لماذا نقرأ و نكتب؟

لماذا نقرأ ونكتب



ماذا نفعل بالضبط عندما نقرأ؟ ما وراء هذه العادة، وبالنسبة للبعض هذا الإدمان؟

من المؤكد أن الظاهرة -وأقصد تحديدا القراءة الطوعية- تنطلق يوم ننتبه أن العالم لا يتوقف عند حدود بيتنا أو قريتنا أو بلادنا، أن مركزه ليس ذاتنا.

"
لا مناص من القراءة لكل من يريد لنفسه الحد الأدنى من الحرية والوعي والفعالية.. لمن يريد شيئا من راحة البال بخصوص كل الأسئلة التي تؤرقنا، والتي لم نجد أجوبة شافية عنها عند من قادوا أولى خطانا
"

تأتينا آنذاك رغبة عارمة في الخروج إلى رحابه الواسعة، وعادة تكون قصص الرحلات أسهل وأقصر الطرق إليها في أولى مراحل العمر.

أليست القراءة هنا رحلة بلا عناء، والكاتب هو من تكلف كل مشاقها، موفرا علينا مصاعب الرمضاء والجليد وكل ما عانى من أخطار الطريق؟ أليست بديلا عن السفرة التي لم تسعفنا الظروف بالقيام بها؟.

وهل من خيار آخر ونحن لا نستطيع مهما سافرنا، في إطار ميزانيتنا المحدودة من الزمان، استكشاف عالم بلا حدود؟.

ومن فضائل القراءة أيضا أنها تترك لنا مجال حرية الخيار وأن لها، خلافا للروايات المحكية، إمكانيات كأنها غير محدودة.

هي لا تقودنا فقط إلى مجاهل الأمكنة التي لا قدرة لنا على الوصول إليها وإنما تأخذنا إلى مجاهل الزمان عبر قصص الماضي، وإلى قصص المستقبل مع كتاب الخيال العلمي.

بوسع القراءة إذن إلغاء الحاجز بين الواقع والخيال. كيف لا وهي التي تعلم أصدق العلم أن عالمنا مصنوع من هذا وذاك. وبوسعها أيضا القفز فوق حاجز كثرة الآدميين واستحالة الوقوف عند مسيرة كل واحد وذلك عندما تفتح لنا الفضاءات المغلقة لأغرب النماذج أو لأكثرها انتشارا.

هكذا نستكشفهم عبر نصوص الشعر والأدب والسير الذاتية ونحن بأمان، لا نتهم باستراق النظر من ثقب المفاتيح أو بالتلصلص على أسرار الناس.

وإبان هذا التجوال في الذوات الأخرى، يمكننا التأكد أيضا من أننا نختلف عنها.. ولا نختلف كثيرا، فنطمئن لكوننا لسنا وحدنا العالقين في عالم يبدو بلا منفذ لأحد، وأننا لسنا أحسن، أو أسوأ، أو أكثر ضياعا من بقية البشر.

تبقى القراءة رغم كل إمكانياتها حلا منقوصا. صحيح أنها توفّر علينا جهد الهرولة إلى كل مكان قصي، أو طرق باب كل ذات تثير فضولنا، أو الانطلاق من الصفر في إشكاليات تقدم التفكير عليها بعيدا.

لكن كم من نواقص لا ينفع الإدمان في تجاوزها بل ويزيد طينها بلة!.

ثمة في البداية أنها لا تعوّض التجربة والويل لمن يحاول أن يجعلها بديلا لها.. أو مهربا منها.

ثمة أنها تجمع بعض أجزاء "بوزل" العالم، لكن قطعها القليلة المتناثرة نادرا ما تأخذ شكلا مرضيا. أضف لهذا أنه لا نهاية لها لأنه لا نهاية للعالم الذي ترصده أو للذات التي تريد سبر أغوارها.

هذا ما يجعل كل كتاب نقرؤه بمثابة مفتاح نعمله في باب، يفتح لنا فضاء مغلقا بسبعة أبواب، وكل باب نفتحه بنص جديد يفتح فضاء بسبعين بابا، فنتقدم بالقراءة ونحن مثل من يتبع شعاع مصباح يضيء بضع خطوت أمامنا.. وكل ما حولنا، وبعيدا أمامنا، مناطق غارقة في الظلام.

مفارقة القراءة إذن أنها تزيدنا جهلا كلما زادتنا علما، أنها تعمّق وعينا بجهلنا فيأتينا يوما الإحباط والهلع. لذلك يفضّل البعض النصوص المغلقة التي تدعي حمايتنا من الدوار.

الأخطر من هذا كله أن بوسع القراءة أن تضللنا، أن تقودنا إلى مسارب لا تفضي إلى شيء، أن تجعلنا نركض وراء السراب.

