آسيا الوسطى.. استدعاء الصوفية لمواجهة الأصولية

آسيا الوسطى استدعاء الصوفية لمواجهة الأصولية


عاطف عبد الحميد

مفهوم الأصولية في آسيا الوسطى
استدعاء الصوفية
مخاطر صدام النقيضين

في وقت يموج فيه الشرق الأوسط بتأويل "الاعتدال" الإسلامي الذي تقصده واشنطن في حوارها المقترح مع الحركات الإسلامية، تجري بشكل مواز محاولات للبحث في آسيا الوسطى عن إسلاميين معتدلين لمواجهة الحركات الموسومة بالأصولية، ولا تجري هذه المحاولات من قبل روسيا وحكومات دول المنطقة هذه المرة، بل من قبل واشنطن أيضا التي لديها قواعد عسكرية ومصالح نفطية وإستراتيجية لا تقل أهمية عما لها في الشرق الأوسط.


مفهوم الأصولية في آسيا الوسطى
على خلاف دلالة كلمة "الأصول" في اللغة العربية كأصول الدين وأصول الفقه، إذا استخدمنا مصطلح الأصولية لوصف جماعات أو حركات إسلامية، فنحن -بوعي أو من دون وعي- لا نفعل أكثر من ترجمة المصطلح عن دلالاته الغربية التي ارتبطت بحركة احتجاج مسيحية ذات تفسير حرفي للإنجيل.

وحينما استخدمها الباحثون الغربيون على الحالة الإسلامية كانوا يقصدون حركات أو جماعات إسلامية تطالب بإقامة حكم إسلامي تنفيذا لما جاء في القرآن الكريم من آيات عديدة تحذر من لم يحكم بما أنزل الله ومن رضي بحكم الطاغوت.

وقد ساءت سمعة مصطلح الأصولية حينما استخدم عمدا في الإعلام الغربي مرادفا لمصطلح الإرهاب، وهى حالة لا تختلف كثيرا عن التعاطي الروسي الذي آثر اختصار الطريق واحتفظ منذ البداية بمصطلحين فقط هما الوهابية والعصابات الإرهابية.

وقد اعتبر البعض مصطلح التطرف مقابلا إسلاميا لمصطلح الأصولية المسيحي، وإن كان ذلك ليس موفقا في كل الحالات. وخطورة مصطلح الأصولية أنه فضفاض لدرجة لا يمكن معها إخراج أي فكر إسلامي له مشروع سياسي من حبائله.

"
يُقصد بمصطلح "الأصولية في آسيا الوسطى" ثلاث حركات إسلامية هي حزب النهضة الإسلامي والحركة الإسلامية الأوزبكية وحزب التحرير الإسلامي
"

وفي محاولة لتدقيق المصطلح اختار الباحث الباكستاني أحمد رشيد عنوانا فرعيا لكتابه المسمى "الجهاد" حينما أضاف "الإسلام المسلح في آسيا الوسطى" قاصدا ثلاث حركات إسلامية، هي حزب النهضة الإسلامي والحركة الإسلامية الأوزبكية وحزب التحرير الإسلامي. وحتى هنا لا يعتبر مصطلح رشيد مصطلحا مانعا فليست كل الحركات الثلاث تحمل السلاح.

ولمعرفة من المقصودون بالأصولية في آسيا الوسطى لا بد من مراجعة المراحل التي مرت بها الحالة الإسلامية في المنطقة وهي:


– علمنة الإسلام بتجريده من أهم أعمدته التي يتميز بها، وذلك على مدى 60 سنة منذ انتهاء ثورة البسماتشي عام 1926 وحتى إطلاق سياسة الانفتاح الغورباتشوفية بعد العام 1985.

وقد شمل تجريد الإسلام من خصوصيته تعطيل الأحكام الأساسية كالصيام، والصلاة الجماعية، والحيلولة دون أداء فريضة الحج، وغلق المدارس الدينية، وتجريم تعليم القرآن، وإفساد العقول في المدارس والجامعات عبر تحقير مفاهيم الدين ورميه بالتعطش للدماء وخواء الشعارات. فضلا عن استخدام رموز من رجال الدين في مناصب الإفتاء تفاوت دورهم بين تشريع تعطيل الأحكام إلى الوقوع في شرك اتهام العامة لهم بالتربح من الدين وتخدير الناس.

