النيوليبرالية وتأليه السوق

النيوليبرالية وتأليه السوق!


يُشكل مفهوم "السوق" في الاقتصاد السياسي عاملا لابد من استحضاره إن أردنا إنجاز مقاربة للواقع الاقتصادي في شموليته وتنوع مؤسساته وتشابك علاقاته.

وفي سبيل درسه والكشف عن القوانين الناظمة لحركته ابتُدعت رؤى نظرية متعددة، كان أشهرها ما طرح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تم تحديد وضعيتين اثنتين تمثلان المعيارين النظريين لقياس طبيعة السوق والقوانين الناظمة لحركته، هما:
– وضعية المنافسة التامة
– وضعية الاحتكار التام

وهما النظريتان اللتان سيتم بناء عليهما –ونقدا لهما– التنظير لوضعيات جديدة بديلة كوضعية سوق المنافسة الاحتكارية، ووضعية الاحتكار العددي.

"
كان السوق يُطرح في أدبيات الاقتصاد السياسي كحقل تبادلي، ومؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشكل في مجموعها الواقع الاقتصادي، لكنه اليوم أخذ يُطرح بصيغة فاعل مطلق، واحد لا شريك له
"

وغالبا ما كان السوق يُطرح في أدبيات الاقتصاد السياسي كحقل تبادلي، ومؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشكل في مجموعها الواقع الاقتصادي، لكنه اليوم أخذ يُطرح بصيغة فاعل مطلق واحد لا شريك له.

فالمنظور النيوليبرالي الراهن يدفع برؤية لا تجعل من السوق عاملا اقتصاديا فقط، ولا فاعلا أو مؤسسة من بين فعاليات ومؤسسات أخرى، بل كيانا له قداسة، يَحْرُمُ التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبَلِ سلطة خارجية عليه، إنه توثين جديد يصنع صنما تخلع عليه حلل القداسة في أعلى صورها.

ونحن هنا، رغم إعطاء الأولوية من الناحية المنهجية لمنظور الاقتصاد السياسي، نستهدف أيضا التوكيد على مسألة أعمق وهي أن الرؤية النيوليبرالية للسوق لها أبعاد وانعكاسات ثقافية ذات أثر عميق في التشكيل النفسي والقيمي للإنسان والمجتمع المعاصرين.

ومن ثم فهي تجاوز الحقل الاقتصادي، من حيث هو حقل سلع مادية، إلى حقل الثقافة وما يرتبط به من أنساق رمزية وقيمية.

ولإيضاح ذلك نبدأ بهذا الاستفهام الأولي: ما هي دلالة الرؤية النيوليبرالية للسوق؟ وما الأوهام التي تستبطنها؟

لنستحضر في البدء الرؤى الكلاسيكية لنظام السوق التي اختصرناها سابقا في وضعيتين اثنتين، فنقول: بالنسبة للنظرية التقليدية المحددة لوضعية "المنافسة التامة" سعى الاقتصاد السياسي الرأسمالي إلى تحديد الشروط الناظمة لها، فانتهى إلى كونها خمسة، هي: الذرية والشفافية وحرية الدخول والسيولة وتجانس المنتوج.

فذرية كيان السوق يُقصد بها أنه مكون من مجموعة كبيرة من الفاعلين (العارضين للسلع والطالبين لها)، لكن هؤلاء الفاعلين هم ذرات مجزأة، لا يمكن لأي ذرة منها أن تتحكم بمفردها في مجرى السوق.

أما الشفافية فتعني أن السوق كيان بلا أسرار، حيث أن كل الفاعلين فيه مكشوفون أمام بعضهم، إذ إن وجود أسرار يعوق الحرية الفعلية للسوق، ويخلخل شرط المنافسة الحقيقية.

أما حرية الدخول فتعني أن السوق ذو أبواب مفتوحة من حق جميع الأفراد الدخول إليه (كطالبين أو عارضين)، وإذا ما ابتُدعت قوانين تمنع الدخول إليه، فإنه ينتفي منه شرط أساس من شروط المنافسة التامة.

