العراق.. جغرافيا للاقتسام أم للتكامل؟

العراق جغرافية للاقتسام أم للتكامل؟



إبراهيم عجوة

الغزو الأنجلو أميركي للعراق فتح الطريق واسعا أمام أسئلة قد تبدو في منتهى الخطورة. أسئلة لا يجوز التهرب من طرحها ومحاولة الإجابة عليها، سواء نتيجة تعقيداتها، أو نتيجة استحقاقاتها. كما لا يجوز التهرب منها عبر التسامي فوقها، اعتقادا بأن التسامي هو أفضل الحلول، مع أنه شكل من أشكال الهروب إن لم يكن أخطره.

السياسة ليست محكومة بقيم الصلاح والفساد بقدر ما هي محكومة بمصالح كيانات سياسية بأهدافها الصالحة والطالحة. والقدرة على تقدير تلك المصالح وتوقع السلوك المرافق للكيان السياسي هو ما يحدد الموقف من هذا الطرف أو ذاك.

الأسئلة التي طرحها الغزو تكمن بالأساس في السيناريوهات التي سترسمها المراكز والأطراف الفاعلة في المعادلة السياسية ما بعد الغزو كمحصلة للواقع الموضوعي الذي ترتب على هذا الغزو، وعلى المعادلة الدولية الراهنة.

"
أخطر منتجات ما بعد الغزو الأميركي للعراق يكمن في إمكانية إلغاء الجغرافية السياسية العراقية وإعادة إنتاجها على شكل مجال حيوي لتصفية الصراعات الإقليمية والدولية، وجغرافية للحرب الباردة بين القوى المتصارعة
"

أخطر منتجات ما بعد الغزو يكمن في إمكانية إلغاء الجغرافية السياسية العراقية وإعادة إنتاجها على شكل مجال حيوي لتصفية الصراعات الإقليمية والدولية، وجغرافية للحرب الباردة بين القوى المتصارعة، ومكان لتنفيذ نسخة معدلة ومنقحة من برنامج الاحتواء المزدوج الذي طرحته الإدارة الأميركية بعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر وسمي في حينها مبدأ كارتر.

وكان هذا البرنامج استجابة لتقديرات أميركية حول الأخطار المقدرة لهذه الثورة على المصالح الأميركية، وأخطار تنامي القوة العراقية في بحيرة النفط.

صحيح أن العراق دولة مركزية من دول المنطقة، وغير صالح للتحول إلى مجال حيوي سهل لأحد، لكنه أصبح أكثر قابلية للتمزيق بعد التدمير الذي حاق به، وتصبح هذه المزق الناتجة من حطام العراق المحترق، أكثر قابلية للتوظيف كمجالات حيوية لاستحقاقات الصراع الدولي والإقليمي.

لا ينطلق هذا السيناريو من مجرد حالة سيكولوجية تشاؤمية بقدر ما ينطلق من حالة الواقع العراقي اليوم، فقد أطلقت تطورات ما بعد العام 2005م، مضافة إلى مفاعيل الاحتلال، بركانا طائفيا ربما لم يتصور أحد مدى خطورته التي ستتجاوز قدرة الجميع على إخماده. وأطلق هذا البركان الطائفي أسئلة حول الهوية والولاء والحاكمية السياسية.

فإيران المستهدفة أميركيا بشكل أساسي تجد القوات الأميركية على حدودها فلا تجد مناصا من نقل المعركة مع الأميركان خارج حدودها وتسعى لخوض صراعها مع أميركا داخل العراق حتى لا تستطيع أميركا نقل الصراع إلى الداخل الإيراني.

كذلك سوريا المدرجة إلى جانب إيران في محور الشر من المنظور الأميركي وجدت نفسها في نفس الوضع، وظهرها مكشوفا في صراعها مع الكيان الصهيوني الذي ما زال يرتسم احتلالا على أرض الجولان وفلسطين وأطماعا في الجغرافيا اللبنانية ومياه المنطقة.