الإحياء الإسلامي، ويؤرخ مع سياسة الانفتاح على الأديان (1985-1990) حين أعيد افتتاح مئات المساجد التي أغلقت وبنيت مئات أخرى جديدة، ومُنح الآلاف فرصا لأداء فريضة الحج، وانتشرت مئات المدارس الدينية مع وصول تبرعات من الدول العربية الخليجية سواء من قبل مؤسسات رسمية أو من قبل تبرعات فردية -عبر اتصالات قانونية مع حكومات هذه الدول- وهو ما كان له الفضل في نقل مصطلح الإحياء من مستواه الفكري إلى واقع ملموس.

التخوف من الإحياء، وتبدأ هذه المرحلة مع مقدمات الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي عام 1990، ويتفاوت عمرها بين دولة وأخرى من دول المنطقة الخمس (طاجيكستان – تركمانستان – أوزبكستان – كزاخستان و قرغيزيا)، إذ تنتهي سريعا في طاجيكستان عند العام 1992 مع اشتعال الحرب الأهلية، وتمتد في بقية دول المنطقة إلى منتصف التسعينيات.

ولعل أبرز محفزات الخوف من الإحياء الإسلامي في تلك الفترة تشكيل حزب النهضة الإسلامي. وكانت المبادئ الأولى للحزب تعايشية، ولم تزد عن تنظيم مظاهرات تطالب ببناء مزيد من المساجد وتحريم بيع لحم الخنزير والخمور، بل وبمطالب قومية كإعادة تسمية الشوارع الطاجيكية بأسماء وطنية بدلا من الأسماء الروسية، غير أنه سرعان ما صنف الحزب كحركة تسعى إلى القفز إلى السلطة عبر الشعارات الإسلامية.

الصدام بين حركات الإحياء والسلطات، وهي مرحلة بدأت بمناوشات رمزية، كتلك الحملة التي شنها قادة حزب النهضة الإسلامي في أوزبكستان عام 1991 ضد مفتى البلاد متهمين إياه ببيع نسخ القرآن الكريم التي تبرعت بها إحدى الدول الخليجية.

ثم أدى اعتراض حزب النهضة وحركات المعارضة غير الإسلامية على عدم شرعية النظام الرئاسي في البلاد إلى إشعال فتيل الحرب الأهلية التي استمرت بين 1992 و1997، وسقط بعد ستة أشهر فقط من نشوبها 40 ألف قتيل، جراء مذابح اتهم بارتكابها كل من السلطات الحكومية والجناح العسكري لحزب النهضة ضمن مزيج من التناحر القبلي والعرقي والديني والسياسي.

لم تكد الحرب في طاجيكستان تضع أوزارها حتى أعلن في أوزبكستان تشكيل الحركة الإسلامية الأوزبكية من قادة شاركوا في الحرب الطاجيكية وتنقلوا إقليميا عبر أفغانستان وباكستان وانتهى بهم الأمر إلى حالة من الثأر مع حكم الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف متهمين إياه بارتكاب فظائع في السجون تجاه المنتمين للحركة.

ومن جانب الحكومة الأوزبكية لم تكن القضية تحتاج إلى تحديد مصطلحات، فقد وجهت إلى الحركة الإسلامية الأوزبكية تهما إرهابية مثل قطع رؤوس موظفين في الدولة وتعليقها على بوابات بيوتهم، وخطف الأجانب وتقاضي ملايين الدولارات مقابل إطلاقهم، والاتجار في المخدرات، وتنفيذ محاولات لاغتيال الرئيس كريموف.

فى تلك الأثناء ظهر ثالث الحركات المنعوتة بالأصولية في آسيا الوسطى وهو حزب التحرير الإسلامي الذي ينادي بإقامة دولة الخلافة الإسلامية في وادي فرغانة كنواة لاستعادة دولة الخلافة الراشدة.

