جندي من العاملين في العراق ودراسة حالاتهم، ثم تبع ذلك تسريح 478 جنديا في أول خمسة أشهر من بداية العمل الطبي النفسي مع الجنود، وذلك لأسباب واعتبارات طبية ونفسية.

وفي مواقف أخرى تمت إعادة 1919 جنديا إلى الخدمة العسكرية في العراق من أصل 2000 ممن خضعوا للعلاج، وتم ترحيل الباقي إلى أميركا لأن حالتهم حرجة لما يعانونه من أمراض نفسية حادة ومزمنة.

وأقرت إحدى الدراسات التي قام بها خبراء نفسيون عاملون في صفوف الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان، أجريت على عينة حجمها 6100 من الجنود ومشاة البحرية، أن ما بين 15 و20% من هذه القوات يعاني أفرادها من أعراض نفسية قد تدفع في أي لحظة ضعف إلى الانتحار.

وكشفت الدراسة نفسها عن حقيقة مفادها أن الجنود يخفون أعراضهم النفسية بنسبة50% خوفاً من الإضرار بمستقبلهم في الجيش، وأن 65% منهم لا يريدون الظهور بمظهر الضعيف، و63% همهم الإبقاء على معاملة قادتهم الحسنة لهم، ولو على حساب الإقرار باضطرابهم النفسي.

وبحكم ما أفضت إليه الدراسة من نتائج واستنتاجات وتضمينات وتوصيات، قررت القيادة العسكرية الأميركية إجراء مسح طبي نفسي للقوات قبل وبعد إرسالها إلى العراق للكشف عن الأمراض النفسية وعلاجها بأسرع ما يمكن، مع تبني خطط العمل على ضرورة نشر الوعي الصحي بأهمية اللجوء إلى العلاج النفسي.


رأي علم النفس في الانتحار
لم يكن أحد ليلقي بالا إلى ظاهرة الانتحار في صفوف الجيش الأميركي لولا تفجر الوضع بعدما تجاوزت الظاهرة في معدلها الأخير ما كان يعد من ذي قبل معدلا قياسيا، سبق أن سجلته المؤسسة العسكرية عقب حرب فيتنام بنحو 15.6% لكل 100 ألف.

وما دفع بالجندي الأميركي إلى الانتحار هو إخفاقه الواضح في إشباع دوافعه وتحقيق تطلعاته وأهدافه وغاياته في ظروف لا تتوفر فيها الحرية للاستجابة لمطالب البيئة المادية والاجتماعية والمعيشية.

كل هذا جعله عرضة لمشاعر الضجر والملل والضيق وعدم الارتياح، وبالتالي صار فريسة سهلة للوقوع في براثن سوء التكيف، حيث الإعياء والإحباط والصراع والرهاب والخوف والقلق والغضب والعنفوان، وما هو مرتبط بكل ذلك من مظاهر وشارات اليأس والاضطراب والاغتراب النفسي والاجتماعي.

لقد صار الجنود بحكم البعد عن الأوطان شديدي الحساسية والانفعال، تهددهم مشاعر التهيج والاحتراق والتوتر بسبب الحاجة إلى ذويهم، خاصة أن الاستجابة الطبيعية إلى ما اعتادوا عليه في إشباع دوافعهم وحاجاتهم البدنية والأمنية والاجتماعية والنفسية أضحت لا تلبيها البواعث البديلة المتمثلة في بيئة المعسكر والدبابة والعربات العسكرية وساحات المواجهة.

كما أن الصور والرسائل والمكالمات القادمة عبر الهواتف الخلوية ووسائط الإنترنت لم تعد تفي بالغرض.

