فضائح الغزاة في تجلياتها الأخيرة

فضائح الغزاة في تجلياتها الأخيرة


– الفشل العسكري أمام المقاومة
– العنف الطائفي والحرب الأهلية
– علاقة الغزو بانتشار الإرهاب
– فضيحة استهداف الجزيرة

قامت مؤامرة غزو العراق على سلسلة من الأكاذيب التي صاغها المحافظون الجدد، العاملون لصالح دولتهم العبرية، ففي البداية كانت قصة أسلحة الدمار الشامل، وما إن افتضحت هذه الحجة حتى صاغ الغزاة نظرية أخرى تقوم على علاقة صدام حسين بالإرهاب.

وعندما تداعت هذه التهمة سريعا، لم يجد الغزاة من تبرير سوى الحديث عن الإطاحة بالدكتاتورية وجعل العراق نموذجاً للديمقراطية في منطقة تعج بالأنظمة الشمولية.

ثم كانت الحجة التي جرى من خلالها تسويق الغزو، وبتعبير أدق استمرار الحشد له، ممثلة في الحديث عن دور غزو العراق في الحد من الإرهاب عبر جعله قاعدة متقدمة لمواجهة الإرهابيين والحيلولة دون وصولهم إلى الولايات المتحدة.

في الآونة الأخيرة توالت فضائح الغزاة على أكثر من صعيد، لاسيما الأميركيين والبريطانيين، وذلك على نحو أربك المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، كما وضع حليفهم توني بلير في وضع بائس أمام الجماهير البريطانية التي قال 70% منها باستحالة الانتصار في العراق حسب آخر استطلاع للرأي.

في هذه السطور، سنتوقف عند جملة من تلك الفضائح التي ما زالت تتوالى، متزامنة مع تصعيد في الساحة العراقية والأفغانية تجاوز كل التوقعات.

وفي حين قلل الأميركان من دورهم في أفغانستان تاركين جزءاً كبيراً من المهمة الأمنية لقوات حلف الناتو، فقد ظل الموقف في العراق على حاله، إذ ما زالوا هم حكام البلد والمسؤولين عن كل ما يجري فيه من مصائب، وهم يتحملون تبعاً لذلك معظم الأعباء المترتبة على ذلك.

في الساحة العراقية تزداد حدة العمليات العسكرية الموجهة لقوات الاحتلال، في حين ينزلق البلد إلى حمى حرب أهلية قد تأكل الأخضر واليابس إذا استمرت على هذا النحو.

وفي هذا السياق شكلت الإدارة الأميركية لجنة حكماء لدراسة الوضع والتوصية بطرائق معقولة للخروج من المأزق، وستنشر توصيات اللجنة بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.

إلا أن الحديث عن قدرة تلك التوصيات على إخراج الوضع من مأزقه لا تبدو واردة، لاسيما أن الانسحاب لن يكون واحداً من المسارات المطروحة، نظراً لما يعنيه من تأثير بالغ الأهمية على هيبة ومستقبل إمبراطورية عظمى مثل الولايات المتحدة، فضلاً عما يعنيه بالنسبة لمستقبل المشروع الصهيوني في منطقتنا.

سنتوقف في هذا التحليل عند آخر فضائح الغزاة، أعني تلك التي برزت خلال الشهرين الماضيين لا أكثر، لسبب بسيط هو أن مسلسل الفضائح لم يتوقف منذ وطئت أقدامهم أرض العراق، غير أن هذا المسلسل الأخير يمثل تأكيداً على تعاظم الأزمة التي تعيشها القيادة الأميركية والبريطانية بسبب الفشل الرهيب في تحقيق إنجاز ولو محدود على الأرض.


"
يجب ألا تغيب المعلومات الدورية عن عدد الجرحى الذين يكلفون الخزينة الأميركية أكثر من القتلى، مع العلم أن العدد الأخير المعلن قد بلغ ما يقرب من 21 ألفا لن يعود نصفهم على الأقل إلى الخدمة العسكرية
"

الفشل العسكري أمام المقاومة
عندما اندلعت المقاومة بعد أسابيع قليلة من الاحتلال ذهب الغزاة إلى أن من يحملون السلاح هم البعثيون وأيتام النظام السابق، وأن صدام حسين هو الذي يقود التمرد.

