تجديد العلمانية الفرنسية بين الديني والسياسي

العلمانية الفرنسية

 

حسن السرات

 

دولة علمانية لمجتمع غير علماني
زعماء فرنسيون متدينون
الإسلام هو السبب

لفرنسا موعد على درجة كبيرة من الأهمية والاهتمام قبل نهاية هذا العام، إذ تستعد البنت الكبرى للكنيسة الكاثوليكية للاحتفال بمرور قرن من الزمان على قانون 1905 الذي فصل بين الكنيسة والدولة، الاحتفال الرسمي سيكون في شهر أيلول/سبتمبر 2005، إلا أن ذلك لم يمنع الاستعدادات الأولية طيلة هذا العام والأعوام القليلة التي سبقته.

 

نهاية قرن على القانون الشهير وبداية قرن جديد سجلت هذه المرة تجديدا في العلمانية روحا وجسدا، غير أن سر التجديد انبجس هذه المرة من انتقال الإسلام من دياره مهاجرا إلى الغرب دون أن يوجف على بلدانه بخيل ولا ركاب، فإذا بصحوته تنقل معها روح الحديث الشريف المبشر بالتجديد على رأس كل قرن، فيا مكر الزمان ويا سخرية القدر، من القيام بالقسط أن نؤكد أن الإسلام المنبعث ليس وحده وراء ذلك، ولكن صحوة الأديان وعودتها بعد استنفاد الحداثة لأغراضها وانتهاء مداها سبب آخر متعلق بالأول وله به صلة قوية.

 

لن أقف في هذا المقال أمام وجهات النظر المتعارضة للمفكرين والنظار ورجال الدهاء السياسي والشطار من القانون العتيق ومدى ضرورة التجديد أو لزوم الحذر وحمايته من الأصوليات الناهضة، فذلك أمر أرى أنه لا يعكس الحقيقة كلها، بقدر ما تعكسه المواقف اليومية والحياة الواقعية للعوام والخواص، خاصة السياسيين.

 

لذلك أحب أن أثير النظر والفكر في مواقف رجال السياسة من الدين، وهي المواقف التي تتراوح بين الإيمان بمكانة الدين وأهميته في قلب الإنسان وكينونته الوجودية، وبين استغلاله لأغراض انتخابية وسياسية لا تخفى على أحد، خاصة عندما يحين وقت الحملات الانتخابية فيصاب السياسيون بالهستيريا التي تكشف الغطاء عنهم في لحظة لا تتكرر إلا مرة كل عدة سنوات، لترفع اللثام عن ازدواج الشخصية لديهم فيظهرون ما تكن نفوسهم وما تخفي صدورهم.

 

دولة علمانية لمجتمع غير علماني

"
بعد أزيد من قرنين، تجد الدولة العلمانية نفسها وهي تحكم مجتمعا يتدين بتصاعد، وهذه مفارقة مقلقة جدا للدولة الفرنسية، أثارها أكثر من مفكر ومحلل سياسي ورجل دين
"

على مهل، وبتدرج لا يثير جلبة أو ضجيجا، أخذ الديني ينساب في السياسي في قلب العلمانية الفرنسية العتيدة، ومع مرور الأيام والسنوات يتصاعد إظهار الانتماء الديني لرجال السياسة في قصر الإليزيه في غفلة عن أعين الرقيب.

 

وبعد أزيد من قرنين من الزمان، تجد الدولة العلمانية نفسها وهي تحكم مجتمعا يتدين بتصاعد كما كشفت عن ذلك الاستطلاعات والدراسات المتعددة، وهذه مفارقة مقلقة جدا للدولة الفرنسية، أثارها أكثر من مفكر ومحلل سياسي ورجل دين، خاصة في المناقشات الدائرة اليوم حول منع العلامات الدينية من الظهور في المدارس والمؤسسات العمومية، فكيف يقبل ويعقل أن يكون المجتمع غير علماني، بل متدينا، في حين أن دولته علمانية بنص الدستور، أما أعضاء الحكومة فيقفون في منزلة بين المنزلتين: بين المجتمع المتدين والدولة غير المتدينة.

 

المطلع –على سبيل المثال وليس الاستقراء- على العدد 1635 من الأسبوعية الفرنسية "لوبوان" ليوم 16 يناير 2004 سوف يتوقف طويلا أمام غلافها الأول حيث الإشارة المثيرة إلى عودة الدين إلى قلب السياسة والسياسيين بالعاصمة الفرنسية باريس.

 

ومن المسلم به في الحداثة المعاصرة أن فرنسا هي رائدة فصل الدين عن السياسة منذ ثورتها الشهيرة عام 1789 حيث صاحت الأصوات مرددة بحماس وقوة: "اشنقوا آخر الملوك بأمعاء آخر قسيس"، وفي تلك الأجواء الحامية ظهرت الدولة العلمانية وتطورت ونمت حتى فصلت في الجو المشحون بين الدين والدولة جاعلة ما لله وما لقيصر لقيصر، وتوج ذلك في قانون عام 1905.