إنها وضعية صعبة.. وأصعب منها وضعية من لا يقرأ، وهو مثل قشة طافية على سطح الأحداث تطوّح بها هنا وهناك رياح صدف وضروريات مجهولة الوجهة والمصدر.. ولا يمكن حتى التحكم السحري فيها لأن مثل هذا التحكم لا يكون إلا بالقراءة.

لذلك لا حل غيرها لنعلم من نحن، من هم هؤلاء الذين يشاركوننا في قافلة الحياة، ما هذا العالم الذي وجدنا أنفسنا فجأة بين أحضانه.. بين أنيابه ومخالبه.

"
الإضافة الكبرى للحضارة هي أنها تخلق فضاء إضافيا هو فضاء اللغة، ندخله وراء دليل سلاحه القلم، بحثا عن غنيمة هي دوما شكل أو آخر من المعرفة نأخذها من فكره ومن تجربته
"

نعم لا مناص من القراءة لكل من يريد لنفسه الحد الأدنى من الحرية والوعي والفعالية.. لمن يريد شيئا من راحة البال بخصوص كل الأسئلة التي تؤرقنا، والتي لم نجد أجوبة شافية عنها عند من قادوا أولى خطانا.

لهذا جعلنا من الكاتب الدليل الذي يواصل ويعوض أدلّة الطفولة.

بخصوص الأدلة، من يتذكّر اليوم أننا عشنا تسعة أعشار مائة ألف سنة من تاريخ الجنس الآدمي ونحن نتحرك في كل اتجاه لنجني الثمار ونصيد الحيوان سدّا لحاجيات الجسم..

والدليل المسلّح من يفتح لنا الطريق؟ من يعي أن تراثا كهذا لا ينسى، وأن الحضارة لا تلغي عقلية لها مثل هذه الجذور؟ كل ما في الأمر أنها عقّدت حاجياتنا لتجعل من المعلومات والأفكار والقيم ضروريات لا تقل أهمية عن الشرب والأكل.

الإضافة الكبرى للحضارة إذن أنها تخلق فضاء إضافيا هو فضاء اللغة، ندخله وراء دليل سلاحه القلم، بحثا عن غنيمة هي دوما شكل أو آخر من المعرفة نأخذها من فكره ومن تجربته.

المشكلة في تباين أداء من نتبع. ثمة شكّ من البداية، أو بمفعول رجعي، في هذا وذاك. ثمة أمل في أن الذي يقودنا هذه المرة لا يغشّ، وليس تائها هو الآخر. ألسنا غالب الوقت عميانا يقودهم عميان؟.

لكن يا للغنيمة عندما نسقط على دليل يفتح لنا نصا يغيّر مجرى حياتنا نجد فيه تجربة نمتصها فتضيف لحياتنا حياة. هل نكون إذن طفيليات نأخذ بالقراءة ما تيسر من حيوية الكاتب، وفي الولائم الفخمة أثمن ما عنده: عصارة حياته ذاتها؟.

إنه تشبيه المزاج المتعكّر، وفي كل الأحوال ما على كل كاتب لا يحبّه إلا التذكر أنه هو أيضا قارئ نهم.

ثمة تشبيه المزاج الرائق: القراءة كصفقة مربحة للطرفين تتم في صمت، لقاء فكرين خارج أطر الزمان والمكان، يأخذ فيها القارئ بامتنان، ويعطي فيها الكاتب بلا من..

القراءة فرصة لتبادل أحسن الخدمات وقد اكتشف الطرفان أنهما غريبان يتخبطان في نفس ورطة الوجود وبأمسّ الحاجة لبعضهما البعض.

السؤال الآن ما حاجة الكاتب الأزلي للقارئ ولماذا يتكفل بكل آلام مخاض ووضع النصوص؟.

يجب التفريق هنا بين الحوافز التي تحركه على السطح، والتي تحركه في الأعماق.. بين الطعم الذي يرمى له، والأهداف الحقيقية التي رسمت له منذ تعلمه الأبجدية.

ثمة على مستوى السطح إرضاء غريزة الفضول والريادة في الاستكشاف للعودة بالبشائر والإنذارات. هذا ما يجعل الكاتب رديف المغامر والفاتح في الفضاء الحسي.

وكما هو الحال في هذا الأخير، نادرا ما يكون الاستكشاف سهلا حيث يفضي به أحيانا إلى كم من أماكن خطرة أو مستنقعات تضوع بالروائح النتنة. لكن بالمقابل يا للمفاجآت الرائعة التي ترصده في كل منعطفات الطريق!.

ثمة أيضا ما توفره الكتابة من مواصلة الحياة عندما تنضب ميزانيتنا من الزمان. معروف أن الموتى لا يكتبون، وأن أغلب من بقوا أحياء هم الذين كتبوا شيئا له قيمة.

الأهم أن لسان حال كل كاتب -يدبّج رسالة حب أو رسالة دكتوراه- يقول: انتبهوا لي، أنا أفكر وأشعر، إذن أنا موجود.

