محكمة؟!

محكمة؟!
 


كانت الوجوه حذرة والتوتر في أعلى درجاته. كنا عربيان في مقاعد المنظمات غير الحكومية حتى ساعة متأخرة: الفلسطينية منى رشماوي وأنا نفسي، عندما اتخذت لجنة حقوق الإنسان قرارا يطالب مجلس الأمن بإقرار محكمة جنائية دولية ad hoc (محدودة الزمان والموضوع) حول يوغسلافيا السابقة.

أخيرا بدأ الخروج الإيجابي من كل سلبيات نورنبرغ وطوكيو، أي الخروج من منطق القوي الغالب الذي يختار القاضي والمدعي العام من عسكرييه، ويقاضي المهزوم في محكمة استثنائية بكل معنى الكلمة.

"
لا يمكن اعتبار محكمة الحريري تطورا في مفهوم المحاسبة على صعيد مجلس الأمن الذي ترفض أغلبية أعضائه الدائمين الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية، وقد اكتفت بالشجب في حوادث اغتيال سابقة لشخصيات كبيرة
"

ولأول مرة تم تسجيل محاكمة في جرائم ضد الإنسانية، وجرائم ضد السلم وجرائم حرب وإبادة جماعية.

كانت الفرحة كبيرة رغم الخوف من تعديلات اللحظة الأخيرة والمصالح والحسابات. نظرت إلى منى التي كانت تمثل في عيني الشعب الفلسطيني، وقلت في نفسي: أليس من حق هذا الشعب محاكمة من تسبب في نكبته؟

بعد العودة إلى باريس من جنيف، بدأت تحركات السياسيين المضادة. كان أول يهوذا في صفوف الفضاء غير الحكومي السيد برنار كوشنر. فهو لم يكتف بالانتقال إلى المعسكر الحكومي، بل هندس رحلة لميلوزفيتش إلى باريس ليستقبله الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران.

نظمنا مظاهرة احتجاج أمام السفارة اليوغسلافية (الصربية) لكن محطات التلفزيون الفرنسي أعطتنا دقيقة وأعطت كوشنر كل الوقت ليعبر عن وجهة نظره. "Pas d’amalgame (لا يجوز الخلط)" صرخ الطبيب المحمي في كل جماعات الضغط الفاعلة في العاصمة الفرنسية، "ميلوزوفيتش ليس هتلر، وهو مفتاح من مفاتيح نهاية الحرب في يوغسلافيا السابقة."

شعرنا بالخطر حينها، لكن المحكمة استمرت ورفدتها محكمة رواندا التي شاركنا بكل فخر مع التوغولي جان ديغلي والسنغالي أداما ديانغ ومناضلين أفارقة متميزين، في تشكيل مجموعة ضغط انتهى نضالها بولادتها.

كان العقد الأخير من القرن الماضي عقد العدالة الدولية بامتياز. وما زلت أذكر عندما سأل أحد مناضلي الرابطة في مؤتمر الرابطة الفرنسية في كريتاي Créteil "أين المحكمة الجنائية الدولية التي يحدثنا عنها وليام بوردون" (المكلف بالملف في الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وأمينها العام وقتئذ)؟ أجبته "ستولد المحكمة قبل نهاية القرن". فضحك عدد من الحاضرين.

أخيراً ولدت المحكمة وصدر ميثاق روما. لقد استطاع التحالف الدولي من أجل محكمة جنائية دولية أن يجمع الدول اللازمة الواحدة تلو الأخرى. فكان تسجيل الاستيطان جريمة ضد الإنسانية انتصاراً كبيرا للعدالة، لكن ذلك النصر لم يخل من مذاق مر بسبب الدور الذي أعطي لمجلس الأمن.

وكان الخيار حلا وسطا بين القوة والعدالة، بالتأكيد على حساب الأخيرة. لأن القوة لا تتعرف على نفسها في العدالة إلا عند الضرورة.