 

وصفت "لوبوان" عودة الديني إلى الحياة السياسية بالعودة المتوارية عن الأنظار منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه الوزير الأول رافاران تكوين فريقه الحكومي صباح الاثنين 17 يونيو/يونيو 2002، وعندما انطلقت عملية تكوين المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية أمسك كل من الرئيس والوزير الأول ووزير الداخلية بالقضية إمساكا قويا، وسعى كل واحد إلى تسجيل أكبر عدد من النقط في خانته استعدادا لأيام الانتخابات القادمة، وأصبح المسجد الأعظم لباريس قبلة للحريصين على التقاط أصوات "المواطنين المسلمين"، حسب تعبير نيكولا ساركوزي الذي تقلب في مواقع سياسية عدة، مع رئاسة وزارة الداخلية مرتين متفرقتين.

 

ففي يوم 15 نوفمبر/تشرين الأول 2003 نظم "مجلس الديمقراطيين المسلمين" مأدبة "إفطار مناقشة" في قلب المسجد الباريسي الأعظم حول "دور ومكانة المواطنين من الديانة المسلمة في المشروع السياسي لليسار" بحضور ممثلين عن أحزاب اليمين واليسار معا، على الرغم من استغراب الأصوات اليسارية من ذلك.

 

غير أن الرئيس نفسه سبق له أن أعطى المثال والقدوة خلال حملته الانتخابية، فقبل أيام قليلة من الدور الأول، ويوم 9 أبريل/نيسان 2002، استقبل الرئيس بالزغاريد في المسجد نفسه، وهو الحدث الذي لم يتكرر منذ زيارة غاستون دوميرغ عام 1926، وتحت المئذنة المغاربية الأنيقة دعا جاك شيراك إلى "إسلام منفتح وسلمي، إسلام الرحمة والأخوة".

 

زعماء فرنسيون متدينون

"
الالتزام الديني لرؤساء فرنسا ووزرائها وسياسييها ليس وليد اليوم، فقد سبق للزعيم الشهير ديغول أن عبر عن إيمانه العميق بالله واليوم الآخر، وكان لا يتغيب عن القداس الديني الأسبوعي
"

ومع أن رئيس فرنسا علماني في حياته العامة، إلا أنه لا يخفي التزامه الديني الكاثوليكي في حياته الخاصة، إذ يستغل أوقات عطلته في "بريغانسون" لشهود القداس بـ"بورم لي ميموزا"، أما وزيره الأول السابق جان بيير رافاران فلا يتردد في رفض دولة ملحدة لا دين لها ولا في الإفصاح عن تدينه لأسبوعية "لوبوان نفسها في مارس/آذار 2003: "أنا مسيحي، غير أنني، بغض النظر عن إيمان كل فرد، أظن أن في كيان الإنسان جزءا مقدسا".

 

ويوم 3 مايو/أيار 2003، أمام الجمع العام لمجلس الديانة الإسلامية وضع الرجل النقط على الحروف مؤكدا أنه "يلاحظ حاليا عودة الديني، وأقول لكم بكل صراحة، ولقد قال لنا أندريه مالرو من قبل إن القرن الواحد والعشرين سوف يكون دينيا روحانيا.. الطاقة الحقيقية اليوم هي القيم الروحية والإنسانية.. وإني أعتقد أن مستقبل السياسي أن يحرك هذه الطاقة بالحرص على الجمع والتوفيق أكثر من الحرص على التفريق"، وضمن الفريق الحكومي لرافاران يوجد عدد من الأعضاء المتحمسين دينيا.

 

أما نيكولا ساركوزي، فقد نشر كتابا عن لقاءاته مع الأب فيليب فيردان والفيلسوف الفرنسي، بعنوان "الجمهورية والديانات والأمل" حيث عبر بالمكشوف عن التزامه الديني ونظرته لإصلاح العلمانية الفرنسية (انظر تقريرا عنه في الجزيرة نت- المعرفة). ومساء يوم كل أحد يفتح رجل الدين الدومينيكي بوابة الكنيسة ليستقبل الوزير وينصت لاعترافاته الروحية. ولا يتردد ساركوزي في التعبير عن إيمانه المسيحي ورغبته في الصلاة أمام منظر طبيعي خلاب.

 

الالتزام الديني لرؤساء فرنسا ووزرائها وسياسييها ليس وليد اليوم، فقد سبق للزعيم الشهير ديغول أن عبر عن إيمانه العميق بالله واليوم الآخر، وكان لا يتغيب عن القداس الديني الأسبوعي في كنيسة كولومبي كل يوم أحد، حسب شهادات ولده فيليب ديغول السيناتور بالتجمع من أجل الجمهورية وصاحب كتاب "ديغول، أبي".

 

وكذلك كان الرئيسان الديغوليان الآخران جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان، بل حتى الرئيس الاشتراكي الأسبق فرانسوا ميتيران اعترف بعد طول مواربة بإيمانه بالله واليوم الآخر، وعندما سأله برنار بيفو هل يريد من الله أن يقول له شيئا ما؟ فأجاب: "سيقول لي الله: أخيرا عرفت.. وأظن أنه سوف يضيف مرحبا بك"، بل إنه أوصى أن تكون جنازته دينية في كاتدرائية "نوتردام" مثل الجنرال ديغول وجورج بومبيدو.

