هزيمة الفكر والمفكر

هزيمة الفكر والمفكر



عادل لطيفي

الإطار النظري لإشكالية الفكر
واقع الفكر بين تقليدية المجتمع وسلطة الدولة

ليس أدل على انهزام الفكر والمفكر في العالم العربي من ذلك السيل الهائل من الرموز التي تملأ وسائل الإعلام، وتعد الخبز اليومي للمواطن في شارع غدا مرتعا للرداءة.

لنا أن نقارن بين حمى ستار أكاديمي التي وصلت شعبيتها حد سقوط ضحايا قتلى، وبين الوضع البائس للكتاب سواء ضمن الحياة اليومية للمواطن العربي أو في وسائل الإعلام، وذلك كي نقف على البعد الرمزي لتهميش الفكر والمفكر.

استفحال الحروب الأهلية وعودة المجتمع إلى الأطر المحلية والعشائرية، كلها مؤشرات هامة على هزيمة الثقافة العليا النوعية التي بشرت في فترة ما ببناء قومي أو وطني متماسك.

أتحدث هنا عن هزيمة بالمقارنة مع فترة كان فيها الفكر أكثر حضورا، ولو أنه طغى عليه البعد الأيدولوجي. كانت تلك فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث ساهم الفكر القومي واليساري في فتح أفق المواطن العربي.

لقد ساهم تراجع الإيديولوجيا في تراجع الفكر كنشاط معرفي مستقل، وهو ما ترك المجال واسعا للدين لتعبئة هذا الفراغ. هنا نفهم كيف أخذ الداعية مكان المفكر، وكيف طغت مسألة الهوية الثقافية على مسألة الهوية السياسية والاجتماعية للأفراد.

لكن تحليل مؤشرات هذه الهزيمة يتطلب العودة إلى رصد بعض الأطر النظرية لتوضيح مدى تعقيد مسألة الفكر والمفكر. فكيف يمكن أن نعرف المفكر؟ وهل يوجد الفكر الذي يحتاجه العالم العربي فعلا، أم أنه لا يزال مشروعا في طور البناء؟

الإطار النظري لإشكالية الفكر
لا بد من استحضار بعض المعطيات التي تساعدنا على توضيح تصورنا لهذه الإشكالية:

ويتمثل المعطى الأول في اعتبار التفكير نشاطا معرفيا، أي في النهاية وسيلة لتأسيس الوعي. فالفكر هو نشاط ذهني استدلالي حر، والمثقف بالتالي ذات مفكرة تبادر بمساءلة موضوعها بشكل حر.

وهو من هذه الناحية يختلف عن قوى المجتمع الإنتاجية الأخرى من خلال نوعية المنتوج الذي يوفره للمجموعة، أي المنتوج الفكري غير المادي، وهو رأسمال رمزي.

لكن المفكر النوعي يضيع في ظل هذا التعريف الذي يشمل أشخاصا وفئات تفكر بدورها ولكن لتبرير السائد والموجود دون عناء المساءلة والبحث.

ولن يكون هناك تمايز عن هذه الفئة المحافظة إلا إذا حملت عملية التفكير لديه شيئا من الخصوصية المتمثلة في اعتبار تأسيس الوعي بالذات وبشروط وجودها هدفا نهائيا للإنتاج الفكري.

مثل هذا المشروع مرتبط كذلك بمدى توفر بعض العناصر، لعل من أهمها حرية التفكير، وهي حرية حسب اعتقادي تواجه سلطة الدولة وسلطة الإيديولوجيا وكذلك سلطة المجتمع.

 بدون هذا الشرط لا يمكن تصور فكر إبداعي قادر على إنتاج معرفة مؤسسة للوعي بالذات.

والمقصود بالحرية هنا التخلص من كل العوائق الإبستيمولوجية التي قد تفقد العمل المعرفي موضوعيته، سواء أكانت عوائق مرتبطة بالذات نفسها أو بالمجتمع أو بالسلطة السياسية القائمة.

لكن التفكير يبقى غير ذي جدوى إذا اقتصر على كونه نشاطا تخمينيا لا يتجاوز إطار الذات المفكرة، بل لا بد من تحويل هذا المجهود إلى قيمة معرفية واجتماعية يمكن تداولها.

