في الأخلاق الليبرالية

في الأخلاق الليبرالية


– موريس فلامان ونظرية الأخلاق العملية
– نظرية الأخلاق عند جيريمي بنتام
– الأخلاق الأبيقورية والأخلاق الليبرالية

هل يمكن الحديث عن وجود أخلاق ليبرالية؟ أم أن الليبرالية بوصفها نزعة تحررية فردانية تناقض ماهية النسق الأخلاقي بما هو نسق يقوم على الإلزام؟ لكن هل بإمكان الليبرالية أن تبلور نظرية مجتمعية دون استشعار الحاجة إلى تأسيس منظومة أخلاقية؟

ليس ثمة تحليل نقدي وُجِّهَ إلى الفلسفة الاجتماعية الليبرالية إلا وانتبه إلى هامشية القيمة الأخلاقية في رؤيتها لما ينبغي أن ينظم علاقة الأفراد، ونوع القيم التي يجب أن تضبط ترابطهم داخل المجتمع.

لذا حق لنا أن نصحب عنوان مقالنا هذا بعلامة تعجب؛ ذلك لأن نسب الأخلاق إلى الليبرالية أمر مشكوك فيه ابتداء، فالخلق مجموع من القيم والقواعد الواجب امتثالها من قبل الفرد في سلوكه وعلاقاته مع الآخر، وبين التخلق والتحرر فاصل ومائز دلالي وفعلي لا سبيل إلى إنكارهما.

قد يقال دفاعا عن تلازم الحرية والأخلاق، إن الكائن الإنساني ما كان كائنا أخلاقيا إلا لكونه حرا، فالأخلاق فضلا عن طابعها الإلزامي هي أيضا التزام نابع عن قدرة على الامتثال للقيمة الخلقية أو خرقها.

ولا يمكن أن نحكم على سلوك ما بكونه امتثالا للقيمة أو خرقا لها إلا إذا كان صادرا عن ذات مختارة لا ملزمة. ولهذا فالسلوك الحيواني لا يندرج ضمن السلوك الأخلاقي؛ لأنه صادر عن فعل غريزي.

وهذا في تقديري صحيح، لكننا هنا لا نتحدث عن مقوم الفعل بل عن مبدأ المذهب، فالليبرالية بوصفها مذهبا يطلق الفردانية من أي ضابط قيمي غير ضابط المنفعة المحددة كميا، أراها تتضاد مع أساس القيم الأخلاقية.

ومن هنا يجوز لنا القول إنها كفلسفة اقتصادية أو نسق مجتمعي تقف مهزوزة أمام سؤال الأخلاق؛ لأنه ليس لها في مرجعيتها النظرية، ولا في تطبيقها المجتمعي ما يمكن أن يسند القيم الأخلاقية بما هي التزام يتعالى على النفعية الفردانية.

فالرؤية الليبرالية للاجتماع تتأسس على منظور فرداني يقصد الربح المادي والمنفعة الشخصية؛ وبذلك فهي عاجزة عن تبرير ذاتها كفلسفة تقصد بناء الحياة المجتمعية، لاحتياج هذه الحياة ولابد إلى الأساس الأخلاقي المتعالي على المصلحة الفردانية، أساس شارط لها لا مشروطا بها.


"
الحياد الأخلاقي الذي تزعمه الليبرالية لنفسها هو إثبات لعجزها عن تأسيس المسألة الأخلاقية على نحو يبلور نظرية قابلة لأن تتسمى حقا بالأخلاقية
"

موريس فلامان ونظرية الأخلاق العملية
الواقع أن هذا الاختلال الذي يعاني منه مفهوم القيمة الأخلاقية داخل النسق الفلسفي الليبرالي لا يعيه ناقدو الليبرالية فقط، بل يستشعره حتى دعاتها.

ولنأخذ كدليل على ذلك المؤرخ الليبرالي موريس فلامان في كتابه "تاريخ الليبرالية"، حيث نجده يستحضر النقد الأخلاقي الموجه لمذهبه، وبعد أن يعترف بأن هذا النقد من أكثر الانتقادات تداولا حول الفلسفة الليبرالية، يحاول الدفاع عن أخلاقياتها، من خلال ما أسماه بوجود "أخلاق عملية"!

فما هي محددات الأخلاق العملية الليبرالية؟
يرى فلامان أنها ثلاثة هي:
1- التأكيد على فعل الادخار، الأمر الذي يستلزم نوعا من التقشف.
2-احترام العقود المكتوبة وغيرها (كاحترام الكلمة)، وهو ما كان يعكس منذ القديم الاحتراس من خيانتها.
3- المسؤولية: بحيث أن الإخفاق البسيط يجب أن يؤدي صاحبه الثمن عليه.