صورة الدفاع الإيرانية تلك تسهل على الأعداء وأبواقهم ترسيمها تحت مسمى "الأطماع الإيرانية في العراق"، وترتيبها كخطر رئيس، وتحويل المصالح الواضحة والمعترف بها إلى أطماع، وتضخيمها حتى تختفي صورة الاحتلال كفاعل رئيس وتختفي الأجندات الإقليمية المتعددة بتعدد المصالح الضيقة للمحيط العراقي، مع تجاهل الأخطار البعيدة المدى لمثل هكذا سياسة على المنطقة برمتها.

وإن كان وصف الأطماع هذا يصعب إطلاقه على الحالة السورية بحكم أن سوريا دولة عربية. هذا الترسيم يراد منه إنتاج النسخة الجديدة من برنامج الاحتواء. نسخة الاحتواء المزدوج المعدلة ستحتوي على صراعين رئيسين: صراع مذهبي: سني شيعي، وآخر قومي: عربي فارسي.

الخطير في برنامج الاحتواء المزدوج الجديد أن له مقومات وعناصر مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي كانت قائمة عام 1979م في عهد الرئيس جيمي كارتر.

فقد راكم البرنامج القديم وصولا إلى غزو العراق من الاحتقان ما أسس لنوع من النزاع التاريخي يرتكز على حوامل اجتماعية وأيديولوجية كبرى، بل ولقد أعطى لهذه الحوامل أجنحة تطير بها أعلى مما توقع منتجوها.

"
لا مصلحة على الإطلاق للسنة أو الشيعة في أي نوع من الصراعات المذهبية, كما لا مصلحة لإيران في أي سياسات تتغذى من هذا المستنقع، ولا مصلحة حتى للدول الإقليمية في انفراط معادلة العراق وانهياره وتفتيته
"

وهذا ما يجعل تفادي هذا النزاع بحاجة إلى رافعة كبرى موازية وموازنة، ومبكرة زمنيا قبل أن يصبح من النزاعات غير القابلة للحل إلا بقانون اللعبة الصفرية، أو ما يسمى صراعات الوجود، أي إما نحن أو هم.

لا مصلحة على الإطلاق للسنة أو الشيعة في مثل هذا النوع من الصراع، كما لا مصلحة لإيران في أي سياسات تتغذى من هذا المستنقع، ولا مصلحة حتى للدول الإقليمية في انفراط معادلة العراق وانهياره وتفتيته.

المصلحة الإستراتيجية لجميع شعوب المنطقة تكمن في التكامل الممكن لبناء المستقبل وليس في التنازع الراهن الذي سيطلق اصطفاف وقودها الناس والحجارة ومقرها جهنم لا يمكن تقدير سعيرها.

أعادت مرحلة ما بعد الغزو إلى المشهد العراقي صورة الصراع العربي الفارسي، الذي أنتجته السياسات الاستعمارية ما بعد انهيار المشروع الحضاري الإسلامي الذي كان حامله الرئيس الأمتين العربية والفارسية. كما أعادت إنتاج صراع مذهبي سني شيعي كإحدى أخطر الأدوات لتدمير المنطقة كونهما أضخم تيارين للإسلام السياسي فيها.

ما يجمع الأمتين العربية والفارسية أكثر مما يفرقهما. فهما ينتميان لحوض حضاري واحد بل هم شركاء تاريخيون في حضارة ما بين النهرين، وهم شركاء في حمل رسالة الإسلام الكبرى.

وهم شركاء في مشروع تبادل ثقافي مبكر من الثقافة المانوية وتأثيراتها في الثقافة العربية والحضور المكثف للغة العربية في النتاج الفكري والثقافي الفارسي. الفرس والعرب عبر التاريخ أقرب إلى الأمة الواحدة منهم إلى أمتين. هنا أتحدث عن المستوى الحضاري وليس عن المستوى السياسي. منتجات المستوى السياسي كثيرا ما تكون متناقضة مع المستوى الحضاري.

عندما تكاملت الأمتان في مشروعهما الحضاري نتجت حضارة ما بين النهرين، وعندما تكاملت الأمتان في مشروع حمل رسالة الإسلام ازدهرت الأمتان في مشروع واحد هو أضخم وأهم مشروع حضاري تاريخي.

خسرت الأمتان عندما انهار مشروعهما المشترك وانتقلا من حاملين لمشروع حضاري إلى متنافسين في الجغرافيا السياسية على هوامش مشروع الغزو الغربي.