"
المعطيات الثلاثة التي تساعدنا على توضيح إشكالية الفكر تتمثل في: اعتبار التفكير نشاطا معرفيا أي في النهاية وسيلة لتأسيس الوعي, وثانيا ضرورة تناول المجتمع أي الفضاء الرئيسي لفعل الفكر، وثالثا تنزيل المفكر في سياق تطور تاريخ الفكر عموما
"

وهذا ما يحصل للأسف في العالم العربي حيث أصبح تخمين المثقف وانغلاقه على ذاته حيلة من حيل التهرب من مواجهة الواقع وما يتطلبه من مواجهة شفافة مع الذات.

فلا بد للمثقف من الخروج من دائرة الرقابة الذاتية وتحويل مجهوده إلى وعي عملي من خلال تواصله مع الواقع الاجتماعي أي مع التاريخ. إننا اليوم نستغرب انزواء بعض الكتاب وكأنهم اقتنعوا بهزيمتهم أمام مد الرداءة والفكر السياسي الديني.

المعطى الثاني يتمثل في ضرورة تناول المجتمع أي الفضاء الرئيسي لفعل الفكر باعتباره فضاء للتاريخ تحكمه قوانين التنوع والارتباط والتطور.

ومن هذا المنطلق لا بد للعملية الفكرية كنشاط معرفي من أن تتم داخل حركية المجتمع ومواكبة لحركة التاريخ. ودون ذلك سنجد أنفسنا في مواجهة إيديولوجيا محافظة وسيكون التفكير مجرد سجن للعقل.

إن حيوية المجتمع باعتباره نظاما متكاملا، تبقى متوقفة على مدى تنوع عناصره المكونة له والتي تسمح له بسرعة التفاعل مع المحيط، أي التطور وتفادي الركود والاندثار.

يجب على الفكر أن يعكس هذا التنوع ويهيئ المجتمع على مستوى الوعي بتنوع الذات وبالتواصل مع المحيط أي مع الآخر. وعلى العكس من ذلك تهيمن في العالم العربي ثقافة منافقة تدور حول مفاهيم التجانس والإجماع وخصوصية الذات.

هذه هي إيديولوجيا السلطة الحاكمة وكذلك إيديولوجيا الحركات الإسلامية التي لا تختلف عنها كثيرا. لقد أضحى المجتمع معها صورة كاريكاتورية لذاته الحقيقية.

أما المعطى الثالث فيتمثل في تنزيل المفكر في سياق تطور تاريخ الفكر عموما. فنحن نبقى غير قادرين على تحديد قيمة إنتاج فكري ما إلا بالنظر إلى موقعه من تطور وتراكم التجربة الفكرية للإنسانية.

فقيمة التفكير تبرز من خلال القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة المدعمة للنسق المعرفي العقلاني العام.

إذا أخذنا بعين الاعتبار جملة هذه المعطيات يمكننا تحديد مجال نشاط المفكر على أنه تأسيس الوعي عبر التفكير الحر والعقلاني. هذا الوعي تنتجه المعرفة (مثل العلوم الصحيحة والعلوم الاجتماعية) كما تنتجه الفنون والآداب. والقصد هنا هو الوعي بالذات كشكل من أشكال إدراك الواقع عبر التساؤل الدائم الضامن لتاريخية الفكر.

واقع الفكر بين تقليدية المجتمع وسلطة الدولة
سنتناول موضوع واقع الفكر العربي من وجهتين، تتمثل الأولى في الواقع الاجتماعي، أي طبيعة الإطار الاجتماعي العام لفعل المفكر، ثم من جهة ثانية إطار السلطة السياسية القائمة.

يبقى المجتمع العربي بصفة عامة مجتمعا تقليديا (بالمفهوم الأنثروبولوجي للكلمة) وذلك رغما عن مظاهر التحديث التي أصبحت تحكم الحياة اليومية.

فالعقلية المهيمنة هي عقلية تعتمد تفضيل المسلَّمات على البحث في مشروعية الموجود. ويمثل ذلك عقبة رئيسية أمام الفكر حيث إن غياب الاستعداد الذهني للمجتمع لتقبل أية دعوة نحو البحث والشك فيما هو قائم، تعني رفض المتقبل لأية رسالة.