هذا هو دفاع فلامان عن أن الليبرالية لها أخلاق. لكن عندي هنا ملاحظتان اثنتان، الأولى شكلية، والثانية مضمونية:

أما من حيث شكل دفاعه، فأرى أن ما كتبه فلامان هو بحد ذاته توكيد على هامشية الأخلاق في المنظومة الفلسفية الليبرالية، وآية ذلك أن الصفحات التي خصصها لبحث المسألة الأخلاقية لم تجاوز صفحة ونصف!

ويكفي هذا دليلا عكسيا على ما حاول فلامان إثباته، فدفاعه عن وجود أخلاقية ليبرالية جاء على قدر من الاحتشام والانكماش والاختزال، فكان بذلك دالا على غياب ما أراد التوكيد على حضوره!

أما الملاحظة الثانية، فإن هذه المبادئ الأخلاقية ذاتها، التي أعلنها كبرهان على وجود أخلاق ليبرالية، ودليلا للدفاع عنها ضد الانتقادات الموجهة لها، نراها تفتقر إلى المبدئية الأخلاقية، حيث أنها مصوغة بلغة تجارية لا تفرق بين التعاقد الإنساني حول مثل الحياة وقيمها، وبين التعاقد التجاري القائم على مفاهيم الثمن والبيع والشراء ومقدار الادخار.

لنتأمل مبدأ المسؤولية الذي هو محدد أساس من محددات الفعل الأخلاقي، ولننظر كيف ابتذله فلامان بتأسيسه على مفهوم الثمن حيث يقول مفسرا إياه: "إن الإخفاق البسيط يجب أن يؤدي صاحبه الثمن عليه"، وكذلك الشأن بالنسبة للمبدأين الآخرين (التأكيد على فعل الادخار، واحترام العقود)؛ إنها مفاهيم تفضح بصريح بنيتها اللسانية الابتذال الاقتصادي للقيم الأخلاقية من قبل الفلاسفة الليبراليين.

إن دفاع فلامان عن الأخلاقية الليبرالية، ودفاع غيره من الليبراليين، يكشف عن أن أفضل ما يؤكد الإفلاس الأخلاقي لليبرالية هو استحضار دفاع الليبراليين عن أخلاقيات مذهبهم؟!

فبعض المدافعين يحرص على القول بأن الليبرالية محايدة فيما يخص الأخلاق (مبدأ الحياد الأخلاقي)، وهذا أيضا دفاع معكوس يثبت ما يحسب أنه ينفيه.

فالحياد الأخلاقي الذي تزعمه الليبرالية لنفسها هو إثبات لعجزها عن تأسيس المسألة الأخلاقية على نحو يبلور نظرية قابلة لأن تتسمى حقا بالأخلاقية. فما اختارت الحياد إلا لعجزها عن إيجاد نقطة ارتكاز لموضعة موقفها وترسيخه.


"
ما يؤكد إفلاس النزعة المذهبية الليبرالية هو النظر في مرجعيتها الفلسفية، وبحث أصولها النظرية التي سعت إلى التأسيس والتنظير للمحدد الأخلاقي، فانتهت إلى ما يثبت عدم استحقاق نتاجها لأن يسمى فلسفة أخلاقية أصلا
"

نظرية الأخلاق عند جيريمي بنتام
كما أن ما يؤكد إفلاس هذه النزعة المذهبية هو النظر في مرجعيتها الفلسفية، وبحث أصولها النظرية التي سعت إلى التأسيس والتنظير للمحدد الأخلاقي؛ حيث سنجد أن ما انتهت إليه يثبت عدم استحقاق نتاجها لأن يسمى فلسفة أخلاقية أصلا.

ودليلي على ذلك هو النظر في أكبر أصل نظري للأخلاق الليبرالية، ذاك الذي يتمثل في الإسهام الفلسفي لجيريمي بنتام، إذ هو يعد في هذا السياق اسما مرجعيا من جهتين:

من جهة ريادته؛ حين كان أول من وسع من المنظور الليبرالي ونقله من مستوى التفكير في العلاقة السياسة، إلى بحث العلاقة الأخلاقية.

ومن جهة ثانية؛ لأنه كان أول من أسس نسقا نظريا أخلاقيا مترابطا، لم ينحصر في تحديد المبادئ، بل وصل إلى حد التأسيس لمعايير قياسها.

لقد انتهى بنتام، بنزعة موغلة في تجريد القيم الأخلاقية من كل أساس مرجعي متعال، إلى أن المبدأ الأخلاقي الوحيد هو مبدأ المنفعة بمدلوله الخاص الفردي، ولم يستطع التخفيف من فردانية نزعته بتوكيده على دور الدولة في ضمان النفع لأكبر عدد من الأفراد.