أما شرط السيولة فيُقصد به أن الطلب والعرض بينهما تواصل، وفي حالة وجود احتكار أو حاجز يمنع الاختيار الحر للطالب مثلا أو الاتصال الحر للعارض، فإن السوق يفقد شرطا من الشروط المحددة والمؤسسة للحالة التنافسية التامة.

أما خامس الشروط فهو تجانس المنتوج، وهو شرط قد يبدو مغرقا في التنظير، لكنه حاصل مترتب عن القياس النظري، إذ المنتوج يجب أن يكون متجانسا مهما تعدد عارضوه/بائعوه، لأنه لو كان مختلفا سيخلص بالطالبين (المشترين) إلى التمركز حول عارض (بائع) معين، فتختل المنافسة التامة.

أما النظرية الثانية المحددة لوضعية الاحتكار التام، فإن حالة السوق فيها تتميز بأحادية العارض وتعدد الطالب. ويُعد المُنَظر الاقتصادي كورنو أول من حللها، وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

"
الاتجاه النيوليبرالي عند ظهوره كرد فعل نقدي ضد الكينزية رأى أن التدخل في السوق نفي لحرية الفعل الاقتصادي ومساس بطبيعة العملية الاقتصادية ذاتها
"

والسوق المنتظم بشروط الوضعية الاحتكارية المطلقة يتميز بوجود عارض واحد (منتج/بائع)، وطالبين متعددين (مشترين)، وبذلك تنعدم المنافسة، وينفتح الباب للعارض ليحدد السعر وفق مصلحته.

لكن موقفه لا يكون حتى في وضعية سوق الاحتكار التام مطلقَ الحرية، إذ لابد أن يعمل في حسابه القدرة الشرائية للطالبين، بل وإمكان استغنائهم عن السلعة (المنتوج)، لأنه حتى إذا كان يستحيل على الطالب/المشتري إيجاد سلعة مماثلة، فإنه لا يستحيل عليه تعويضها بسلعة مقاربة.

لكن نظرية السوق كما تبلورت في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي بدت بافتراضها لهاتين الوضعيتين مغرقة في التنظير، إذ بينها وبين الواقع الفعلي للممارسة الاقتصادية بون شاسع.

لذا اضطر الاقتصاديون إلى تأسيس نظريات بديلة تستنزل مفهوم السوق من سماء التجريد ليطابق الواقع العملي المجسد.

وخلال القرن العشرين تبدلت الوضعية الاقتصادية، وتغير الكثير من خصائصها: فإذا كان السوق الرأسمالي في القرن التاسع عشر شهد وضعيات تجسدت فيها المنافسة التامة، فإنه خلال القرن العشرين ظهرت عوامل جديدة، لم يعد معها السوق مشكلا من ذرات صغيرة، بل من وحدات كبرى لها سلطتها الفعلية.

ولم يعد بإمكان الرؤية الاقتصادية الزعم بأن السوق حر، بل ثمة عوامل وقوانين أخذت تتحكم في عملية الدخول إليه، كما أن تطور تقنية الإشهار (الدعاية)، بما هي آليات لصناعة ذوق المستهلك، يُشكك في مصداقية شعار حرية الطالب وسيولة العرض.

ولتبديل الرؤية النظرية المغرقة في التجريد قصد مناغمتها مع مستجدات الواقع الاقتصادي، ظهرت نظريتان اثنتان تحاولان تحديد ماهية السوق على نحو يقارب بين دلالته ومَاصَدَقِهِ الواقعي، وهما :نظرية "المنافسة الاحتكارية"، ونظرية "الاحتكار العددي".

تقوم نظرية المنافسة الاحتكارية –التي تبلورت مع أبحاث الاقتصادي الأميركي إدوارد شامبرلين وخوان روبنسون على المزاوجة بين النظريتين السابقتين مع تعديل فيهما، حيث أخذت من نظرية المنافسة التامة فكرة وجود تنافس فعلي داخل السوق، وذلك بفعل وجود كثرة من العارضين (البائعين)، وهي كثرة تمنع أن ينفرد واحد منهم بالتأثير المطلق.