ما زالت ذيول الصراع الشاهنشاهي ممتدة لليوم في دور الهيمنة السياسي الذي كان يمارسه الشاه على الجغرافيا والسياسة العربية الخليجية كأداة في المشروع الغربي. فهل تبقى هذه الذيول هي الأساس، ويبقى الدور المرسوم لهذه الجغرافية قائما رغم كل المتغيرات التي حصلت في المنطقة والعالم.

"
عندما تكاملت الأمتان العربية والفارسية في مشروعهما الحضاري نتجت حضارة ما بين النهرين، وخسرتا عندما انهار مشروعهما المشترك وانتقلا من حاملين لمشروع حضاري إلى متنافسين في الجغرافيا السياسية على هوامش مشروع الغزو الغربي
"

ما يسعى إليه الاستعمار الغربي هو تأبيد هذا المشهد، كونه المشهد الوحيد القابل لخدمة أهدافه وأغراضه. فكيف تجيب النخب السياسية في الأمتين على الأسئلة التي تطرحها المواجهة مع هذا المشروع الغربي الاستعماري لتعيد إنتاج الدور الحضاري المشترك والبناء النهضوي الخاص الذي يحمل الأمتين نحو العزة السياسية والمنعة والنهضة الحضارية أمام التدمير الذي تريده القوى الغربية لهما.

الأطماع تتولد لدى أي طرف قوي عندما يكون الطرف الآخر "المطموع فيه" في قمة الضعف. وهنا يطرح السؤال الأهم: من الذي ولد لدى أمتنا هذا الضعف؟ ومن الذي أضعف وأنهك العراق ودمر العراق؟ من الذي أنتج الكيان الصهيوني أداة حراسة للتجزئة والتخلف العربي الذي أفرزته سايكس بيكو؟ أليس هو المشروع الغربي واستطالاته وتجلياته في بلادنا؟ وأنا هنا لا أناقش الشق الذاتي من العجز وإنما الشق الموضوعي منه.

هل إيران والشيعة هم سبب عجزنا وتخلفنا؟.. إذن لماذا لا تتكامل الأمة العربية دفاعا عن العراق؟ ولماذا لا تتكامل الأمتان العربية والفارسية دفاعا عن العراق؟ ولماذا لا يتكامل المذهبان السني والشيعي لإنقاذ العراق؟

فالانقسام العربي الرسمي على محاور الصراع الدولي سيبقي الأمة العربية في حالة ضعف مفرط وستبقى مطمعا لكل القوى الدولية والإقليمية، وهذا طبيعي في السياسة.

وستنتقل الأمة من ضعف إلى ضعف أشد. وليس أدل على ذلك من نواتج برنامج الاحتواء المزدوج سيئ الذكر الذي انخرطت فيه أغلب الدول العربية. وتركت لإسرائيل فرصة اجتياح لبنان عام 1982م، وتركت لها فرصة تهويد الأرض الفلسطينية وضم الجولان السوري، وفرضت علينا مؤتمر مدريد وأوسلو ونواتجهما الكارثية على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضية الأمة المركزية وعدوها الرئيس المتمثل في الكيان الصهيوني ووظائفه.

لا يمكن تفهم مقولة الخطر الشيعي ولا يمكن تفهم مقولة الخطر الفارسي أو ربما التركي مستقبلا ولا يمكن تفهم مقولة مخاطر الهيمنة السورية على لبنان وربما الأردن مستقبلا، ولا يمكن تفهم مقولة خطر الهيمنة السعودية على اليمن.

كلها مخاطر مفتعلة وغير حقيقية، ومقولات ينتجها الطابور الخامس الإعلامي والثقافي لجيش المارينز الغازي، يراد من خلالها إبقاء الأمة قيد الاستهلاك والاستنزاف في معارك دونكشوتية، أو كما يقال "تغميس خارج الصحن".

ولا يمكن مواجهة هذه المخاطر، إن وجدت، بالارتكاز على الغرب المؤسس الحقيقي والمنتج الحقيقي لهذا الضعف ولهذه الأطماع الناتجة عنه بالأساس.