فهو في منطقه يخلص إلى أنه يجب على الفرد أن يتحقق من المنفعة التي تعود عليه هو ذاته من الفعل قبل أن يقوم به.

ووفق هذا المنظور المادي سيذهب بنتام، مستندا على هيلفيتيوس وبريستلي، إلى التأسيس "لعلم حساب اللذة والآلام"، قاصدا أن يكون معيارا لقياس السلوك الأخلاقي والعملي قياسا كميا.

وبما أن المبدئية الأخلاقية هي المنفعة، فقد كان لازما على هذا العلم أن يؤسس لطريقة تمكن من قياس اللذة، تلك التي يصنفها بنتام إلى نوعين "متجانسة" و"غير متجانسة".

فالأولى يمكن قياسها كميا من خلال سبعة محددات هي:
1- المدة: وهو محدد لقياس المدة الزمنية للذة، فاللذة المستمرة أو الممتدة زمنيا أفضل من اللذة العابرة.
2- الشدة: أي قياس مدى قوة اللذة أو ضعفها.
3- التيقن من الإنجاز: حيث أن اللذة المؤكد حصولها أفضل من تلك التي نشك في إنجازها.

4- القرب: أي أن اللذة العاجلة أفضل من اللذة الآجلة.
5- الخصب: أي النظر في مدى أن تثمر اللذة لذات أخرى.
6- الصفاء: أي أن تكون اللذة خالصة غير مصحوبة بالألم.
7- الامتداد: أي قياس مدى تعدي اللذة من الفرد إلى حصولها من أفراد آخرين.

ولا يعني مبدأ الامتداد هذا أن بنتام ينقذ أخلاقيته من الفردانية، بل إنه هو نفسه يحرص في شرحه لمبدئه على القول بأن الفرد عندما يقصد تحقيق منفعته فإنه "عفويا" يطلب لغيره اللذة، ولا يطلبها له قصدا، لأن منفعة التاجر مرتبطة بمنفعة المشتري من جهة غير قصدية.

لكن هذا لا يمنع من القول صراحة إن مفهوم الغيرية حاضر في الوعي الأخلاقي البنتامي، وإن لم نجد له ضمن نسقه ما يدعمه فعليا.

ويحرص بنتام على التوكيد أن مقياس الكم قابل لقياس ما يسميه باللذات المتجانسة، غير أنه عندما يبحث اللذات غير المتجانسة، كلذة القراءة مثلا وغيرها فإنه اعترف بصعوبة حسابها كميا. لذا نجده يبحث عن مقياس آخر يقاربها به.

لكن لا ينبغي أن يذهب الظن بالقارئ إلى أن المقياس الذي سيقترحه بنتام لقياس اللذات غير المتجانسة سيكون مقياسا معياريا قيميا وغير كمي، بل هو أكثر إيغالا في التكميم مما يظنه بنتام نفسه.

والمفارقة المثيرة للانتباه هي أن المقياس البديل الذي وضعه لا يخرج بتاتا عن الرؤية الكمية النفعية التي تحكم منظوره الليبرالي ككل؛ ذلك لأنه رأى أن هذه اللذات غير المتجانسة يمكن قياسها بـ"المال"!

أي أنه يجب على الفرد أن يقيس تلك اللذة بمقدار ما يصرفه من مال لتحصيلها، فإذا كان المبلغ المالي الذي تحتاجه مكلفا يجب أن يعرض عنها إلى لذة أقل منها كلفة.

هذه هي خلاصة الفلسفة الأخلاقية البنتامية التي تشكل الأساس المرجعي للمنظور الليبرالي، وتأمل هذه الفلسفة يكفي كدليل على هامشية الأخلاق في نسقها التصوري والاجتماعي.

وحتى محاولة التخفيف من لا أخلاقيتها بسبب نزعتها الفردانية التي قام بها جون ستيورات مل لا نجد لها ما صدقها في المنظور والواقع الليبرالي اليوم، فالأخلاق لم تعد قيما عليا والتزاما، بل مجرد قيم تجارية تقاس كميا بمبدأ المنفعة في مردودها الفردي.


"
الأخلاق الليبرالية هي الأحق بأن تُنعت بالأبيقورية –بمدلولها الشائع كطلب للالتذاذ الحسي والنزوع الفرداني- لأنها تنظر إلى الكائن الإنساني كجسد، وتستجيب له بوصفه كينونة جسدية ذات غرائز تطلب الالتذاذ والإشباع
"

الأخلاق الأبيقورية والأخلاق الليبرالية
لذا يصح أن نقول إن الفلسفة الأخلاقية الليبرالية هي في جوهرها لا أخلاقية، بل لن نبالغ لو قلنا إنه لم يسبق لمذهب فلسفي أن ابتذل الأخلاق وحول قيمها إلى أن تُعايَرَ بأوراق البنكنوت، مثلما فعلت الليبرالية بنزعتها البنتامية الموغلة في الرؤية النفعية.