ورغم أن لائحة الإرهاب الأميركية (تلك التي تشمل الحركة الإسلامية الأوزبكية) لم تدرج حزب التحرير، فإن موقف الحزب السلبي تجاه العديد من المسلمات العلمانية، كاعتباره الديمقراطية نظام كفر، وموقفه من أصحاب الديانات الأخرى في التمثيل السياسي لدولة الخلافة التي ينشدها يجعله محل تحفظ وترقب من قبل الدول الغربية وحكومات دول آسيا الوسطى وروسيا والصين في آن.

ورغم وجود اختلافات منهجية بين الحزب وغيره من الحركات الإسلامية، نلمس خلطا كبيرا عند المحللين الغربيين والروس الذين يرون الحزب شبيها بحركة الإخوان المسلمين في المشرق العربي، والجماعة الإسلامية في باكستان، وميراث حركة طالبان في أفغانستان، والحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية.

ولما كان حزب التحرير يرى أن كل من يحكم بغير الإسلام إما فاسق وإما كافر، ولما كان الحزب يعتبر أن المسلمين –لسكوتهم عن تطبيق أحكام الكفر عليهم وعدم وجود بيعة في أعناقهم- آثمون جميعا عند الله، ويستحقون عقابه، يمكننا أن نتوقع المواقف التي تتخذها حكومات دول آسيا الوسطى تجاه الحزب والمنتمين إليه.

هكذا ستبقى الحركات الإسلامية الثلاث الموجودة في المنطقة والموسومة بالأصولية مختبئة تحت الأرض ليبقى السؤال مطروحا: من ذا الذي يمكنه ملء الفراغ؟ من ذا الذي يعرض حقيقة الإسلام المتسامحة ويحيي خطاب محبته المفقود؟!


"
دراسات أميركية تدعو إلى أن تحل مقولات صوفية مثل "قلبي دير رهبان وبيت أوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن" محل مقولات مثل "دولة الكفر وحكم الطاغوت ورشد الخلافة"
"

استدعاء الصوفية
في ظل هذا الوضع المتوتر والمشحون بتهم التطرف والإرهاب، وفى ظل قناعة متنامية بأن العلمانية الغربية لن تنجح فيما فشلت فيه العلمانية الشيوعية تجاه الدين الإسلامي، يتمثل البديل الآن في إفساح الطريق أمام تيار ديني له حضور كبير في المنطقة وله مريدون يقدرون بعدة ملايين.

تعتبر منطقة آسيا الوسطى أحد المراكز الرئيسية لانتشار الصوفية في العالم الإسلامي، وقد نشأت أهم الطرق الصوفية فيها بين القرنين الـ12 والـ14 الميلاديين. وأهم طرقها النقشبندية في أوزبكستان والكبراوية في تركمنستان والياسوية في جنوبي كزاخستان وتركمنستان، والقادرية ومركزها وادي فرغانة.

وقد لعب بعض هذه الطرق –كالطريقة النقشبندية- دورا مشرقا في تاريخ الدفاع عن المنطقة ضد الاستعمار القيصري والسوفياتي، كما قاومت القمع الصيني لمسلمي تركستان الشرقية، فضلا عن أنها لعبت دورا لا يقل أهمية في توصيل تعاليم الدين الإسلامي إلى مناطق نائية لم تصلها سفارات الملوك ولا فتوحات السلاطين.

ومع هذا لم يكن للطرق الصوفية حضور في السياسة الداخلية، ولم تقدم مشروعا للوصول إلى السلطة، كما لم تطالب بمشاركة حزبية أو تكتلات سياسية. والاستثناء في المشاركة السياسية الداخلية نجده في دور قام به أفراد متصوفون أكثر مما قامت به جماعات صوفية كحركة سياسية.

وفي مارس/ آذار من العام الماضي أخرج مركز نيكسون للدراسات في العاصمة الأميركية نتائج ندوة بحثية ناقش فيها كيفية إسهام الصوفية في تحديث ودمقرطة العالم الإسلامي، وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من الصوفية في آسيا الوسطى.

وتدعو مثل هذه الدراسات إلى إشعال معركة تسمى معركة الأفكار، تحل فيها مقولات مثل "قلبي دير رهبان وبيت أوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن" المنسوبة لكبار فلاسفة الصوفية محل مقولات مثل "دولة الكفر، وحكم الطاغوت، ورشد الخلافة" المنسوبة للحركات الموصوفة بالأصولية.

