قادة للبيع

قادة للبيع



مراد زروق

قبل سنتين، وبالضبط في أغسطس/آب 2004 حضرت مهرجان أصيلة شمال المملكة المغربية, وتابعت باهتمام المداخلات القيمة التي تخللته.

وأذكر سؤالا قاسيا وجهه أحد الحاضرين لوزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس، حيث حمّلَه فشل مساعي الاتحاد الأوروبي لحل أزمة الشرق الأوسط باعتباره المبعوث السامي الأسبق للاتحاد في المنطقة، فانفعل الوزير وقال "نحن نتحمل مسؤولية الفشل؟ حسنا، سأبوح لك بأمر يجب علي في الحقيقة أن أبقيه طي الكتمان.. أتعلم من يناصب العداء للتجربة السياسية الفلسطينية؟ إنها الدول العربية المجاورة الخائفة من هذا النموذج. لقد حاولت بمعية رومانو برودي أن نرسل مروحية للرئيس عرفات المحاصر للمشاركة في القمة العربية في بيروت، فقال عمرو موسى: ستكون أكبر إهانة للعرب".

كان موراتينوس يتكلم عن حصار المقاطعة الذي منع عرفات آنذاك من المشاركة في قمة بيروت.

تذكرت كلام الوزير الإسباني عندما تابعت اكتشاف مصر والأردن "لتورط" حماس في التعاون مع عناصر "إرهابية" محلية رغم نفي الحركة الفلسطينية ذلك غير مرة.

"
هناك دول في المنطقة مستعدة للسهر على تطبيق الأجندة الأميركية كيفما كانت الطرق والنتائج، وهذا تصرف لن يؤثر على الشعبية المتدنية لأنظمة خسرت كل الرهانات وربحت كل الانتخابات المزورة
"

هناك دول في المنطقة مستعدة للسهر على تطبيق الأجندة الأميركية كيفما كانت الطرق والنتائج، وهذا تصرف لن يؤثر على الشعبية المتدنية لأنظمة خسرت كل الرهانات وربحت كل الانتخابات المزورة.

هناك ما يصطلح عليه بالدول العربية المعتدلة، وهي بطبيعة الحال الدول التي يضرب بها المثل في الخنوع والانبطاح، وهذه الدول ليست معتدلة بأي حال من الأحوال في معالجة قضاياها الداخلية، فهي لا تحترم حقوق الإنسان وهي إطار لأنظمة فاسدة مترهلة، وهذا توصيف تشترك فيه كل الأنظمة العربية بدون استثناء.

التجربة الفلسطينية مزعجة، ذلك أنه في ظرف عشر سنوات لم يطل التزوير أي مسار انتخابي، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية التي أدت إلى فوز ياسر عرفات.

لكن التجربة الفلسطينية ليست الوحيدة التي تزعج أصحاب الفخامة والجلالة والسمو، فالتجربة اللبنانية بدورها ترعبهم. الدرس اللبناني يرعب الأنظمة الدكتاتورية العربية لأنه مليء بالعبر القابلة للاستنساخ غير بعيد عن بلد الأرز.

خرجت البلاد قبل أقل من 20 سنة من حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس وتجاوزت الاغتيالات السياسية والاعتداءات الإسرائيلية وحققت ما لم تحققه البلدان العربية التي تحررت من ربقة الاستعمار منتصف القرن الماضي، وما لم تحققه الأنظمة التي بذرت إيرادات البترول.

تعلم اللبنانيون من محنتهم أن الطائفية والعصبية فتنة تزهق الأرواح وتبدد الجهود والأموال، فاجتمعوا على ضرورة إعادة بناء لبنان على أسس قوية.

لقد سررت لما رأيت في بيروت السنة الماضية حين حضرت في الجامعة اليسوعية حفل تسليم الجوائز على طلبة متفوقين، كان ضمنهم طالبات مسلمات وكانت تلك إشارة قوية تدل على أن كل المجالات الحيوية قد تحررت من النزعة الطائفية.

وجدت حرية تعبير لا ينعم بها أي شعب عربي.. زرت مقر جريدة النهار المطل من بعيد على البحر، وكانت تلك الزيارة في أبريل/نيسان، أي قبل أن تمتد الأيادي الآثمة لاغتيال جبران تويني مدير هذا الصرح الإعلامي في ديسمبر/كانون الأول من نفس السنة.

لم أجد للتوجس ولا للخيفة أثرا في ممارسة العمل الصحفي.. نساء ورجال يتأملون زرقة البحر وهم يرسمون معالم التعبير على الأوراق البيضاء بهمم عالية.. أليست هذه التجارب مخيفة للغربان الجاثمة على الصدور؟!

في نفس الليلة ذهبنا لزيارة قبر رفيق الحريري الذي لم يكن قد مضى على اغتياله أكثر من شهرين. عندما وقفت على قبره وبدأت في قراءة الفاتحة رأيت صديقي هنري يضع يده على جبينه وطرفي صدره راسما علامة الصليب في حزن، ففهمت أن الحريري لم يمت بل بقي في قلوب أبناء كل الطوائف اللبنانية، والذي مات هو الحقد والنزعة الطائفية.

