وثيقة الإعلام العربي

وثيقة الإعلام العربية



عبد الستار قاسم

بعض نصوص الوثيقة
تفنيد البنود
من المستهدف؟
أزمة القادة

توصل وزراء الإعلام العرب بتاريخ 12/2/2008 إلى مسودة وثيقة نعتوها بالشرف حول القنوات الفضائية العربية، وهي مكونة من اثني عشر بندا, وقد تلا السيد أنس الفقي وزير الإعلام المصري نص الوثيقة أمام الإعلام ووعد بأن تكون مصر أول من يطبقها.

الوثيقة مثيرة للجدل لأنها تمس قضايا حيوية من شأنها أن تؤثر على مساحة حرية التعبير التي توفرها بعض الفضائيات العربية للمواطن العربي.

بداية أشير إلى أن أغلب الفضائيات العربية عبارة عن فضائيات رسمية (أي تابعة للحكومات) أو شبه رسمية يقوم عليها أشخاص أو مجموعات من النظام السياسي الحاكم أو مؤيدة بقوة له. بالإزاحة، من حيث أن وزراء الإعلام العرب يرون خللا في أداء الفضائيات العربية فإنهم يشيرون إلى الفضائيات غير الرسمية.

الافتراض أن الغيارى على حرية الرأي والتقاليد العربية يحرصون على بقاء فضائياتهم ضمن ما يعتبرونه أسس وأصول الالتزام الوطني والأخلاقي.

بعض نصوص الوثيقة
هناك نصوص مثيرة للجدل تضمنتها الوثيقة ألخصها بالتالي:
1- تدعو الوثيقة إلى حرية التعبير لكنها تضيف بأنه يجب ممارسة هذه الحرية وفق "الوعي والمسؤولية بما من شأنه حماية المصالح العليا للدول العربية".

2- تدعو الوثيقة إلى احترام الدول وقادتها وذلك بالابتعاد عن "تناول قادتها أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح".

"
وثيقة تنظيم البث الفضائي تدعو إلى حرية التعبير لكنها تضيف بأنه يجب ممارسة هذه الحرية وفق "الوعي والمسؤولية بما من شأنه حماية المصالح العليا للدول العربية"
"

3- تطالب الوثيقة بضرورة "احترام خصوصية الأفراد والامتناع عن انتهاكها بأي صورة من الصور، والامتناع عن التحريض على الكراهية أو التمييز القائم على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الدين، والامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب مع التفريق بينه وبين الحق في مقاومة الاحتلال".

4- تدعو الوثيقة إلى ضرورة الالتزام "بالقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع العربي، والامتناع عن بث كل ما يسيء إلى الذات الإلهية والأديان السماوية والرسل والمذاهب والرموز الدينية، والامتناع عن بث وبرمجة المواد التي تحتوي على مشاهد أو حوارات إباحية أو جنسية صريحة".

تفنيد البنود
البنود أعلاه جدلية جدا وتثير العديد من الناس المهتمين، وتستقطب اهتمام المحللين الذين يدرسون حركة الأنظمة والشعوب العربية. وفيما يلي بعض ملامح الجدل:

أولا: حرية التعبير وعلاقتها بالوعي والمسؤولية. من الصعب جدا أن يصدّق أحد في العالم بأن الحكومات العربية حريصة على حرية التعبير وأنها تدعو إلى احترامها.

المواطن العربي من المحيط إلى الخليج يعاني من قمع حرية التعبير، وهو يعي تماما المخاطر المترتبة على قول الرأي بحرية وانفتاح، ويعرف تماما أن الصحف العربية والمجلات والنشرات لا تتعاطى مع الرأي الحر إلا إذا كان ضمن الحدود المفروضة من نظام الحكم.

وعلى المستوى العالمي، تشهد المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والحريات بأن الحكومات العربية على كفاءة عالية في قمع الرأي وحرية التعبير.