إذا كان برنامج الاحتواء المزدوج قد أسس لكل هذا الخلل، فإن برنامج الفوضى الخلاقة الراهن هو منتج كل هذه الصراعات الإثنية والطائفية والقومية بامتياز. وسيصل إلى حد الصراع بين وحدات الجيوبوليتيك العربي الابن الشرعي لسايكس بيكو.

هذا البرنامج يرتكز بالأساس على تفكيك كل المجتمعات إلى مكوناتها الأولية، مثل تحليل الأرقام إلى معاملاتها الأولية ومن ثم ضرب جميع هذه العوامل في بعضها ولكن هذه المرة ليس لإعادة إنتاج الرقم كما في الرياضيات بل للاستيلاء على مجمل الرقم في السياسة، وتوظيف العناصر الأولية في معادلة جديدة يتحكم فيها الطرف الصانع للتفكيك.

إنها معادلة تخويف الكل من الكل، وإطلاق مطالب الكل من الكل في أقصى حدودها تحت وهم إمكانية تحقيق مكتسبات فئوية ضيقة تتضخم في ظل التفكيك ويعتقد كل معامل أنه هو الرقم الأساس والأصل والصعب.

"
إذا لم يتم التدارك المبكر من جميع الأطراف لمخاطر الحرب الأهلية الزاحفة في العراق، فإن تدخلا خارجيا على شكل مؤتمرات إقليمية ودولية سيكون وضعا إجباريا، وسيجعل المعادلة أكثر تعقيدا وأصعب تركيبا
"

وفي ظل تخويف الكل من الكل يصبح الكل في الملعب المعادي، وقوة مضافة إلى عساكر الخصم الأساس المتمثل في الهجمة الاستعمارية الشرسة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الدوليون واستطالاتهم المحلية المهترئة على شعوبنا وعلى حضارتنا وعلى وجودنا الكلي.

وهنا يتولى من أنتج التفكيك اللعب بالعناصر الأولية لإعادة تركيب المعادلة وفق مصالحه، وتعود المعاملات الأولية لتختفي ضمن معادلته الجديدة.

فهل من الممكن وبعد الانفراط الأولي الذي أصبح موضوعيا ومنتجا معاديا لمصالح الأمتين العربية والفارسية ومعاديا للكل الحضاري الإسلامي، أن نعيد نحن تركيب معادلتنا وإنتاج رقمنا الصعب والقوي؟ هل يمكن إعادة الشيعة والسنة إلى الرقم الإسلامي الأكبر، وهل يمكن إعادة العرب والفرس إلى الرقم الحضاري الأكبر.

إذا لم يتم التدارك المبكر من جميع الأطراف لمخاطر الحرب الأهلية الزاحفة في العراق، فإن تدخلا خارجيا على شكل مؤتمرات إقليمية ودولية سيكون وضعا إجباريا، وسيجعل المعادلة أكثر تعقيدا وأصعب تركيبا، وسيكون التفكيك والتفتيت مساويا لعديد القوى الدولية والإقليمية.

إن من يعتقد أنه يمكن أن تتحقق له مصلحة، مهما بدت كبيرة، من خلال اللعب بعناصر كالتي أوقدتها لعبة الفوضى الخلاقة بالقطع سيكون أول ضحاياها وأكبر الخاسرين فيها.

ربما تقع مسؤولية كبرى اليوم على سوريا وإيران في الإجابة عن سؤال التكامل، وكيفية إنتاج رؤية سياسية تكاملية تقطع الطريق وتسحب الأدوات والمشارط من أيد تسعى لتمزيق العراق.

النداء والثقة ليس في السطح السياسي العربي السائد بشقيه الشعبي والرسمي ولكنه دعوة إلى كتلة الشعوب لكي لا تنخرط في هذه البرامج التفتيتية وترفضها وتلفظها.

كما ترفض أن تكون وقودا في أتون الطائفية والمذهبية والعرقية التي لن تترك أقل من تشوهات تاريخية لا تنمحي وتبقى جرحا داميا مدى الدهر تتوارثه الأجيال كخرائط سياسية واجتماعية كما تتوارث خرائطها الجينية.
ــــــــــــ
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.