المبتدأ في نهضة الأمة

المبتدأ في نهضة الأمة



عبد الله الحسن


– فلسطين سؤال وجودنا
– أين يكمن الخلل؟

في خضم مناسبات رسمت مسار حياة الشعب الفلسطيني، وحددت مصيره الوطني، وأرخت بظلالها المعتمة على تاريخه منذ وعد بلفور المشؤوم ومشروع تقسيم فلسطين وصولاً إلى اتفاقات أوسلو، لا يزال الشعب يعيش تداعياتها في ظل اندفاع الهجمة الاستعمارية الأميركية الصهيونية الجديدة، نحو تكريس وتعميق وتحويل هذا المسار والمصير قدرا يستحيل الفكاك منه.

ويتم ذلك عبر نفي العروبة وتذرير الكيانات الوطنية العربية إلى أشتات متنابذة متناحرة، بحيث تبدو إشاحة النظر عن تلك السياسات والأخطار ضربا من سذاجة وجهل أو تواطؤ ما دام الإسرائيليون يعلنون ذلك جهاراً نهاراً في صورة مخططات تتزين بها صفحات الجرائد والمطبوعات الأميركية والإسرائيلية، وفي صيغة تصريحات باتت شبه يومية.


"
أي اقتتال واحتراب فلسطيني داخلي هو باليقين صناعة إسرائيلية بامتياز، يمتطيه من وضعوا بيضهم في السلة الأميركية ورهنوا خياراتهم لأعداء القضية والأمة
"

فلسطين سؤال وجودنا
وفي هذا الصدد يقول الباحث الإسرائيلي في مركز المعلومات البديلة في القدس ميشيل وورشارسكي "إن الهدف النهائي للحرب الإسرائيلية الأميركية العالمية عرقنة أو أثننة جميع النزاعات حيث لا يعود المرء في حالة حرب ضد سياسة أو حكومة أو هدف محدد، وإنما ضد تهديد يتجسد في جماعة إثنية محددة، وهي في حالة إسرائيل كل جماعة غير يهودية".

وليس في ذلك أدنى غرابة لأن العقل الإسرائيلي ينطلق من قناعة -كما يقول الكاتب الإسرائيلي إيتان هابرز- بأن "كل العالم ضدنا، وكل العرب يريدون تدميرنا وحتى الأميركيين فإنهم لاساميون، ولكنهم بحاجة إلينا الآن، وبالتالي نحن لا نستطيع الاعتماد إلا على أنفسنا فقط، ونحن قادرون على تدمير نصف العالم وحدنا".

ولا ريب أن إنجاز المخطط الإسرائيلي رهن بتوفير المسارب والمداخل المناسبة، ولعل أهمها بلا منازع تواري الصراع العربي الإسرائيلي، واستبداله بصراعات بديلة.

ويبدو أن المخيلة الإسرائيلية استقرت على البديلين التاليين :
1- صراع عربي إيراني، وقد ظهرت ملامح هذا الصراع في المواقف العدائية من دول عربية تدور في الفلك الأميركي لحزب الله وإيران، خلال حرب الـ33 يوما على لبنان، عندما زعمت أنها خيضت لصالح أهداف إقليمية ولا تخدم المصالح العربية.

2- صراع مذهبي سني شيعي يجري فرضه وتعميمه على بعض الدول العربية كالعراق ولبنان بالإضافة إلى محاولة نقله إلى بلدان عربية أخرى.

وفي فلسطين تجري تهيئة البديل للصراع مع العدو الصهيوني من خلال تهيئة الأجواء للاقتتال الفلسطيني الداخلي.

وفي هذا السياق تقول الكاتبة الإسرائيلية عميرة هاس في مقال حمل عنوان "الاقتتال الفلسطيني الداخلي.. قضية إسرائيلية أيضا" إن "التجربة نجحت والدليل على ذلك أن الفلسطينيين يقتلون بعضهم البعض، هم يفعلون ما يتوقع منهم أن يفعلوه في ختام التجربة الطويلة التي عنوانها: ماذا يحدث عندما يسجن 1.3 مليون إنسان في منطقة مغلقة مثل الدجاج في قن حديث".