أما قول الوثيقة العربية بضرورة تقيد الحرية بالوعي والمسؤولية فينقصه تعريف المصطلحات بدقة. ماذا يعنون بالوعي والمسؤولية، ومن الذي يحدد المعاني؟ هل سيتم رفع الأمر إلى مجلس من المفكرين أو القضاة أو المحكمين أو أساتذة الفلسفة والمنطق والسياسة للاتفاق على صياغة واضحة لا لبس فيها؟

أم أن الحكومات ستحدد كل منها في منطقة نفوذها معنى كل من الوعي والمسؤولية؟ أما مسألة المصالح العليا للدول العربية فشائكة جدا أيضا، وهي مسألة طالما وقفت عائقا كبيرا أمام تطوير الفكر العربي والاندفاع إلى الأمام في مختلف المجالات.

حتى الآن ووفق المعطيات التاريخية، ما تعنيه الحكومات العربية بالمصالح العليا هو مصالح الأنظمة العربية وليس مصالح الأمة العربية أو الشعوب العربية.

"
لم يعد لدى الإنسان العربي طاقة على سماع مقولة المصالح العليا للدولة أو للشعب والأمة إذ سمع الكثير في السابق، وأثبتت له تجاربه بأن المصلحة العليا هي في الغالب الضحية
"

تعتبر الأنظمة العربية أن مصالحها هي مصالح الأمة، وهذا ليس بالضرورة صحيحا، وقد تتناقض مصالح النظام مع مصالح الشعب. أنا كمواطن عربي أرى أن من مصلحة الأمة والدول العربية منفردة أن تزول الأنظمة العربية القائمة حاليا لأنها تشكل معوقات كبيرة في وجه التقدم والبناء الإنساني والحضاري. هل لدى الأنظمة العربية استعداد لفتح وسائل الإعلام الرسمية لنقاش علني وحر لهذه المسألة المهمة والجوهرية؟

لم يعد لدى الإنسان العربي طاقة على سماع مقولة المصالح العليا للدولة أو للشعب والأمة إذ سمع الكثير في السابق، وأثبتت له تجاربه بأن المصلحة العليا هي في الغالب الضحية.

ثانيا: انتقاد القادة والرموز الوطنية والدينية. اصطدم المواطن العربي دائما بوسائل إعلام تضفي صفات القدسية والعظمة والعبقرية على القادة العرب، ولكنه وجد فرصة في قلة قليلة من الفضائيات العربية ليعبر عن رأيه بهؤلاء العباقرة العظام.

الحكومات العربية تجد في هذه الفرصة خللا كبيرا يجب إصلاحه وذلك بقطع دابره ومعاقبة الفضائيات التي يفتح العربي فمه من خلالها. واضح حتى الآن أن الحكام العرب لا يريدون النزول من عليائهم والاعتراف بأنهم بشر يخطئون ويصيبون، ولهم من يؤيدهم ومن يعارضهم.

هذا أمر يعبر عن مشكلة في التقاليد العربية التي تعتبر الانتقاد سبابا وشتائما. يصعب على "العقلية العربية" أن تتقبل النقد، وتستعيض عنه بالغيبة والنفاق.

هذه ليست قاعدة مطلقة لكنها عبارة عن ظاهرة تعرقل الصراحة والوضوح، وتؤثر سلبا على الرغبة في التقدم وتحقيق الإنجازات على المستويين المادي والأخلاقي.

ومن التراث العربي، كلما ارتقى المرء في منصبه أو وضعه الاجتماعي يصبح أكثر حساسية للنقد، وتشتد لديه الرغبة في الانتقام من منتقديه. ولهذا لم يكن غريبا أن يقوم حكام عرب باعتقال منتقديهم وتعذيبهم وقتلهم والتنكيل بعائلاتهم وأولادهم وحرمانهم من لقمة الخبز.