وبهذا أضافت المحكمة الجنائية الدولية قدما "صناعية" ثالثة للقضاء الجالس والقضاء الواقف أسميتها منذ ذاك اليوم "المقرفص المتربص". أي كلمة فصل لمجلس الأمن يمكن أن تشل كل الإجراءات القانونية.

تذكرت العجوز الإسباني العائد إلى برشلونة بعد عقود النفي القسري في باريس حين قال لي "حرب الجمهوريين الإسبان كانت عادلة، ولكنهم سبقوا التاريخ بقليل، قرابة نصف قرن لا تكاد ترى بالعين المجردة في مجرة الأيام".. أليس قدرنا أن نرى المستقبل بعين الممكن.

قلة من هم تصوروا نتائج حجم الكوارث التي حملتها أحداث 11 سبتمبر/أيلول على الحقوق الإنسانية، وأقل منهم من كتبوا مبكراً يطالبون بعدم الاستغناء عن العدالة الدولية غير المنجزة بقانون الدولة الأقوى.

عندما سألني الصحفي الجزائري محمد اليوسفي في مقابلة مبكرة "كيف تتكلم بهذه الثقة عن مخاطر ما تسميه عولمة الحالة الاستثنائية، ألا تترك فرصة للخطأ؟" أجبته "المؤشرات تصب في اتجاه واحد، ولا أخاف من أن أقول يوماً، لقد كنا ومن معنا على خطأ، أخاف من أن ينسى الناس ما حذرناهم منه".

لقد أصيبت عدة عضاضات من المبنى القضائي الدولي بالتصدع، وشهدنا تراجعاً كبيرا، إذ كان بالإمكان إدانة الإدارة الأميركية من محكمة العدل الدولية قبل ربع قرن لتسليحها الكونترا. وكان بالإمكان تجميع عناصر تجريم أكثر من مسؤول أميركي وغربي وفق الاختصاص الجنائي العالمي قبل عشر سنوات.

أما أن تطالب الإدارة الأميركية (التي تتنكر للاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية) مع روسيا والصين (اللتين لم تصدقا على ميثاق روما) بمحاسبة دولة السودان (التي لم تصدق أيضاً على ميثاق روما) أمام المحكمة الجنائية الدولية الناشئة، فهذا بحق يتجاوز ما تصورناه من توظيف واحتواء للعدالة الدولية، خاصة إذا رفض المدعي العام اعتبار هذه السابقة حجة قانونية لإقامة دعوى قضائية على المعتدي الإسرائيلي في قطاع غزة ولبنان، باعتبار أن وقوع الجرائم الجسيمة لا يتطلب بالضرورة تصديق أطراف الجريمة.

بعدها بأشهر، جاءت المصادفة الأجمل والأبشع: في اليوم الذي يعلن فيه أكثر من وزير إسرائيلي عن مشروعية اغتيال قيادات حماس، يعلن مندوب أميركا في نيويورك عن تقديم مشروع المحكمة الدولية لقضية اغتيال الحريري وفق الفصل السابع.

"
رغم معرفة معظم اللاعبين بأن سقف هذه المحكمة لا يتجاوز نسخة بائسة من أزمة لوكربي التي لم تسقط النظام الليبي ولكنها نجحت في ابتزازه مالياً وسياسياً، فإن البعض يعول على اضطراب هنا واهتزاز هناك يجعل من هذه المحكمة الشرارة التي ينطلق منها الحريق السوري
"

منذ اليوم الأول لاغتيال الحريري طالبت اللجنة العربية لحقوق الإنسان بمحكمة عربية خاصة، محكمة تفتح المجال لتقليد جديد في قضايا الاغتيال السياسي والاعتداء على سلامة العاملين في الشأن العام.

أولا لأن المحاكم الدولية اختصت بجرائم ليست هذه منها (جريمة العدوان والجريمة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب)، وثانياً، لغياب آلية عربية للمحاسبة حتى اليوم، إذ أنه في حين يمكن متابعة قضية كهذه في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، في حال الاختصاص المكاني واستنفاد السبل الوطنية، لا يمكن أن نجد مرجعية عربية تسمح بالمحاسبة في حال وهن أو تبعية القضاء الوطني.