وتتابع قائلة إن "هذه تجربة إسرائيلية قديمة بعنوان: ندخلهم في طنجرة الضغط ونرى ما هم فاعلون، وهذا أحد الأسباب للقول إن ما يحدث في فلسطين ليس شأناً فلسطينياً داخلياً".

بصرف النظر عن الأسباب الطافية على السطح فإن أي اقتتال واحتراب فلسطيني داخلي هو باليقين صناعة إسرائيلية بامتياز، يمتطيه من وضعوا بيضهم في السلة الأميركية ورهنوا خياراتهم لأعداء القضية والأمة، ويحاولون أسر القضية والشعب في قمقم خيار التسوية.

وما أدراك ما خيار التسوية من اغتيال للجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية، وتصفية لحق العودة، وتمكين للمشروع الإسرائيلي من استكمال تهويد فلسطين.

"
أساس الخلل يكمن في التنازل عن مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة، وتغيير طبيعة الصراع مع إسرائيل من صراع وجود إلى صراع حدود، والدخول في مستنقع التسويات
"

تجدر الإشارة إلى أن فلسطين كانت نقطة انطلاق المشروع التقسيمي الاستعماري ضد الوطن العربي، سواء على مستوى الجغرافيا أو الديمغرافيا، وهي النموذج الذي تناسل فيه التقسيم تقسيمات لا تعرف حدودا حتى الآن.

ونقطة البدء كانت اختيار فلسطين للاستيطان الصهيوني لعزل الجزء الآسيوي من الوطن العربي عن جزئه الأفريقي، وثانياً في نفي صفة الشعب عن الشعب الفلسطيني واعتباره مجرد طوائف، كما ورد في نص وعد بلفور المشؤوم الصادر يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 حين نص على "حماية الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية".

وكذلك في فصل فلسطين عن سوريا الأم باتفاقية سايكس بيكو، ثم فصل غرب النهر عن شرق النهر عام 1922 على يد ونستون تشرشل في مؤتمر القاهرة.

وبعد ذلك كان قرار التقسيم، القرار 181 الصادر يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 ليشطر جغرافية فلسطين الانتدابية إلى ثلاثة أقسام: الدولة اليهودية والدولة العربية ومنطقة الوصاية الدولية.

وفي أعقاب 1948 قسمت إلى مناطق عديدة: فلسطين 1948 تحت الاحتلال الإسرائيلي، والضفة الغربية ضمت إلى الأردن، وقطاع غزة وضع تحت الإدارة المصرية، وشعبها جزئ إلى داخل وخارج، إلى لاجئين ومقيمين في وطنهم.

أما فلسطينيو 1948 فتم التعامل معهم من قبل الاحتلال الصهيوني كمجموعات بشرية ذات هويات مختلفة هم العرب والدروز والبدو والشركس.

وفي عام 1967 رزحت الجغرافيا الفلسطينية بكاملها تحت الاحتلال، لكن في ظل أوسلو عدنا إلى مزيد من الشرذمة الجغرافية والديمغرافية، إذ تم عزل الضفة عن القطاع، وتحويل الضفة إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض بفعل حاجز العزل والتهويد والمستوطنات والحواجز العسكرية التي يزيد عددها عن 610 حواجز.

الغريب أن كل ذلك يجري في خضم أزمة بنيوية يعيشها الحلف الأميركي الإسرائيلي تطال الوجود الإسرائيلي.

وحسبنا النظر إلى استطلاعات الرأي لجمهور المستوطنين الصهاينة التي تفيد أن ربع المستوطنين لا يثقون باستمرار وجود الكيان الإسرائيلي، في حين تقول استطلاعات أخرى إن 57% من جمهور المستوطنين لم يعد واثقاً من قدرة الكيان الإسرائيلي على الاستمرار في الوجود.