لقد أشبعنا العديد من الحكام العرب تحذيرا من التعامل مع إسرائيل واعتبروا التعامل معها خيانة، وأعدموا أناسا تعاملوا معها بتهمة الخيانة العظمى. لماذا لا يقبل المتعاملون مع إسرائيل منهم وصفهم بالخيانة؟ هل هذه شتيمة أم تقرير لحقيقة موضوعية وضعوها هم بأنفسهم؟

قادة عرب وفلسطينيون يتشنجون الآن من فضائيات عربية لأنها تفسح مجالا أمام مواطنين يتهمون القادة بما اتهموا الناس به، ويعملون على إغلاق هذه الفضايات.

أما عن الرموز الوطنية والدينية ففيها مشكلة أيضا. من هي هذه الرموز ومن الذي يحددها؟ من هو رمز بالنسبة لشخص معين قد يكون عاهة لشخص آخر، ومن هو وطني بالنسبة لك قد يكون خائنا بالنسبة لي، ومن هو عبقري بالنسبة لجهة معينة قد يكون غبيا بالنسبة لجهة أخرى، وهكذا.

تنطبق الجدلية أيضا على الرموز الدينية من حيث أن العديد من "رجال الدين"، الآن يخدمون السلطان أكثر مما يخدمون الله، وهم يخشون المخابرات أكثر مما يخشون رب العالمين.

"
خصوصية الأفراد والتحريض على العنف والإرهاب تثير جدلا هي الأخرى, فنحن بحاجة ماسة إلى احترام هذه الخصوصية، لكن وزراء الإعلام العرب لم يلاحظوا أن أكثر من يحشر أنفه في شؤون الناس الخاصة هي أجهزة المخابرات العربية
"

ثالثا: خصوصية الأفراد والتحريض على العنف والإرهاب. بالتأكيد نحن في الوطن العربي بحاجة ماسة إلى احترام خصوصية الأفراد والابتعاد عن التدخل في شؤونهم، والمس بنشاطاتهم وعلاقاتهم الخاصة، وكثيرون يتمنون تطوير عادات اجتماعية جديدة على حساب عادات تعرقل تقدم الفرد وتتغذى على إبداعاته.

لكن وزراء الإعلام العرب لم يلاحظوا أن أكثر من يحشر أنفه في شؤون الناس الخاصة هي أجهزة المخابرات العربية. الحكام العرب يريدون أن يعرفوا تفاصيل التفاصيل عن كل مواطن عربي: عن أمه وأبيه وعن مدى حبهما أو تنافرهما، وعن أصدقائه وصحبه وأخته وذويه والطعام الذي يتناوله ونوع العطر الذي يشتريه لخطيبته وعلى أي جنب ينام؟

ربما تأتي بعض الفضائيات العربية أحيانا على الحياة الخاصة للشخص، وهذا لا يجوز، لكن هذا الذكر لا يشكل جزءا بسيطا من الموبقات التي تقترفها المخابرات العربية بحق الشؤون الخاصة للناس. المخابرات العربية تعتقل أحيانا أبناء المطلوبين أو تطرد بناتهم من الوظائف العامة وتحاربهم بمتطلبات الحياة الأساسية.

أما مسألة التحريض على العنف فلها ما يبررها شريطة أن نعرف عن أي عنف يتحدث وزراء الإعلام العرب. هل يتحدثون عن عنف الأنظمة العربية ضد المواطنين والمعارضين، أم عنف قمع الرأي وحجبه عن الآخرين؟ أم عنف في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأميركي للعراق؟

ثم أن كلمة الإرهاب بحاجة إلى تعريف بخاصة أن أنظمة الحكم تمارس إرهابا مبرمجا ومغطى قانونيا ضد المواطن العربي. المواطن العربي يخشى المخابرات العربية أكثر من أي جهة أخرى لأنها تطارده وتلاحقه وأماتت قلبه مع الزمن.

لم يقل وزراء الإعلام العرب شيئا عن التحريض على الخنوع وقبول المذلة. هناك فضائيات عربية تساهم بصورة مباشرة في قتل روح المقاومة لدى المواطن العربي، وتلهيه في الكثير من القضايا التافهة أو الفن الرخيص، ولا تعمل على تنمية وعيه بقضايا الناس سواء كان على مستوى الدولة أو الأمة.