وما إن اعتقل هذا الأخير حتى ازدادت وتيرة العمليات ليصار إلى التركيز على الإرهابيين والقاعدة كسبب للتوتر في البلاد، وجرى وضع الزرقاوي كعنوان للتصعيد، لكن اغتيال هذا الأخير لم يغير في واقع المشهد الذي ازداد ضراوة بمرور الوقت.

أما الآن فقد عاد القوم إلى وضع الإرهابيين أو التكفيريين والبعثيين كعنوان متواصل للتصعيد في شقيه؛ ضد قوات الاحتلال، وضد الشرطة والمدنيين، إضافة إلى فرق الموت التي تنتمي إلى المليشيات الشيعية وإن لبست زي الشرطة.

على صعيد الفشل في محاصرة المقاومة، وبعيدا عن التصعيد واسع النطاق الذي سجله شهر أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، فقد جاء كتاب الصحفي الأميركي الشهير بوب وودورد "حالة نكران" ليعلن أن القوات الأميركية تتعرض لهجوم كل خمسة عشر دقيقة، أو تسعمائة هجوم في الأسبوع الواحد.

وهذا رقم كبير جداً بكل المقاييس، بصرف النظر عن عدد الخسائر من زاوية القتلى الذين لا يحصى منهم سوى الجنود الذين يحملون الجنسية الأميركية، في حين يجري تجاهل المتعاقدين المدنيين ومن لا يحملون الجنسية.

كما يجب ألا تغيب المعلومات الدورية عن عدد الجرحى الذين يكلفون الخزينة الأميركية أكثر من القتلى، مع العلم أن العدد الأخير المعلن قد بلغ ما يقرب من 21 ألفا لن يعود نصفهم على الأقل إلى الخدمة العسكرية من جديد.

على ذات الصعيد المتعلق بالفشل العسكري جاءت تصريحات أكبر قائد بالجيش البريطاني الجنرال ريتشارد دانات لتشكل صفعة أخرى على وجه رئيس الوزراء توني بلير ومن ورائه الأميركان، إذ ذهب هذا الأخير إلى أن الوجود البريطاني في العراق أضر بالمصالح الأمنية البريطانية في الخارج، واعتبر أن جيشه يجب أن يخرج من العراق في وقت قريب.

كان تقرير للبنتاغون جرى إعداده بطلب من الكونغرس ونشرت مقتطفات منه مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، قد اعترف على نحو صريح بأن "تمرد العرب السُنة لا يزال قوياً ومستمراً على رغم أن وضوحه غطى عليه العنف الطائفي المتزايد".


"
مهما بلغ الإنكار فلن يغير في حقيقة أن العراق قد أصبح ساحة للموت المجاني والقتل على الهوية كما لم يعرف في تاريخه طوال القرون
"

العنف الطائفي والحرب الأهلية
كان التقرير المشار إليه آنفاً قد أوضح أن الصراع الطائفي قد يتطور إلى حرب أهلية، مشيراً إلى ارتفاع العدد الإجمالي للهجمات بنسبة 24%، كما قفز عدد القتلى والجرحى العراقيين بنسبة 51% ووصل زهاء 120 عراقياً يومياً.

كما ذكر أن فرق الإعدام التي تضم عناصر مارقة من قوات الأمن العراقية، التي تلقت تدريباً في الولايات المتحدة، مسؤولة إلى حد كبير عن أعمال العنف الطائفي بما في ذلك عمليات قتل على غرار أساليب الإعدام.

لكن الأهم هو الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة جون هوبكنز الأميركية، وتوصلوا من خلالها إلى أن عدد قتلى الحرب على العراق قد وصل زهاء 655 ألف إنسان، بينما كان منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة يان إنغلاند قد أكد أن أعمال العنف في العراق توقع مائة قتيل يومياً وتدفع ألفاً آخرين إلى النزوح من مناطقهم.

وقال إن أعمال العنف الديني والأعمال العسكرية أدت إلى فرار 315 ألف شخص خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، فيما ذكر تقرير آخر إلى أن عدد المهجرين منذ بداية الحرب قد زاد على ثلاثة أرباع مليون شخص.

بالطبع رفض جورج بوش نتائج دراسة جون هوبكنز واعتبرها "فاقدة الصدقية" كما شكك فيها آخرون من الباحثين من معاهد أخرى، معتبرين أن الرقم أقل بثمانية أضعاف، من دون أن يتجرأ كثيرون على تأييدها.

