استقلال غزة

استقلال غزة



عبد الستار قاسم

حصار غزة وضيق العيش
غزة تتكيف
غزة المحررة
الاستقلال وبرنامج منظمة التحرير

لم يكن من الفطنة أن يهب فلسطينيون في وجه إسرائيل بعدما أعلنت أنها ستنسحب من غزة مطالبين إياها بتوقيع اتفاق معهم قبل الانسحاب. صرخ أناس كثر، كنت أنا أحدهم، قائلين "فليذهب الاحتلال إلى الجحيم" وبدأت مراحل التحرير تتبلور.

لقد ناضل الفلسطينيون بطرق مختلفة منذ أن صحوا على أنفسهم قليلا من مآسي وآلام التشرد والتهجير من أجل الحرية، من أجل تحرير الأرض، وكان من المتوقع أن يخرج الناس محتفلين بزوال الاحتلال عن قطاع غزة، أو عن جزء منه، وكثمرة للتضحيات التي قدموها عبر السنين الطوال. لم تقم الاحتفالات، واستمر بعض الفلسطينيين بالتشكيك بمغزى الانسحاب، وأصروا على توقيع اتفاقيات مع إسرائيل بشأن المعابر.

تأذى الوضع الفكري الفلسطيني إلى درجة أن بعضهم أخذ يعتبر خروج الاحتلال من غزة عبارة عن مؤامرة، وأن الاحتلال مصمم على إقامة إمارة إسلامية في غزة بديلة للدولة الفلسطينية على الضفة الغربية والقطاع.

لقد كانت الجدلية متدنية جدا في مستواها الفكري، وغاب عن العديد أن إسرائيل كانت تعتبر غزة هما كبيرا ومكلفا من الناحيتين الأمنية والمالية. كانت تبحث إسرائيل عن مخرج لتبرر خروجها من غزة، فجاء شارون وامتلك الجرأة الكافية ليعترف بالهزيمة أمام صمود الفلسطينيين في غزة.

هنا لا أعني أن المقاومة الفلسطينية قد دحرت جيش الاحتلال ميدانيا، لكن ما أعنيه أن المقاومة بقيت صامدة بحسناتها وسيئاتها، وسلبياتها وإيجابياتها إلى أن أصبح الاحتلال غير قادر على تحمل أعباء احتلاله.

حصار غزة وضيق العيش
إذا تتبعنا سيرة حياة الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال، نجد أن حياتها اليومية والمدنية كانت قاسية جدا وصعبة. قدمت الشعوب التضحيات الجسام، وتحملت إجراءات القوى المحتلة التعسفية والقمعية، وعانت من الفقر والجوع وشظف العيش.

كل القوى المحتلة حاربت الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بلقمة الخبز، وعملت على تفتيت الناس، وبث الفساد في صفوفهم، وجندت العملاء والسماسرة، وعملت بكل ما في وسعها لإضعاف المقاومين والداعمين لهم.

"
الذي يريد أن يبقى متمطيا على فراش وثير، ولا يملك سوى التصريحات النارية ضد الاحتلال، فلن يجد يوما للتحرير والاستقلال طريقا, والتجربة التي تمر فيها غزة قاسية وصعبة، لكنها هي الحياة التي تنبئ بما هو أفضل
"

إذا نظرنا إلى أوضاع الضفة الغربية وغزة منذ احتلال عام 1967، نجد أنهما عاشتا وضعا شاذا إلى حد كبير، ومختلفا عن الأوضاع التي عاشتها الجزائر وفيتنام والهند وغيرها من الدول التي عانت من الاحتلال والاستعمار.

عاشت المناطق المحتلة عام 67 بخاصة الضفة الغربية حياة يومية مرفهة، مقارنة بحياة عدد من الشعوب العربية مثل الأردن ومصر والجزائر والسودان. بقيت الأسواق مليئة بالمواد الغذائية، وبقي الناس، إلى حد كبير، قادرين على الشراء وتسيير حياتهم اليومية. لم يجع من الناس إلا نسبة قليلة، وبقيت سوق العمل الإسرائيلية مفتوحة أمامهم لسنوات طويلة، واستمرت المساعدات المالية تتدفق من مصادر عدة.

المتجول بالأسواق الفلسطينية يجد مواد استهلاكية لا يفكر فيها إلا الأثرياء الذين ينعمون بالاستقرار مثل "الكورن فليكس" والمثلجات الإسرائيلية وأنواع الشوكولاتة الفاخرة.

من المتوقع أن يعاني الناس تحت الاحتلال، وأن تحتشد كل قواهم في مواجهة المحتل. ومن المتوقع أن تشتد قبضة الاحتلال وإجراءاته مع اشتداد المقاومة. لكن في الحالة الفلسطينية، تطورت عقلية غريبة وشاذة أيضا من حيث أنها أخذت تعتبر المقاومة اعتداء على الناس من حيث أنها ترفع من وتيرة انتقام الاحتلال.