كما تتميز البنية الفكرية للمجتمع العربي بالحساسية تجاه التنظيم المؤسساتي، إذ يفضل العربي ربط السلطة بشخصية كاريزمية أو برمز ما يضمن ديمومة النظام على حساب تجسيدها في شكل مؤسسة.

"
صعوبة الظروف المادية للمجتمع وانتشار الفقر ومحدودية فرص العمل جعلت من الدولة الضامن الرئيسي للحصول على الوظائف, وهذا ما مكنها من الإشراف على شبكة من العلاقات الزبونية تحشر داخلها المفكر أو تهمشه
"

ومن شأن مثل هذا الوضع أن يحدّ من فرص نجاح أي مجهود ثقافي جاد، فالشخصنة تلغي التوجه نحو إيجاد صيغة جديدة أو إطار جديد لتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية.

وتتميز هذه العقلية كذلك برفض التنوع وتفضيل التجانس، أي أن فرص طرح أي نموذج غريب على ما هو سائد تبقى ضئيلة جدا. فكل توجه نحو التجديد يشكك في الأسس التي أقام عليها المجتمع وجوده.

وإضافة إلى مشكل التركيبة الذهنية تبرز عوائق أخرى ذات طابع اقتصادي واجتماعي. فصعوبة الظروف المادية للمجتمع وانتشار الفقر ومحدودية فرص الشغل جعلت من الدولة الضامن الرئيسي للحصول على الوظائف، وهذا ما مكنها من الإشراف على شبكة من العلاقات الزبونية تحشر داخلها المفكر أو تهمشه.

من جهة أخرى دخلت المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة وبشكل فجائي مرحلة اقتصاد السوق بكل ما يعنيه ذلك من تحويل الاهتمام الشعبي نحو المسائل الاستهلاكية اليومية. وقد أفرز هذا الوضع نفورا من القضايا الثقافية والفكرية، باعتبار المال والأعمال هما لغة العصر ومقياس النجاح الاجتماعي.

وهناك مشكل آخر مرتبط بالتطور التاريخي الاجتماعي للعالم العربي خلال الفترة المعاصرة. فخلال الحقبة المذكورة لم يفرز التاريخ العربي طبقة اجتماعية نافذة وفاعلة على المستوى الاقتصادي وقادرة على تبني مشروع مجتمعي بديل، يخدم بالضرورة مصالحها.

فالفئات الفاعلة اجتماعيا بحكم موقعها المتميز في الهرم الاجتماعي هي في الأصل عائلات عريقة منذ القرن الماضي أو هي فئات تكونت حديثا من خلال استفادتها من الانفتاح على اقتصاد السوق وتكوين ثروات في زمن قياسي.

وفي كلتا الحالتين يمثل المجتمع بتقليديته الفكرية والدولة بمحافظتها السياسية دعامة لهذه الفئات كما تمثل هي بدورها أساسا ماديا لتواصل الهياكل الاجتماعية والسياسية السائدة.

مثل هذه البنى الهيكلية للمجتمع العربي تهمش الفكر والمفكر. أي أن وجود المفكر العربي لا يعبر عن وجود حاجة اجتماعية تعطيه شرعية داخلية.

هذا ما حصل خلال عقود خلت مع العلامة ابن خلدون، حيث كان فكره رياديا على المستوى المعرفي، لكنه في قطيعة تامة مع مغرب الفتن وانحصار مراكز التمدن. لقد انتظر هذا الرمز القرن التاسع عشر ليظهر فكره تلبية لحاجة ماسة في الغرب.

وعلى مستوى السلطة السياسية القائمة في البلدان العربية، يلاحظ أنه بالرغم من الاختلافات التي أفرزها التطور التاريخي المتباين للبلدان العربية فإن الأسس التي تقف عليها السلطة مهما اختلفت الأنظمة تظل واحدة.

فالهياكل السياسية القائمة تبقى تقليدية وموروثة رغما عن مظاهر الحداثة التي تبدو واضحة أحيانا على مستوى تقنيات الإدارة والتسيير والتنظيم.