لكن هذا الموقف سيتم تعديله بالأخذ من النظرية الاحتكارية، من حيث أن هؤلاء العارضين رغم تعددهم، فهم مختلفون، لأن كلا منهم يختص بمنتوج، والمنتوج يختلف عن شبيهه اختلافا يجعل المنتج/العارض يتمتع باحتكار جزئي.

بمعنى أن المنتج في وضعية المنافسة الاحتكارية يحتل مكانة شبيهة بالتي يكون عليها في وضعية الاحتكار التام.

أما نظرية "الاحتكار العددي" فتقوم على شرط أساس وهو قلة عدد المنتجين. وهذا ما ظهر خلال القرن العشرين في الكثير من القطاعات الاقتصادية التي شهدت تحولات في اتجاه تشكيل وحدات إنتاجية تتكتل في ما بينها لصنع قدرة احتكارية تصعب منافستها.

ومن ناحية المقياس الاقتصادي ثمة حد أدنى للاحتكار العددي يتمثل في وجود وضعية "الاحتكار الثنائي".

إن هذه الوضعيات المتعددة التي نظّر لها الاقتصاد السياسي مقبلة اليوم على تحولات نوعية بفعل التغييرات البنيوية التي أخذت تمس اقتصادات العالم بفعل عولمة نمط "اقتصاد السوق". فما دلالة هذا النمط "الجديد"؟

"
النظرية النيوليبرالية تدفع باستعادة الليبرالية بمدلولها المطلق، فتتحدث عن استقلال السوق وكينونته على نحو ترفعه إلى أقنوم مقدس لا يجوز المساس به أو التدخل فيه
"

يذهب غالبية مؤرخي الاقتصاد السياسي المعاصرين إلى أن هذا المفهوم غامض وغير محدد الدلالة، خاصة أنه عندما يطرح في سياق الخطاب السياسي، عادة ما يطرح كنقد للاقتصادات الأخرى التي لا تنتظم به.

أي أن تعريفه يتم بالسلب، مما يؤكد تعدد دلالات المفهوم وصعوبة ضبط معناه.

كما يُلاحَظ أن مفهوم "اقتصاد السوق" هيمن اليوم إلى درجة أن أصبح البديل المصطلحي لمفهوم الرأسمالية، وبدل الحديث عن تمديد وتشميل النمط الرأسمالي على مستوى العالم، أصبح الكلام اليوم –كما يقول باتريك فيرلي Patrick Verly- عن "اقتصاد السوق" .

فهو من ثم تعبير يختزل معنى شاسعا دالا على نمط اقتصادي، وليس فقط إجراء تنظيميا يغير من بعض قوانين تفاعل الطلب والعرض.

والواقع أن هذا الاقتران بين اقتصاد السوق والاقتصاد الرأسمالي نجده موضوع بحث الكتابات التأسيسية المبكرة التي درست بنية الاقتصاد الرأسمالي مثل كتابات السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، وهي أبحاث مبكرة تدل على مركزية مفهوم السوق داخل النمط الرأسمالي، لكن وضعية المفهوم اليوم ترتفع إلى مستوى لا يخلو من جدة وجذرية أيضا.

فنمط اقتصاد السوق بدأ في طرحه داخل الكتابات الأولى المنظرة له كفكرة لتحرير حقل الاقتصاد من تدخل الدولة، ومعلوم أن هذا التدخل كان حاجة ملحة اضطر الاقتصاد الرأسمالي إلى الاستجابة إليها مع أزمة 1929.

وفي هذا السياق ستظهر النظرية الكينزية، كما سيقدم بولانيي Polanyi في أربعينيات القرن العشرين رؤية نقدية لآليات اشتغال السوق، يؤكد فيها أن تركه دون ضوابط وتدخل من قبل الدولة يؤدي إلى الفوضى.

لكن الاتجاه النيوليبرالي عند ظهوره كرد فعل نقدي ضد الكينزية رأى أن التدخل في السوق هو نفي لحرية الفعل الاقتصادي ومساس بطبيعة العملية الاقتصادية ذاتها.

ولذا نجد النظرية النيوليبرالية تدفع باستعادة الليبرالية بمدلولها المطلق، فتتحدث عن استقلال السوق وكينونته على نحو ترفعه إلى أقنوم مقدس لا يجوز المساس به أو التدخل فيه.