"
الإحساس العميق بالتورط في مستنقع الحرب القذرة في كل من العراق وأفغانستان أدى إلى تفاقم حالات جنون الريبة والشك في صفوف المجندين والمجندات، كما أن لتفاقم حالات الذعر والهلع من المعلوم قبل المجهول دورهما الكبير في خلق اليأس والإقدام على الانتحار
"

الحيل الدفاعية لم تعد تنفع الجندي الأميركي، ولم يعد هنالك مجال لمزيد من الكبت والقمع والكظم بحق الذات أو غير ذلك من وسائل ردود الفعل العكسي والإزاحة والإبدال النفسي وسلوكيات الإسقاط والتقمص ونكران الواقع الصعب، في حرب جحيمية غير عادلة دوافعها منذ أن أعلنت هي الرغبة في الثأر والانتقام، والرغبة في السيطرة على الشعوب المغلوبة على أمرها أصلا، ونهب ثرواتها ومقومات نهضتها.

بالنسبة للجندي الأميركي سلوكيات التنميط وأحلام اليقظة التي حركته لخوض حروب عالمية فيما وراء المحيطات والبحار استهلكت واستنفذت ولم تعد تنفع ولا تدفع، وهكذا لم يعد ينفعه تصور ولا خيال ولا اجتياف (استدخال).

الواقع الشاخص أمام حس الجندي الأميركي مرّ إلى أبعد الحدود، وقياداته العسكرية تلعب وتلهو وتتنعم في القصور والفنادق والمواقع المحصنة.

كل هذا وغيره فجر في النفس العسكرية للجندي الأميركي حالة من الصراع النفسي المرير: هل يقدم أم يحجم؟ هل يذعن للأوامر العسكرية أم يعصيها؟ ناهيك عن فعل صراع الدوافع المكبوتة في الأعماق وغياهب اللاشعور.

كل هذا وبصورة تفاعلية ديناميكية قتل الروح المعنوية في أعماق الجندي الأميركي، وفجر في داخله ما يعرف بعصاب الحرب (War Neurosis) الذي أخذ بفعل التراكم التدريجي يجمع في طياته وخباياه كزمرة مرضية أعراض المخاوف والقلق والوساوس والهواجس القهرية، وأعراض الهستيريا التي تدفع بصاحبها في حالة الشدائد الخارجية والداخلية رغم أنفه إلى الإقرار بالهزيمة الروحية والنفسية والاستكانة والضعف والاستسلام وتجسيدها على هيئة انتحار.

لم تعد ذكريات وصور ومشاهد كوارث وفظائع الحرب وكوابيسها تحتمل، ففي لحظة ضعف ستنال من مسببيها ومخططيها ومنفذيها ولو بعد حين.

أعراض ما بعد الصدمة (Post Stress Traumatic Disorders) من منظور نفسي إكلينيكي ما لم تبدد وتعالج أولا بأول، ستكون حتما قاتلة.

ويبقى السؤال الاستنكاري، كيف لا يحدث كل هذا للجندي الأميركي وهو يعمل في ظروف حرب قذرة حرجة وخطرة، في أجواء كر وفر وحرب عصابات لم يألفها إلا في عوالم وخيالات سينما هوليود؟

كيف لا يحدث كل هذا والجندي الأميركي في معركة حقيقية فيها ما فيها من فظائع القتل والجرح والبتر والأسر وتدمير العتاد؟ كيف لا يحدث كل هذا والشوق يعتصر القلوب للأهل والأقرباء والأصدقاء والأحبة؟ كيف لا يحدث الانتحار والغياب قد طال، عبثا ودون جدوى؟

لقد أدى الإحساس العميق بالتورط في مستنقع الحرب القذرة في كل من العراق وأفغانستان إلى تفاقم حالات جنون الريبة والشك في صفوف المجندين والمجندات، كما أن لتفاقم حالات الذعر والهلع من المعلوم قبل المجهول دورهما الكبير في خلق اليأس والإقدام على الانتحار.

وأخيرا، وفي مقابلة مقتضبة مع هيئة الإذاعة البريطانية حول دوافع الانتحار في صفوف الجيش الأميركي من وجهة نظر نفسية، قلت إن "الإفراط في الطخطخة والقتل المستعر والمستمر في العراق وأفغانستان، والفشل والإحباط، والإحساس بالذنب، وفقدان الأمل، وجلد الضمائر لأصحابها.. ستقف وراء سلوك الانتحار".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.