لكن أي قدر من الإنكار لن يغير في حقيقة أن العراق قد أصبح ساحة للموت المجاني والقتل على الهوية، كما لم يعرف في تاريخه طوال القرون.

ولا تستطيع قوات الاحتلال أن تعتبر نفسها بريئة مما يجري، لا لتورطها في الكثير من عمليات القتل والتعذيب فقط، وإنما أيضاً لأنها مسؤولة بحسب ميثاق جنيف عن حياة السكان الواقعين تحت الاحتلال.

وعلى الصعيد المتعلق بالحرب الأهلية جاء تقرير مركز التقدم الأميركي للأبحاث في واشنطن الذي يرأسه جون بوديستا المدير السابق لموظفي البيت الأبيض بإدارة كلينتون، فذهب إلى أن الصراع في العراق أسوأ من الحرب الأهلية.

كما فاجأ جون فرنانديز، الموظف الكبير بالخارجية الأميركية، الأوساط السياسية بوصفه سياسات بلاده في العراق بالغباء والغطرسة.

هذا هو العراق الذي أراده بوش وعصابة المحافظين الجدد نموذجاً للحريات والديمقراطية، ها هو يتحول إلى نموذج لموت بلا حساب، ولصراعات طائفية تفوح منها رائحة الجثث المتفحمة والرؤوس المثقوبة بالدريل، كما لم يعرف في أي بلد في العالم.


"
افتضح القول إن حرب العراق كانت لمطاردة الإرهاب، وإن الخسائر التي بذلت كانت من أجل الحفاظ على أمن الولايات المتحدة
"

علاقة الغزو بانتشار الإرهاب
من الفضائح المهمة التي داهمت الغزاة ما يتصل بعلاقة غزو العراق بانتشار الإرهاب، وهي العلاقة التي أكدها تقرير سري صدر نهاية سبتمبر/أيلول الماضي عن الإدارة العامة للاستخبارات بالولايات المتحدة التي تضم 16 جهازاً أمنيا.

وقد جاءت نتائج الدارسة بمثابة صفعة أخرى للإدارة الأميركية، اضطرت على إثرها إلى الكثير من الفذلكة والتدليس لكي لا يصل الجمهور إلى ذات الاستنتاجات التي يرددها خصوم الإدارة الجمهورية الحالية.

خلاصة التقرير هي إثبات العلاقة الإيجابية بين انتشار الإرهاب وغزو العراق، وفي التفاصيل جملة من النقاط المهمة التي تشكل ضربة للتبريرات التي سيقت عشية الغزو.

ومن أهم تلك النقاط قول التقرير إن النزاع العراقي قد أصبح قضية شهيرة لدى المجاهدين تغذي ضغينة عميقة حيال الوجود الأميركي في العالم الإسلامي، وتؤدي إلى إيجاد متعاطفين مع الحركة الجهادية على المستوى العالمي.

وهناك أيضاً قول التقرير إن العراق "يشكل جيلاً جديداً من القادة والعناصر الإرهابية، ويستغل تنظيم القاعدة الوضع في العراق لاجتذاب متطوعين جدد ومانحين للحفاظ على دوره القيادي". ويضيف أنه "إذا لاح انتصار للجهاد في العراق فإنه سيلهم مزيداً من المقاتلين متابعة النضال في أماكن أخرى".

بل إن التقرير يرى أنه "إذا ما استمر هذا الاتجاه فإن التهديدات ضد المصالح الأميركية في الولايات المتحدة وفي الخارج ستزداد، مما سيؤدي إلى ارتفاع وتيرة الهجمات في العالم".

هكذا تتبدى فضيحة القول إن حرب العراق كانت لمطاردة الإرهاب، وإن الخسائر التي بذلت كانت من أجل الحفاظ على أمن الولايات المتحدة.

صحيح أن عمليات لم تحدث داخل الولايات الأميركية منذ حرب العراق، لكن ثمن ذلك من الناحية الاقتصادية كان باهظاً إلى حد كبير فضلاً عن ثمنه من الحريات.