وبفعل التحولات الجيوسياسية الراهنة وما رافقها وأسس لها من تطور في تقنية الاتصال، ومع طرح فكرة العولمة، بوصفها انتزاعا للحواجز الجمركية أمام تناقل السلع المادية والثقافية، أصبح العالم بأكمله يُنظر إليه بوصفه سوقا مفتوحا.

فالخطاب النيوليبرالي في تحديده لماهية السوق يؤكد وجوب حرية تناقل السلع والرساميل، ولذا غالبا ما تتم استعادة عبارة فانسون دوغورناي الشهيرة للتعبير عن هذا المطلب الليبرالي، أي قوله "دعه يعمل، دعه يمر".

وأصل العبارة كما هي عند دوغورناي هو "دع الأشياء تمر، دع الناس تعمل"، والنصف الأول من عبارته الذي يعني به انتزاع الحواجز الجمركية من أمام تناقل الأشياء (السلع)، هو ما تمت استعادته عند الحديث عن العولمة للتعبير به عن مطلب تحويل العالم إلى سوق مفتوحة ومشرعة الأبواب.

لكن هنا لا بد من التحذير من التباس قد يقع فيه البعض، فيظن أن دوغورناي كان يدعو في القرن الثامن عشر إلى سوق دولية مفتوحة، وهو الالتباس الذي حذر منه موريس فلامون.

"
الصوت النيوليبرالي ليس صوت فكر يصدر عن ذات "إنسانية"، بل هو صوت الشراهة القاصدة إلى الربح المادي فقط، إنه صوت النقد/الفلوس
"

ذلك لأن مطلب دوغورناي كان فقط إزالة الحواجز الجمركية التي كانت تقسم بلده فرنسا، وعبارته إذاك كانت تختص بالتجارة الداخلية لا الخارجية، وبالتالي فإن الوضع الجديد الذي نعيشه راهنا مغاير تماما لما كان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي قد عالجه من قبل.

فنظريات السوق السابقة، على تعددها واختلافها، لم تعد قادرة على استيعاب التغيير البنيوي الذي أخذت إرهاصاته ومعالمه في البروز اليوم.

وبالنظر إلى ما هو راهن، وإلى الإرهاصات المستشرفة لما سيكون، يتأكد أن المشروع النيوليبرالي لا يهدف إلى تحرير الإنسان، بل تحرير الرأسمال الاقتصادي من كل قيد، بما فيه قيد القيم، وتحجيم سلطة الدولة لتتصرف القوة الاقتصادية كما تشاء.

ومن هنا فإن الرؤية النيوليبرالية ليس فيها أي شيء "نيو"، بل هي رؤية تسعى إلى استعادة البداية المتوحشة للنظام الرأسمالي مع لحظة الثورة الصناعية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، حين كان للرأسمال كل الحق في طحن المعادن والبشر على حد سواء من أجل نفخ حافظة النقود.

وإطلاق السوق يقترن في التنظير النيوليبرالي مع مقولات لا إنسانية من قبيل ما يشيع في الخطاب النيوليبرالي اليوم من أن "مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يطاق.

و"أن دولة الرفاه تهدد المستقبل، وأنها كانت مجرد تنازل من جانب الرأسمال إبان الحرب الباردة، وأن ذلك التنازل لم يعد له الآن ما يبرره بعد انتهاء هذه الحرب"، والقول "بأن شيئا من اللامساواة بات أمرا لا مناص منه".

وهي عبارات على فجاجتها وتوحشها لا تخجل الأدبيات النيوليبرالية من النطق بها وإعلانها، لكن لا ينبغي الاندهاش من إذاعة هؤلاء لهذا النوع من الخطاب الفج، فالصوت النيوليبرالي ليس صوت فكر يصدر عن ذات "إنسانية"، بل هو صوت الشراهة القاصدة إلى الربح المادي فقط، إنه صوت النقد/ الفلوس. وهل كانت للفلْسِ يوما قيمٌ حتى يحتشم أو يخجل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.