كذلك، يمكن للزخم الذي اكتسبته القضية دولياً، مهما كانت دوافعه، أن يوظف إقليميا لدفع القضاء العربي خطوة إلى الأمام.

لكن هذه القراءة، التي هي أكثر من مثالية في نظر البعض، لم يكن لها أي حظ من التبني، لا عند السماسرة الإقليميين ولا عند قيادة أميركية تريد تخفيف مركز الثقل عن المستنقع العراقي.. أما الحكومة الفرنسية التي تيتمت بخسارة حليف شيراك الوحيد في لبنان، فمشت في المشروع ربما كآخر مسحة حنين لأيام انتداب لم يبق منه سوى ذكريات.

أما العدالة، فغاصت في طرق وعرة يمكن أن تزيل هيبة الدولي عن كل ما هو انتصار بين الأمم لحساب كرامة الإنسان والشعوب.

تسمية ديتليف ميليس لم تكن بريئة، فهذا المحقق الذي شيد رصيده الشخصي على نظرية "الدولة هي الحارس الفعلي لكل إرهاب" لم يفهم أن العولمة جعلت من الإرهاب ظاهرة دول وجماعات، بل وأفراد، وأن التحقيق الأدق هو التحقيق الذي ينطلق من الصفر ولا يبدأ من حيث انتهت التصريحات السياسية.

لم يكن ميليس حذراً وغاص في المقبلات اللبنانية، فتم إبعاده بهدوء لتحجيم الخسائر.

كان تقرير المحقق الألماني قد صدر دون مفاجآت تقريبا. وبمجرد اعتقال القادة الأمنيين اللبنانيين الأربعة، وتوقيف النائب السابق قنديل لساعات، وضع ميليس أمام الرأي العام توجهات التحقيق وأصابع الاتهام. ونقول اتهام مع ضرورة تأكيدنا على قرينة البراءة، كما فعل التقرير موضحا سقفه وحجمه ودوره.

ويمكن القول إن عنصر المفاجأة، إن بقي بعد كل التسريبات، يتعلق بوجود أسماء مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة (كزائدة غير قضائية ضعيفة جدا، ربما سببها مشكلة تاريخية معها أو المعلومات الإسرائيلية أو مصادر متطرفة لبنانية التقى بها). كذلك فقرات أخرى ضعيفة جدا لا تليق بمحقق في مستوى ديتليف ميليس.

وأخيرا، وبكل المعاني أولاً، ورود اسم آصف شوكت وتداول اسم ماهر الأسد (كحجرين أساسيين في رقعة الشطرنج الأمنية العسكرية السورية).

وحسب اعتقادي، فإن أهم جديد فيما يحدث، منذ تشكيل تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المنشأة بموجب قرار مجلس الأمن 1595 يوم 7 أبريل/نيسان 2005، هو أن حادثة اغتيال عربي في بلد عربي كانت سبباً في تداعي مجلس الأمن للبحث عن الفعلة مع طرح موضوع مقاضاتهم جديا.

ولا يمكن اعتبار ذلك تطوراً في مفهوم المحاسبة على صعيد مجلس الأمن الذي ترفض أغلبية أعضائه الدائمين الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والصين). وقد اكتفت بالشجب في حوادث اغتيال سابقة لشخصيات كبيرة.

لكن ما هي جدية تحول الواقعة إلى متابعة قضائية بمعايير القانون الدولي؟ هل يمكن، في حال عدم السقوط في مصالح سياسية ضيقة لهذه الإدارة أو تلك، أن تشكل بداية جدية لمواجهة القتل خارج القضاء؟

"
في الوقت الذي نناضل فيه بكل الوسائل من أجل تأصيل مبادئ العدالة الدولية في العالمين العربي والإسلامي، يأتي قرار الثلاثي الأميركي البريطاني الفرنسي ليساهم بقوة في بناء رأي عام عربي سلبي تجاه الاختصاص الجنائي العالمي والمحكمة الجنائية الدولية
"

المحكمة سابقة هامة بكل المعاني. ولعل تسلم البلجيكي سيرجي براميرتس لها يحدد من الخفة التي بدأت القضية بها. لكن لا يمكن بحال أن يرفعها فوق الشبهات السياسية.