فحتى المذهب الأبيقوري -الذي يُشاع عنه كونه مذهب اللذة- لم يسقط في هذا المزلق، والنظر المقارن يكشف أن الأخلاق الليبرالية أخس من الأخلاق الأبيقورية، وما خلص إليه بنتام هو أكثر إيغالا في حسية مبدأ المنفعة واللذة.

وهذا ما لم يقل به حتى الحكيم الإغريقي أبيقور الذي يُعد عند الكثير من المتحدثين عن نظريته الأخلاقية مثالا للميوعة والإيغال في اللذة.

وهنا لا بد أن نصحح أولا هذا التأويل الخاطئ للفلسفة الأبيقورية، لأنه يقوم على تحريف لدلالات نصوصها، إذ اللذة عند أبيقور إن كانت مطلبا طبيعيا وغريزيا، فإن الحكمة تقتضي -حسب أبيقور- أن نقنع بحد أدنى من اللذات، أي تلك التي تكون طبيعية وضرورية.

بل إنه يذهب موغلا في تقشف الحكماء إلى أن الجنس لذة غير ضرورية، حين يميز بين اللذات الحسية والمعنوية، رائيا أن الفعل البشري يقصد بالأساس اجتناب الألم، واضطرابات النفس، وعند غياب الألم لا يشعر بالحاجة إلى اللذة.

إن الفلسفة الأبيقورية هي نفي للحاجة إلى اللذة باستبعاد الألم، إذ اللذة عندها هي أن يعيش الإنسان في "سلام روحي"، مجتنبا الألم، ومقللا من حاجاته إلى أقصى حد ممكن، وهذا هو المعنى الأخلاقي العميق الذي ذهل عنه الفكر الشائع المؤول للأبيقورية تأويلا محرفا.

وفي سياق المقارنة بين الأخلاقيتين الأبيقورية والليبرالية، لا بد أن نشير إلى أن أبيقور يميز، في بحثه في النفس الإنسانية، بين نوعين من الرغبات: طبيعية وعبثية، بينما الليبرالية ليس عندها أي تمييز مبدئي، فكل رغبة/طلب عندهم، ولو كانت عبثا، تجب الاستجابة لها في السوق بالعرض، من أجل تحقيق الربح المادي.

بل إن صناعة الذوق الاستهلاكي عن طريق الأنظمة الإشهارية التي يعتمد عليها النسق الاقتصادي الليبرالي، يذهب إلى خلق رغبات عبثية، وتحويلها إلى حاجات وعوائد استهلاكية من أجل إدخال الفرد في دوامة النمط الاستهلاكي.

وتأسيسا على ما سبق فإن "الأخلاق" الليبرالية هي الأحق بأن تُنعت بالأبيقورية –بمدلولها الشائع كطلب للالتذاذ الحسي والنزوع الفرداني- لأنها تنظر إلى الكائن الإنساني كجسد، وتستجيب له بوصفه كينونة جسدية ذات غرائز تطلب الالتذاذ والإشباع.

هذا دون أن تضع في الاعتبار الأبعاد المعنوية في كينونة الإنسان، وهي الأبعاد التي أبصرتها الحكمة الدينية والفلسفية منذ أقدم تجلياتها الفكرية.

وخلاصة القول: إن الليبرالية اليوم ليست في مبدئها الأخلاقي -أو اللاأخلاقي- إلا امتثالا لمقولات بنتام، ولن نبالغ لو قلنا بلغة الاستهجان إنه إذا جاز لليبراليين أن يفخروا بشيء في مسألة الأخلاق، فليفخروا بالمقياس الكمي البنتامي، إذ أكدوا بذلك أنهم الوحيدون –من دون أهل النظر والفكر- الذين استطاعوا أن يمسخوا القيم والمبادئ الأخلاقية ويعبئوها داخل كم قابل للقياس.

ولا عبرة بتمييزهم بين أنواع القيم، فقد ذهب مؤسس النظرية الأخلاقية الليبرالية جيريمي بنتام إلى القبض حتى على القيم، التي اعترف بكونها غير قابلة للقياس الكمي، فقاسها بالمقدار المالي!

لكننا نضع هنا سؤالا لعله يهجس بداخل الوعي الليبرالي: هل تبقى ثمة قيمة أخلاقية عندما توزن بالكيلو وتعاير بالدولار؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.