وتلتقي في ذلك هياكل المجتمع التي أشرنا إليها مع تركيبة الدولة، حتى إنه يمكن القول إن السلطة تستمد الكثير من شرعية وجودها من الخصائص التقليدية للمجتمع.

فأغلب الهياكل السياسية في العالم العربي تعكس نفس التنظيم الأسري التقليدي من حيث الانفراد المطلق لرمز النفوذ -أي الأب- بسلطة القرار.

وهذه الخاصية الموروثة جعلت الدولة في العالم العربي تنفي أي دور ممكن للمجتمع -من خلال قواه الحية ومن بينها المثقفون- في المساهمة ولو بطريقة غير مباشرة في الحياة العامة للأفراد.

فهذه الدولة احتكرت لنفسها حق التفكير للمجتمع. ويمكننا أن نذهب أبعد من ذلك لنقول إن هذه الهياكل السلطوية تتعمد تهميش الخطاب الفكري النوعي كي لا ينكشف ضعف خطابها حول الوطن والمجتمع.

"
لسنا بحاجة في العالم العربي إلى مفكر أيديولوجي يساري أو قومي على الشاكلة الكلاسيكية، وبنفس القدر فنحن لسنا بحاجة إلى دعاة ووعاظ لنشر خطاب فضفاض، بل نحن في حاجة إلى فكر قادر على تأسيس ثقافة عليا نوعية تؤسس لفهم عقلاني للذات وللآخر
"

لكن نقطة التعارض الأساسية بين هياكل الدولة العربية واحتياجات الفكر تتمثل في مسألة الحرية. فشروط المفكر لضمان نوعية فكره الإبداعي الحيادي -أي الحرية والاستقلالية- هي في نفس الوقت عناصر تهدد شرعية السلطة القائمة. وانتصار شرعية هذه السلطة يمثل أحسن تجسيد لهزيمة الفكر في السياق العربي زمن تجربة الاستقلال.

إن الاقتصار على نقد السلطة والمجتمع لا يفي حسب رأيي بمتطلبات النقد المعرفي المنهجي لوضع الفكر والمفكر في الإطار العربي. فمن باب الموضوعية توجيه النقد والاستقصاء إلى الحقل الفكري ذاته.

في هذا الإطار يجب التمييز بين ثلاثة أصناف من المفكرين يهيمنون حاليا على الساحة. الصنف الأول يتمثل في بعض الوجوه المرتبطة بالسلطة، وهي لا تفكر خارج الحيز الذي تسمح به الدولة القائمة. وأعتقد أن اللبراليين العرب هم من ضمن هذه الفئة.

الصنف الثاني يتمثل في المفكرين الإيديولوجيين من قوميين ويساريين. وبالرغم من ثورية رؤيتهم للواقع فإن طغيان الإيديولوجية على المعرفة في خطابهم زاد من عزلتهم وولد لديهم نوعا من المحافظة.

أما الصنف الثالث فيتمثل في الكتاب الإسلاميين الذين استفادوا من تراجع الإيديولوجية الوضعية ليطرحوا مكانها الإيديولوجية المقدسة. وهذه الصبغة المقدسة بالذات هي التي تعد أكبر خطر على الفكر.

لسنا في حاجة في العالم العربي إلى مفكر إيديولوجي يساري أو قومي على الشاكلة الكلاسيكية، وبنفس القدر فنحن لسنا بحاجة إلى دعاة ووعاظ لنشر خطاب فضفاض يؤدي حتما إلى زعزعة الثقة في المقدس، بل نحن في حاجة إلى فكر قادر على تأسيس ثقافة عليا نوعية تؤسس لفهم عقلاني للذات وللآخر.

ذلك الفكر الحر المواكب للحاجات التي يطرحها الواقع الاجتماعي بعيدا عن تأثير الإكراه أو الإغراء. فالمفكر الحر هو الضامن لإنتاج التاريخ والمستقبل، وما عودتنا العاطفية والانفعالية إلى الماضي سوى مثال آخر على هزيمة الفكر وطغيان الإكراه والرداءة.
ــــــــــــــ
كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.