ونشير في هذا الصدد إلى قول المحللة السابقة في جهاز المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.أي) كاثلين كريستسون إن "المتحررين من الأوهام الإسرائيلية هم وحدهم القادرون على رؤية الانهيار القادم للصهيونية مصحوباً بانهيار إسرائيل نفسها كدولة عنصرية لليهود وحدهم".

ناهيك عن أزمة المشروع الإمبراطوري الأميركي الذي يغرق في المستنقع العراقي والأفغاني، وقد بلغت أزمة العدو درجة العجز عن قطع التراكم الحاصل في ميدان القوة لدى معسكر المقاومة والممانعة العربية والإسلامية، السوري الإيراني وحزب الله والمقاومة الفلسطينية والعراقية، كما كشفت ذلك حرب الـ 33 يوماً على لبنان، وتقرير لجنة بيكر هاملتون، حول العراق.

أين يكمن الخلل؟

"
الخلل يكمن في عجز وقصور الذات الوطنية الفلسطينية والقومية العربية عن استثمار أزمة معسكر الأعداء بشكل يتيح تحويل هذه الأزمة إلى هزيمة شاملة
"

لا شك أن الخلل يكمن في عجز وقصور الذات الوطنية الفلسطينية والقومية العربية عن استثمار أزمة معسكر الأعداء بشكل يتيح تحويل هذه الأزمة إلى هزيمة شاملة، بدل أن تكون فرصة للانتقال إلى طور جديد من هجومها الاستعماري.

وأساس الخلل هو في التنازل عن مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة، وتغيير طبيعة الصراع مع إسرائيل من صراع وجود إلى صراع حدود، والدخول في مستنقع التسويات، والقفز عن مرحلة التحرر الوطني.

ذلك هو الداء الذي يفتك بجسدنا العربي ويساهم في تحويل أزمة عدونا إلى فرصة تمكنه من تحقيق المزيد من أهدافه الاستعمارية.

الجدير بالذكر أنه منذ تسلل فيروس التسوية إلى السياسة العربية عام 1974 مع اتفاقية فض الاشتباك على جبهة سيناء، بدأت المنطقة العربية تغرق في مجرى دماء الحرب الأهلية، إذ انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب في جنوب السودان، والحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب عاصفة الصحراء وصولاً إلى احتلال العراق.

واليوم يتعرض لبنان مجددا إلى خطر تجدد الحرب الأهلية نتيجة لرهان واستتباع فريق لبناني للولايات المتحدة وإسرائيل، وعدائه للمقاومة الباسلة بقيادة حزب الله التي حققت أول نصر عربي وألحقت الذل والعار بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وجيشها الذي تتفاخر بأنه لا يقهر.

ويعمل هذا الحلف كذلك على مد مجسات تآمره إلى الشقيقة سوريا، وليست فلسطين بمنأى عن هذا الخطر ما دام هناك فريق يستمر في رهانه على أميركا والمجموعة الرباعية، لذا فإن الخروج من كابوس الحرب الأهلية الذي يلاحقنا في عقر دارنا يقتضي:

1- تفعيل الموحدات الحضارية الكبرى للأمة.
2- إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية.

اللافت في هذا الخصوص هو أن الولايات المتحدة وتوابعها بدؤوا يسلمون بمحورية القضية الفلسطينية كما جاء في تقرير لجنة بيكر هاملتون، وبالتحديد في الفصل المعنون "بمبادرة دبلوماسية جديدة".

3- رفع وتيرة الصراع مع إسرائيل باعتباره الصراع الذي لا يقرر مصير الشعب الفلسطيني فقط، وإنما أيضا الأمة العربية والإسلامية، وبالتالي يجب أن تحشد كل طاقات الأمة البشرية والمادية لخدمته حتى يحسم الصراع لصالحها.

4- اعتبار كل بوصلة لا تؤشر إلى القدس كما يقول الشاعر مظفر لنواب مشبوهة، ففلسطين هي المبتدأ في نهضة الأمة، وهي المبتدأ في انزلاقها إلى الحضيض، إلى حيث لا تعود أمة. وعليه فإن فلسطين هي سؤال وجودنا: نكون أو لا نكون.
__________________
كاتب سوري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.