وتوصي مثل هذه الدراسات بألا تقوم الولايات المتحدة بتدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لدعم الصوفية بنفسها، بل تمول في ذلك السلطات المحلية، على أن يتم بشكل مواز دعم التعليم العلماني في هذه المنطقة جنبا إلى جنب مع تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية والعناية بالمخطوطات والتراث الثقافي الصوفي.

والهدف أن تستحضر آسيا الوسطى موروثها الصوفي بتفسيراته المحلية للإسلام، ويقصد بالتفسير المحلي ألا تترك المنطقة حقل تجارب لأفكار مستوردة من الشرق الأوسط، كقضية فلسطين والصراع مع اليهود والصليبيين، وهى لديهم قضايا مفتعلة لم تعرفها المنطقة قبل تسلل الوهابيين والإخوان المسلمين.

ومن المتوقع أن تقوم إستراتيجية الدعم في البداية على إغراق الأسواق بمؤلفات في الصوفية (كتلك التي شهدتها روسيا في منتصف التسعينيات سعيا إلى مقاومة الفكر الموصوف بالأصولي) والسماح بإقامة مراكز قانونية لممارسة الصوفية بدلا من اجتماع أنصارها في مساكن خاصة للشيوخ والمريدين.

والخطوة الأكثر أهمية هي تعيين أئمة المساجد وخطبائها وتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي "أفسدها" الأصوليون "قليلو البضاعة الفقهية".


"
الخلط المتعمد في المفاهيم قد يقدم المبررات للبعض في المنطقة للسعي إلى "تخليص الدين من الشوائب"، ومن ثم فإن فتنة طائفية وحربا أهلية قد لا تكون بعيدة عن المنطقة
"

مخاطر صدام النقيضين
نحن إذن أمام سيناريو يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفياتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطلح على تسميته "بإسلام السلطة Official Islam في مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية تعيش تحت الأرض سميت في ذلك العهد بالإسلام السري أو الموازي Parallel Islam.

وإضافة إلى ما تقوم به مراكز بحثية كمركز نيكسون، فإن بعض البعثات الغربية في آسيا الوسطى تتحدث بإعجاب عما وجدته من تحمل الآخر لدى "الشمانية الإسلامية"، والشمانية الإسلامية مصطلح يحاول الإيحاء بأن هناك تزاوجا بين الشمانية -وهي ديانة سابقة للإسلام تؤله ظواهر الطبيعة– وبعض فرق الصوفية التي تبدي تسامحا تجاه الأعراف والتقاليد الموروثة بين سكان المنطقة.

ومثل هذا الخلط المتعمد في المفاهيم والاحتفاء به أو الإعلان عنه قد يقدم المبررات للبعض في المنطقة للسعي إلى "تخليص الدين من الشوائب". ومن ثم فإن فتنة طائفية وحربا أهلية قد لا تكون بعيدة عن المنطقة تفقد بموجبها الطرق الصوفية المكانة التاريخية والثقافية المميزة التي اكتسبتها، بل ومن الجائز أن تجر إلى صدام مسلح.

وبعد أن خفت القيود نسبيا عن الصوفية في بعض الدول الخليجية المتشددة، صارت نقاشات الغرف المغلقة (التي تفضحها الآن الأسماء المستعارة في منتديات الإنترنت) تقارع في سجال مكشوف، وأصبحنا نرى تخوفا من بعض "الأصوليين" تجاه فرق الصوفية التي يعتبرونها "منبع فساد الدين"، وهكذا جاء رد بعض الصوفية بأن أصحاب الفكر المتشدد ليسوا أكثر من "صانعي أصنام التطرف".

ولذلك يبدو أن وضع "البديل الصوفي" في مواجهة "الإسلام المسلح" أو فلنقل (اللعب بالنيران) لن يحل مشكلات آسيا الوسطى، فجمرة الانفجار الداخلي في هذه المنطقة متقدة ولا يعوزها سوى النفخ فيها، والطريق الأقصر لإطفائها هو إتاحة الفرصة لأن يصل الجميع إلى التمثيل السياسي عبر فضيلة الديمقراطية. عندها سيكون الكثيرون مستعدين للحديث عن التسامح والعفو بديلا عن الثأر والاغتيال.
________________
كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.