 

ولا جدال في أن الحالة النفسية للسياسي في نظام علماني أقرب ما تكون إلى الشيزوفرينيا إذ يجد رجل السياسة قلقا ممزقا، ويجبر نفسه على الانفصام والعيش بشخصيتين مزدوجتين: شخصية السياسي الملزم دستوريا وقانونيا بإبعاد انتمائه الديني واقتناعه العقائدي إلى منطقة الظل والسواد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وشخصية الإنسان العادي المؤمن المنسجم في حياته الشخصية الخصوصية، ومن الصعب في ظل العلمانية السياسية الوصول إلى حل يضع النفس داخل انسجامها ويوحد انشطارها ويضع حدا لتمزقها، غير أن الأوضاع آخذة في التغير شيئا فشيئا.

 

الإسلام هو السبب

"
اللقاء التاريخي المدهش بين الإسلام والعلمانية في بلدان الغرب، كما في بلدان الشرق، فرصة تستحق المراقبة الدقيقة للتحولات الظاهرة والخفية وللتلاقح الحادث والمبشر بغد مختلف
"

فهل للإسلام دور في هذا التغير، وهل تعتبر صحوته الحالية من أقوى الدوافع لإظهار الانتماء الديني لدى الزعماء السياسيين الفرنسيين؟

 

من الأفضل التريث في الإجابة، إذ سنكتفي بإجابة أهل باريس الأدرى بشعابها ومنهم على سبيل المثال -لا الحصر- كاتبتان معروفتان ومتناقضتان لكنهما متفقتان حول هذه النقطة- وهما ميشيل تريبالا صاحبة كتاب "الإسلام والجمهورية" وجوسلين سيزاري صاحبة كتاب "الإسلام في اختبار الغرب" (انظر تقريرا عنه أيضا في الجزيرة نت)، حيث قالت الأولى وهي معروفة بتطرفها اللاديني ورفض الوجود والتمثيل الإسلامي: "إن التدفق المفاجئ للإسلام في الحياة العامة كان هو السبب في "وخزة تذكيرية مهمة" أحدثها النشاط الإسلامي فتذكر الفرنسيون بها هويتهم المسيحية".

 

وقالت الثانية وهي معروفة بموضوعية علمية معترف لها بها، وبإيمانها بعلمانية راعية للدين غير محاربة له: "من المثير أن نلاحظ أنه في كل أوروبا، أعاد مجيء الإسلام فتح ملف اعتبر مغلقا منتهيا من أمره، وهو ملف العلاقة بين الدولة والديانات، فتنوع أوضاع "الأوروإسلام" يعكس الخصوصية السياسية والثقافية لكل بلد أوروبي أكثر مما يعكس الاستثناء المدعى للإسلام".

 

وهذا اللقاء التاريخي المدهش بين الإسلام والعلمانية في بلدان الغرب، كما في بلدان الشرق، فرصة تستحق المراقبة الدقيقة للتحولات الظاهرة والخفية وللتلاقح الحادث والمبشر بغد مختلف، شريطة أن تهدأ النفوس وتبرأ من خلفياتها الماضية والحالية، وأن تبرأ ساحة الإسلام من المهووسين والمدسوسين.

 

في ختام كتابه المهم والموثق "علمانيتنا العمومية"، ذكر الباحث الفرنسي والمؤرخ "إيميل بولا" أن المجتمع العلماني "لا يكف عن تعلم العيش بخلافاته العامة، بألم ومشقة، دون اللجوء إلى فكر التسلط أو سيف الحرب الأهلية، لكن العلمانية تطلب من أهلها التحلي بشجاعة المناقشة وتذوق التبادل واللقاء بين الذين تفرق بينهم تواريخهم وثقافاتهم وبيئاتهم، فعلمانيتنا –يقول الكاتب- ولدت وسط الألم وما تزال تحتفظ بآثاره، ونسيان ذلك ينذر بضياع الفهم، في حين أن الذكرى والذاكرة تساعد على لملمة الجروح وتنفيس الألم".

 

ومن يعرف موجز تاريخ الدين الإسلامي لن يخطئ إدراكه أنه لا يقل جروحا وآلاما، ولا يقل حرصا على الحرية والأخوة والمساواة والعدل والقيام بالقسط وحفظ العقائد والأفكار والحياة والعقول والنفوس والأموال، إن لم يكن أكثر حرصا وضمانا لها من غيره، وأنه لم يخصص ذلك للعرب أو للأمازيغ أو الأكراد والفارسيين، بل لكل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وقد دار الزمان دورة كبيرة ليدلي الإسلام بدلوه في حل مشاكل العالم، ألا يقول المراقبون إن المشاكل أصبحت عالمية ولا بد من حلول عالمية؟


ــــــــــــــــــ
كاتب مغربي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.