"
يجب أن يعلم أعداء اللبنانيين من بني جلدتهم أن مسار الكرامة لا يقبل الردّة, وأنه كيفما كانت نتيجة العدوان الإسرائيلي فالتجربة باقية لمن أراد أن يستنير بهديها
"

لقد وجدت المسلمين السنة والشيعة والنصارى والموارنة والأرثوذكس والدروز كلهم يناقشون بنضج مشاكل لبنان.. نقاش راق وحرية في التعبير، وشعب برهن أنه ليس في حاجة إلى زعيم أبدي يجتمع حوله وينحني له صباح مساء.

هذا هو لبنان الذي عرفته، ولم تقف المسألة عند الانتخابات الشفافة والحركية المثالية في العمل، فشعب لبنان شعب أبي يرفض أن تمتهن كرامته وأن يصبح رهينة لنظام يشبه الأنظمة الفاشية التي تحكم الدول العربية.

لذلك، يجب أن يعلم أعداء اللبنانيين من بني جلدتهم أن مسار الكرامة لا يقبل الردّة, وأنه كيفما كانت نتيجة العدوان الإسرائيلي فالتجربة باقية لمن أراد أن يستنير بهديها.

لقد انتهت صلاحية الأنظمة العربية منذ زمن بعيد، وأصبح دورها محدودا لا يتجاوز خيانة تقترف هنا أو هناك أو ممارسة التعذيب بالوكالة أو تقاضي العمولات عن الصفقات التجارية.

إذا كان النموذج اللبناني قد نجح في دولة كثرت طوائفها، فكيف لا ينجح التوافق بين قوى سياسية لا تفرقها الخلافات المذهبية وإنما الخيارات السياسية.

بعد مجزرة قانا الثانية لم يعد أمام الشعوب العربية خيارات عديدة، فهي أمام مسؤولية أخلاقية وحضارية لخوض مسيرة تقرير المصير، فقد دامت مرحلة تأميم الإستعمار أكثر مما يجب، وحان وقت الاستقلال الحقيقي.

ما وقع في فلسطين والعراق ولبنان ليس إلا محطة ستتبعها محطات أخرى، يبدو أنه لا مجال لتفاديها، فحالنا كالذي لا يدري على أي جنبيه يقع.

إذا كان أصحاب الجلالة والفخامة والسمو قد فشلوا، لا أقول في تشكيل قوة عسكرية، لكن على الأقل في أن يكونوا مجموعة ضغط أو لوبي وازن للدفاع عن حق شعوبهم في الحياة الكريمة أو في الحياة على الأقل، فنحن نعفيهم من عناء الحكم وليتمتعوا بالمليارات التي نهبوها, وإن كانت أعمارهم لن تتسع لتبذير ما كدسوه من أموال.

"
لن تتذكر الشعوب الحكام إلا كما تذكرهم ذلك الرجل المسن الذي وقف قبل سنوات وسط القاهرة وهو يحمل علما فلسطينيا كتب عليه: أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. اتفو
"

لا مجال هنا للحديث عن أوجه الفشل "العادي" التي تجعل أي رجل سياسة في دولة تحترم نفسها يتنحى عن منصبه، فهذا أمر بعيد المنال.. أنا أتكلم هنا عن الفشل المميت، وعن التفشيل وعن الخيانة والجرائم السياسية وتوظيف الأجهزة الأمنية والقضاء لحماية الأنظمة الدكتاتورية وعن التجويع واختلاس المال العام.

لا يخلو من يدافع عن حاكم عربي من هذه الصفات، فهو إما متنفع بمال أو بجاه أو مستكين ذليل أو يخاف التغيير حتى وإن كان إيجابيا لخمول بنيوي أصابه.

أول من عبثت به رعيته في تاريخ الإسلام هو معاوية لأنه غصب الحكم دون أن يكون أهلا له، وإذا كانت الأمة صامتة في يومنا هذا، فهذا لا يعني أن الحكام على حق، وإنما الأمة على خطأ.

لست من دعاة العنف والفوضى والفتن، لكنني من المدافعين عن الكرامة وعن البعد الأخلاقي في ممارسة السياسة، وهما أمران انهارا تماما في خضم ما يقع الآن في الشرق الأوسط وفي ظل الخيانات الجديدة.

أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. هل تعلمون أن كل مسيرة للتضامن مع لبنان وفلسطين هي إدانة لكم؟ وأن مواقفكم من هذه الأزمات هي مواقف أنظمة دكتاتورية وليست مواقف شعوب تواقة للحرية؟ ستكون أماكنكم بعد موتكم محفوظة في مزبلة التاريخ، ولن يذكركم أحد بشوق أو بأسف أو بخير، و لن تتذكركم الشعوب إلا كما تذكركم ذلك الرجل المسن الذي وقف قبل سنوات وسط القاهرة وهو يحمل علما فلسطينيا كتب عليه "أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. اتفو".

ـــــــــــــــــ
أستاذ بجامعة عبد المالك السعدي في المغرب وباحث بجامعة مدريد المستقلة- قسم دراسات البحر الأبيض المتوسط الدولية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.