هناك فضائيات عربية كفيلة ببرامجها المذلة الاستسلامية الخنوعية أن تهزم جيوشا عربيا تتحفز للقاء العدو، ويشعر المرء بأنها فضائيات أشد أسرلة من الإسرائيليين وأكثر أمركة من الأميركيين.

أعتقد أن الجمهور العربي يتفق مع ما ورد في الوثيقة على ضرورة الامتناع عن بث مشاعر الكراهية بين الناس على طول الوطن العربي وعرضه.

لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الأنظمة العربية هي التي تغذي الكراهية بين الشعوب العربية وذلك خدمة لأغراض سياسية، وهي التي تغذي القبلية والعشائرية ضمن سياسة فرق تسد من أجل إطالة أمد الحكم.

"
الملاحظ أن الفضائيات ذات التوجهات الدينية والقومية لا تنزلق إلى الانحطاط الأخلاقي أو الإباحية، بل تلك ذات التوجهات الخنوعية والتتويهية التي تعمل على تعهير المواطن العربي وهي فضائيات مملوكة لأمراء أو أقطاب في الحكم أو مقربين من الحكم
"

من الذي غذى الكراهية بين الأردنيين والفلسطينيين، بين الجزائريين والمغربيين، اليمنيين والعمانيين، القطريين وعرب نجد، الكويتيين والعراقيين، اللبنانيين والسوريين.. الخ؟

رابعا: النقطة الرابعة مهمة جدا، لكن تطبيقها يحتاج إلى وضع منظومة أخلاقية يصيغها علماء الأمة وليس الحكام. لا توجد ثقة بالحكام لكي نقول بأنهم أمناء على وضع منظومة أخلاقية راقية واضحة يلتزم بها الناس.

إنما من الملاحظ أن الفضائيات ذات التوجهات الدينية والقومية لا تنزلق إلى الانحطاط الأخلاقي أو الإباحية، بل تلك ذات التوجهات الخنوعية والتتويهية التي تعمل على تعهير المواطن العربي هي التي تتبنى برامج ذات مستوى متدن غير لائق، وهي فضائيات مملوكة لأمراء أو أقطاب في الحكم أو مقربين من الحكم.

من المستهدف؟
حاولت استعراض الفضائيات العربية لأهتدي إلى تلك التي تقض مضاجع الأنظمة العربية. من تلك المشهورة والتي يشاهدها المواطن العربي تبرز ثلاث فضائيات: الجزيرة والمنار والأقصى.

هناك فضائيات أخرى مثل الرافدين والزوراء، لكنها لا تحوز على نسبة مشاهدين عالية حتى الآن. الجزيرة عبارة عن قناة إخبارية تنقل الخبر بأمانة، وتفتح المجال أمام وجهات النظر المختلفة إلى درجة أنها تستضيف أحيانا صهاينة.

أما المنار فقناة قومية وطنية دينية تعمل على استنهاض العرب والمسلمين في مواجهة الغزو الخارجي والتخلف الداخلي، وهي تمنح فرصا أمام الرأي الآخر إلى درجة أنها تبث ما يقوله جعجع وجنبلاط.

أما الأقصى فتحكي مأساة غزة وتحرض العرب والمسلمين ضد الصهاينة الغزاة، وتفضح الضعف العربي في مواجهة إسرائيل وأعوانها.

أزمة القادة
في هذا العالم الذي قلصت مساحته وسائل الاتصال وحركة تبادل المعلومات يشعر الحكام العرب بعجزهم وباتوا يعرفون أن أنماط حكمهم قد أكل عليها الدهر وشرب.

وكلما ضاقت الدنيا في وجوههم طفقوا يبحثون عن إجراءات جديدة تخنق المواطن العربي عسى في ذلك ما يبقيهم في الحكم. إنهم مأزومون نفسيا، ولا يجدون أمامهم إلا إجراءات تعجّل من زوالهم. هم لا يتعظون من الحكمة التاريخية القائلة بأن ارتفاع الضغط يولد الانفجار.
ـــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.