أما الأهم فهو أن من يجد أميركيين يقاتلهم في العراق وأفغانستان لن يكون في حاجة إلى الذهاب إلى داخل الولايات المتحدة ليضرب هناك على نحو يفيد الإستراتيجية الأميركية أكثر مما يضرها، على اعتبار أن أحداً لم يقتنع بأن احتلال العراق كان من أجل أسلحة الدمار الشامل أو من أجل الديمقراطية أو مطاردة الإرهاب.

يُشار هنا إلى أن عدداً من التقارير والأبحاث قد صدرت في بريطانيا وأشارت إلى أن الهجمات التي استهدفت لندن كانت ذات صلة بغزو العراق وبالسياسة البريطانية الشرق أوسطية، الأمر الذي كان بلير يصر على نفيه على الدوام.

وقد كشفت صحيفة صنداي تلغراف النقاب عن مذكرة سرية أعدها مسؤولون كبار برئاسة الوزراء عن ذات العلاقة بين الإرهاب الذي طال بريطانيا وبين الحرب على العراق.


"
عصابة المحافظين الجدد لن تكف عن اختلاق الأكاذيب المتعلقة بالحرب واستمرارها، لاسيما وأن قرار الانسحاب من العراق لن يكون سهلا، وبالتالي فلا مجال أمامهم سوى استمرار الكذب حتى النهاية، رغم أن الشارع الأميركي والبريطاني لم يعد يصدقهم
"

فضيحة استهداف الجزيرة
بعد شهور من تسريب الوثيقة التي تتحدث عن ثني رئيس الوزراء توني بلير للرئيس الأميركي عن قصف قناة الجزيرة التي تسربت عبر إحدى الصحف البريطانية، جاء وزير الداخلية البريطاني السابق ديفد بلانكيت ليعترف أنه اقترح على بلير قصف مكتب الجزيرة في بغداد، الأمر الذي فضح دعاوى الحرية التي يتشدق بها القوم طوال الوقت.

في ذات السياق جاء ما كشفه الكاتب الأميركي نيكولاس كريستوف في صحيفة نيويورك تايمز من أن اعتقال سامي الحاج هو بسبب عمله مع الجزيرة، وأنه تعرض وما زال يتعرض لمساومات من أجل جعله جاسوسا على الجزيرة مقابل إطلاق سراحه، بدليل أن معظم التحقيقات التي أجريت معه كانت بشأن الفضائية التي عمل بها.

هكذا تتوالى فضائح الغزاة، وبالطبع من خلال الدراسات والتقارير التي تضع ما فعلوه ويفعلونه في سياق آخر غير ذلك الذي روجوا ويروجون له في وسائل إعلامهم ودعايتهم.

ونتذكر في هذا السياق دراسة هارفارد الشهيرة التي أكدت أن الحرب على العراق كانت بتحريض من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وأن أي أي صلة للعراق بالإرهاب لم تثبت، وأن حكاية أسلحة الدمار الشامل كانت كذبة لتبرير تلك الحرب.

من المؤكد أن عصابة المحافظين الجدد لن تكف عن اختلاق الأكاذيب المتعلقة بالحرب واستمرارها، لاسيما أن قرار الانسحاب من العراق لن يكون سهلاً بحال من الأحوال، ولا مجال أمام العصابة المذكورة سوى استمرار الكذب حتى النهاية، مع العلم أن الشارع الأميركي والبريطاني لم يعد يصدق تلك الأكاذيب.

وما هو إلا بعض الوقت، وتأخذ نعوش القتلى وصور الجرحى والمعوقين تفعل فعلها في الجماهير، وإذا كان جورج بوش نفسه قد اعترف بتشابه بين حرب فيتنام وبين الحرب في العراق فماذا يقول الناس، وبماذا تذكرهم مأساة فيتنام؟!

لقد افتضح بوش ومحافظوه الجدد، ومن ورائهم تابعهم توني بلير، ولكننا ننتظر القول الفصل من جماهير البلدين، لأن مسلسل الفضائح المشار إليه ما زال يمعن في تعبئة الشارع العربي والإسلامي بالكراهية للولايات المتحدة وسياسة الغطرسة تجاه الأمة بشكل عام.

وهذه الكراهية لا تترجم في أفعال يمكن أن يصفها القوم بالإرهاب فحسب، بل تترجم -وهذا هو الأهم- في مقاومة رائعة لن تتوقف حتى يعود الغزاة من حيث أتوا مذمومين مدحورين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.