فنحن أمام قضية سياسية قضائية. أولاً، لأنها في يد مجلس الأمن، أي المؤسسة السياسية في الأمم المتحدة بامتياز. وثانياً، لأن من السذاجة الحديث عن الاغتيال السياسي والقتل خارج القضاء دون الوقوف عند الأبعاد السياسية للجريمة التي تشكل عنصراً مركزياً في التحقيق.

من هنا ليس الغريب الحديث عن الجوانب السياسية في التحقيق، وإنما المستهجن هو توظيفه واستعماله المتحزب والمتعمد لغايات تخرج التحقيق عن مقاصده الفعلية.

في هذا الجو المشحون بعلاقة عاطفية خاصة بين تيار 14 آذار والمحافظين الجدد من جهة، وأخرى متميزة جداً بين 8 آذار والمحافظين القدامى (إيران) من جهة ثانية، دخل لبنان في أزمة سياسية مجهولة الغد، فصارت المحكمة وسيلة من وسائل الصراع الدولي والإقليمي.

لم يعد بالإمكان الحديث عن عدالة دولية بريئة من موازين القوى الجيوسياسية. وبعد أن أعطى المثل العراقي للاستقواء تحطيماً منهجياً لبلد غني بسكانه وثرواته، تعود فكرة الاستقواء بقوة إلى بلد ضعيف وهش، حتى لا نقول برسم الحريق لتحمله فوق طاقاته وإمكاناته.

ورغم معرفة معظم اللاعبين بأن سقف هذه المحكمة لا يتجاوز نسخة بائسة من أزمة لوكربي التي لم تسقط النظام الليبي ولكنها نجحت في ابتزازه مالياً وسياسياً، فإن البعض يعول على اضطراب هنا واهتزاز هناك يجعل من هذه المحكمة الشرارة التي ينطلق منها الحريق السوري.

أما أوساط حقوق الإنسان الأكثر التزاماً وصدقاً، فتعيش مأساة اختراق تخلط الأوراق فيه بين العدل والقوة من جديد. ففي وقت ننجح فيه في أروقة مجلس حقوق الإنسان في وضع مقرر لمتابعة تجاوزات الحرب على الإرهاب، وتبدأ ملفات المحاسبة في العدوان على العراق بالظهور، وتنجز تقارير عالية المستوى تدين السجون السرية والتعذيب وغوانتانامو والحرب والاحتلال، كذلك تصدر قرارات إدانة في أعلى المؤسسات الأوروبية التشريعية والحقوقية لحرب مفتوحة على "الإرهاب" دفعت دولة القانون وأممية العدالة ثمناً باهظاً لها، في هذا الوقت بالذات، نتعرض لعملية اختراق كبيرة.

عملية تحاول خلط الحابل بالنابل، عبر إقرار محكمة لبنانية دولية من مجلس الأمن بالقرار 1757 وفق الفصل السابع. وذلك في غياب إجماع محلي وإقليمي ودولي عليها وعلى آليات عملها.

في الوقت الذي نناضل فيه بكل الوسائل من أجل تأصيل مبادئ العدالة الدولية في العالمين العربي والإسلامي، يأتي قرار الثلاثي الأميركي البريطاني الفرنسي ليساهم بقوة في بناء رأي عام عربي سلبي تجاه الاختصاص الجنائي العالمي والمحكمة الجنائية الدولية وكل ما هو دولي باعتباره بالضرورة "أميركيا".

وذلك سيترك دون شك، آثاراً سلبية جداً على مجالات القصاص والمحاسبة في الجرائم الجسيمة التي تقع على الأراضي العربية أو بحق القاطنين عليها، دون أن يعيد ذلك منفياً سورياً للحكم أو يحمي أية شخصية سياسية لبنانية من احتمال وقوعها ضحية في جريمة اغتيال سياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.