العديد من الناس ومن بينهم قادة فصائل وقادة سلطة أخذوا يلومون المقاومة على كل ضائقة جديدة يفرضها الاحتلال، ولا يجدون في الاحتلال سببا كافيا للتضييق على الناس؛ وبدا هؤلاء على أن قلوبهم تفيض رحمة بالناس، وأن من واجبهم الوطني القضاء على المقاومة الفلسطينية من أجل أن تبقى البيوت معمورة بالمواد الاستهلاكية.

لقد تغلب لدى هؤلاء الطعام على التحرير، وتغلب رغيف الخبز على الحرية. هذه ظاهرة ما زالت قائمة، ولها منظروها الذين يتحدثون دفاعا عنها بصراحة.

في ظل الأوضاع القائمة حاليا في الضفة وغزة، واضح أن أوضاع غزة هي التي يقبلها المنطق التاريخي، بينما الضفة الغربية هي التي تعيش وضعا مختلفا وكأن الاحتلال لا يشكل أزمة أو مشكلة.

هذا لا يعني أنني أدعو إلى شظف العيش، لكنني أقول إن الذي يريد تحرير الوطن لا بد أن يواجه قسوة الحياة ومرارتها، ولا بد أن تمر عليه أيام جوع لا يستطيع معها إطعام أطفاله.

أما ذلك الذي يريد أن يبقى متمطيا على فراش وثير، ولا يملك سوى التصريحات النارية ضد الاحتلال، فلن يجد يوما للتحرير والاستقلال طريقا. التجربة التي تمر فيها غزة قاسية وصعبة، لكنها هي الحياة التي تنبئ بما هو أفضل.

غزة تتكيف
يلاحظ المتتبع لتطورات أنماط المعيشة في غزة أن جمهور الناس بدؤوا يتكيفون مع ظروف الحصار بتطوير أنماط معيشية جديدة تتغلب على ما يفرضه الحصار من تحديات.

وقد ولّد شحّ مشتقات الوقود النفطية عودة إلى الأيام الغابرة من حيث الاعتماد على الوسائل التقليدية في الطهي، وولد شح الغاز إعادة إنتاج المواقد الطينية القديمة، وإحياء بوتقة الكاز (الكيروسين) اللهبية (البابور) وولد انقطاع الكهرباء الاعتماد على الطاقة الشمسية. وفوق ذلك، تكاثرت الأنفاق عبر الحدود الفلسطينية المصرية الافتراضية لتوفر للناس الكثير من المواد المعيشية، ولتؤثر سلبا على قيمة الحدود الاستعمارية.

"
المتتبع لتطورات أنماط المعيشة في غزة يلاحظ أن جمهور الناس بدؤوا يتكيفون مع ظروف الحصار بتطوير أنماط معيشية جديدة, وهذا بالضبط ما دفع إسرائيل والعرب إلى ضرب حصار على غزة، من أجل تغيير الوضع السياسي 
"

التكيف مع الأوضاع الجديدة لم يكتمل بعد، وواضح أن إبداعات الناس في مواجهة الحصار تتواصل يوما بعد يوم، وهي تنبثق تدريجيا لتؤكد أن التحدي يولد تحديا مضادا، وأن الألم يولد طاقة إنسانية هائلة لامتصاص الألم ورده على الأعداء.

ما زال أمام أهل القطاع مشاكل ارتفاع الأسعار، وتوليد الكهرباء على مدار الساعة، وتوفير المواد والأجهزة الطبية، الخ. لكن ما دامت النية معقودة على الصمود، فإن الإنسان القوي لا يعدم وسيلة. وإذا كان للشعب الفلسطيني أن يتحرر من نير الاحتلال فإن نموذج الصمود القائم على فلسفة امتصاص الألم ورده وتفريغ محتواه يجب أن يُعمم ليشمل الضفة الغربية وأماكن أخرى.

هذا التكيف مع الظروف الصعبة كان يجب أن يكون المنطق الذي يحكم الناس الواقعين تحت الاحتلال. لكن السياسة الإسرائيلية ومجمل السياسات العربية والفلسطينية على مدى سنوات الاحتلال عملت على تحويل الناس إلى مستهلكين ينعمون بنوع من الرفاه في ظل الاحتلال، وذلك من أجل منع المقاومة أو إجهاضها بسهولة.

ولهذا لم يبق الاحتلال مجرد احتلال أرض، بل أصبح أيضا احتلالا للكهرباء والماء والمواد الاستهلاكية الكمالية، وخطوط الاتصال والبث الإعلامي، الخ.

دخل الاحتلال الإسرائيلي في بيوت الناس وعقولهم وبطونهم بحيث أصبح من الناحية العملية عبارة عن مصدر للراحة والاسترخاء، على الأقل لدى عدد لا بأس به من الناس.

وهذا بالضبط ما دفع إسرائيل والعرب إلى ضرب حصار على غزة، على اعتبار أن الناس لا يطيقون حياة الشح وظلمة الليل فينفجرون من أجل تغيير الوضع السياسي.