الجزء الأكبر من الطعم إذن هو إثبات الوجود -وأحيانا التأكد منه- وذروته الاعتراف، أي انتباه الآخرين إلى أن هنا كائنا وجوده ثمين لأن بوسعه أن يكون دليلا ممتازا.

وفي ذروة هذا الانتباه، يتمتع الكاتب بلذة قد لا تعدلها إلا لذة الجنس، وهي الأخرى لذة لها علاقة وثيقة بتأكيد الوجود وبتواصله.

"
المهم ألا نتوقف أبدا عن القراءة لنستثمر فيها تجارب الجنس كله، وألا نتوقف أبدا عن الكتابة لمواصلة طرح الأسئلة والبحث لها عن أجوبة ترضي العقل والقلب
"

كم ننسى أن هذه اللذة هي الحافز والمكافأة التي تتكرم علينا بها الحياة لكي ننخرط في مشاريعها هي، ولسان حالها يقول: متعة الحب لكم والبنون والبنات لي.

هكذا تعطينا ما نريد ونعطيها ما تبغي. لكن المهم في مستوى الحسابات الكبرى ليس ما كافأتنا به وإنما ما أخذته منا، نفس الشيء بخصوص لذة الكتابة.

فبديهي أن هذا الباحث في انعكاس العالم على مرآة الذات وانعكاس الذات على مرآة العالم، لا يستكشف لحسابه الخاص وإنما دوما لحساب الغير لأننا كائنات مترابطة داخل هذا النسيج الذي نسميه المجتمع والذي تشكل هو نفسه عبر التاريخ، جزءا من نسيج أكبر هو البشرية جمعاء.

نحن مثل خلايا دماغ جبار توحّد بين مختلف مكوناته الثقافة المتوارثة جيلا عن جيل.

هذا الدماغ الجماعي هو الذي يعطينا تفوقا هائلا على مجتمعات النمل والنحل لأننا نملك بالكتابة قدرة مراكمة التجارب وبالقراءة قدرة استغلالها.. قدرة إلغاء سلبيات الموت بل واستغلال تدفّق الزمان.

وخلافا لما توحي به النظريات الشخصانية المتطرفة، نحن لسنا فقط كائنات حرة مستقلة، وإنما أيضا كائنات اجتماعية كالنحل والنمل (ولو بكيفية أقل انضباطا). وخلافا لما توحي به النظريات "الاجتماعية" المتطرفة، نحن لسنا فقط كائنات اجتماعية مثل النمل والنحل، وإنما أيضا كائنات حرة مستقلة لها إرادة ومبادرة وطاقة الإضافة والتجديد.

هكذا نولد يوما لنحتل مكاننا من النسيج العظيم -هو دوما كالجلد المتقشر الذي يجدد باستمرار خلاياه- تربطنا به البيولوجيا واللغة.. والأمر المضمن في هذه وتلك: واصل الوجود وساهم في تحسينه.

ثمة بطبيعة الحال إشكالية كفاءة "الخلايا" وتباين قدرتها فرديا على الأخذ والعطاء. إنها إشكالية جودة القراءة (قدرتنا على اكتشاف واستغلال الكنوز المطمورة)، وجودة الكتابة (المشاركة في كشف هذه الكنوز وإثرائها) لكن هذا موضوع آخر.

المهم ألا نتوقف أبدا عن القراءة لنستثمر فيها تجارب الجنس كله، وألا نتوقف أبدا عن الكتابة لمواصلة طرح الأسئلة والبحث لها عن أجوبة ترضي العقل والقلب.

الكتابة إذن جزء أساسي ممّا تمكن تسميته بالمشروع الإنساني: فكّ أسرار العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه، وتوضيح مشاكلنا الظرفية والأزلية، والبحث لها عن حلول عاجلة وآجلة، وسبر أغوار الذات التي تخلقها وتتفاعل معها، وإخراجنا من الطرق المسدودة التي توغلنا فيها خطأ وتهورا.. ودفع الاستكشاف إلى أبعد نقطة ممكنة سواء في فضاء الحواس أو فضاء الأفكار.

النتيجة بالطبع تحسين "خرائط" الذات وخرائط العالم وكذلك تقنيات "الملاحة" فيه، ومن ثمة تحسين ظروف بقاء الجسم الجماعي ورفع حظوظ تواصل رحلته عبر شساعة المكان والزمان.

يا لحظ كل كاتب يساهم ولو بحصاة بسيطة في تعبيد طريق ستتبعه قوافل الزمان من مغامري الوجود!.

يا له من شرف أن يكون قبسا من فكر عقل جبار يتغذى منه ويغذيه.. أن يكون الشعاع الذي تسلطه "عين" كائن متبلور من أعماق الماضي متسارع بنفاذ صبر إلى مستقبل مجهول، يبحث عبره وعبر ما لا يحصى من أدمغته المبثوثة على طول خط الزمان، عن أهداف ربما حددها أو لا يزال بصدد البحث عنها.. هو الكاتب الأكبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.