غزة المحررة
كان من المفروض أن غزة أصبحت أرضا فلسطينية محررة مستقلة منذ اليوم الأول الذي خرج فيه الاحتلال. كما ذكرت بداية، لم يكن من الحكمة أن يطلب الفلسطينيون اتفاقيات مع الاحتلال، وكان عليهم أن يبدؤوا بترتيب أوضاع غزة لتكون أرضا فلسطينية محررة تشكل قاعدة للانطلاق من أجل استعادة كامل الحقوق الفلسطينية.

لكن يبدو أن عربا وفلسطينيين لم تعجبهم فكرة الحرية والتحرير، وشنوا حملة واسعة جدا للتأكيد على أن غزة باقية تحت الاحتلال، ويجب الاستمرار في العملية التفاوضية من أجل إقامة الدولة.

وذهب بعضهم للقول بأن انسحاب إسرائيل من غزة عبارة عن مؤامرة صهيونية تستهدف إفساد "المشروع الوطني الفلسطيني" الذي أنا شخصيا لا أعرف ملامحه.

مع هذا التطور في حيثيات الحصار، وقدرة قطاع غزة على استحضار اهتمام عالمي واسع خاصة من قبل وسائل الإعلام وجمعيات حقوق الإنسان، فإن على غزة أن تواصل صمودها وأن تقرر بألا تعود إلى الاحتلال ثانية.

يجب ألا تعود غزة تستجدي الطحين والوقود من إسرائيل لأن في ذلك ما يجعلها باستمرار تحت المطرقة الصهيونية، وعليها أن تصر على الانفلات من قيد الاحتلال، أن تصر على مصادر أخرى للمواد المعيشية، وأن تتحرر من العملة الإسرائيلية، وأن تفتح الحدود مع مصر. لكن عليها أن تتوخى الحذر حتى لا تقع تحت طائلة الأنظمة العربية التي بالتأكيد ستعمل على تحويل القطاع عن قضيته الفلسطينية.

بإمكان القطاع أن يعتمد في سيره نحو الاستقلال عن الاحتلال، وتشكيل قاعدة جغرافية جديدة للتحرير على وثيقة الاستقلال الفلسطينية الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول 1948.

أعلن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة الاستقلال، وتم تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي سميت حكومة عموم فلسطين.

الوثيقة هذه هي وثيقة الاستقلال الشرعية الوحيدة لأنها صدرت عن مجلس وطني فلسطيني حظي بالشرعية في حينه، أما وثيقة عام 1988 فغير شرعية لأنها لم تلغ وثيقة الاستقلال الأولى، ولأنها خالفت الميثاق الوطني الفلسطيني الذي كان يعتبر دستور منظمة التحرير الفلسطينية.

الاستقلال وبرنامج منظمة التحرير

"
وضع غزة الآن من ناحية التحرر من الاحتلال أفضل بكثير من وضع الضفة الغربية من حيث أن السلطة الفلسطينية في الضفة تعمل وكيلا أمنيا لإسرائيل، وهي لا تقوى على تبني أي سياسة تحرير
"

خالف البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الميثاق الوطني الفلسطيني لأنه قلص فكرة التحرير إلى فكرة السلطة الفلسطينية على أي أرض يتم تحريرها.

على افتراض أن البرنامج شرعي، فإن إقامة سلطة فلسطينية في غزة يتناسب تماما معه. غزة غير مكبلة بشروط تجعل من التحرير أمنية بعيدة المنال، وهي فلتت من عقال الاحتلال رغما عنه، ومن الممكن اعتبارها أرضا محررة.

وضع غزة الآن من ناحية التحرر من الاحتلال أفضل بكثير من وضع الضفة الغربية من حيث أن السلطة الفلسطينية في الضفة تعمل وكيلا أمنيا لإسرائيل، وهي لا تقوى على تبني أي سياسة تحرير.

إنها تحصل على أموالها بموافقة إسرائيل، وعليها في المقابل أن تلاحق كل مقاوم بغض النظر عن الجهة التي ينتمي إليها. بل من الواضح أن الاحتلال في الضفة تتم ممارسته مباشرة من قبل إسرائيل وبالوكالة من قبل فلسطينيين.

التحرر من الاحتلال حاصل إذا أصر الناس في غزة على عدم استدعاء الاحتلال من بوابة الاحتياجات المعيشية، والاستقلال مؤكد إذا تم ترسيخ التحرير. وإذا كان لغزة أن تمارس الاستقلال فإنه من الضروري الحرص على مسألتين:

1- احترام حق كل الجهات والفئات بالمشاركة في أعمال الاستقلال إلا إذا كانت هناك محاذير أمنية وطنية ومدنية.

2- ترتيب الأوضاع لكي تكون غزة منطلقا لاستمرار عملية التحرير واستعادة كامل الحقوق الفلسطينية.
ــــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.